حيثما كان العدل فثم شرع الله

حيثما كان العدل فثم شرع الله | مرابط

من القيم الخلقية المتفق على حسنها: قيمة العدل، فالعدل مما اتفقت على فضله الشرائع والفطر والعقول، وما من أمة أو أهل ملة إلا وهم يرون للعدل مقامه، وإنما الاختلاف والارتباك في تحرير مضامين العدل الداخلية.
 
فالعقل وإن أمكن أن يُدرك كثيرًا من مقامات العدل والظلم ويحسن في التمييز بينها، فقد يقع له الاشتباه في كثير من المواطن أيضًا، ومن تمام رحمة الله تعالى بنا أن أنزل إلينا الوحي للكشف والتمييز في مقامات الاشتباه.
 

الانفكاك بين الشريعة والعدل؟

ومكمن الفساد المتوهم من مقولة (حيثما كان العدل أو المصلحة فثم شرع الله) قائم على دعوى الانفكاك بين إدراك أحكام الشريعة التفصيلية وقيمة العدل أو المصلحة، بحيث يتوهم بعض الناس أن العدل قد يكون مخالفًا لحكم شرعي فيجب أن يؤخذ بالعدل وترد الشريعة، أو يتوهم أن العدل هو الذي يدلنا على حكم الشريعة في المسألة بعيدًا عن النظر في حكم الشريعة في المسألة، أو لا يقبل الشخص من الشريعة إلا ما يراه عدلًا.
 
والحق أن: (الكتاب والعدل متلازمان والكتاب هو المبين للشرع؛ فالشرع هو العدل، والعدل هو الشرع، ومن حكم بالعدل فقد حكم بالشرع، ولكن كثيرًا من الناس ينسبون ما يقولونه إلى الشرع وليس من الشرع؛ بل يقولون ذلك إما جهلًا وإما غلطًا وإما عمدًا وافتراءً، وهذا هو الشرع المبدل الذي يستحق أصحابه العقوبة؛ ليس هو الشرع المنزل الذي جاء به جبريل من عند الله إلى خاتم المرسلين فإن هذا الشرع المنزل كله عدل ليس فيه ظلم ولا جهل قال تعالى: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} وقال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} فالذي أنزل الله هو القسط والقسط هو الذي أنزل الله وقال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} فالذي أراه الله في كتابه هو العدل).
 

طبيعة الالتزام بقيمة العدل


والقول: (بأنه حيثما كان العدل فثم شرع الله) بتوهم الانفكاك بين الشرع والعدل يعبر عن إشكالية عميقة في تصور طبيعة الالتزام المطلوب بقيمة العدل، إذ الالتزام بهذه القيمة له مستويان:
 
مستوى إجمالي: يتمثل في إعلاء شأن القيمة نفسها دون تناول لتفاصيل العدل الداخلية، وهو مقام يتفق فيه الكل، المنتسب للإسلام والمعظم له، والمخالف للإسلام أيضًا، فليست إشكالية من يرفض مرجعية الشريعة مع تعظيم قيمة العدل من حيث هي، وإنما مشكلتهم في بعض ما تقرره الشريعة من تفاصيل العدل.

مستوى تفصيلي: يتمثل في تحققات العدل التفصيلية، وهو الذي يبرز الفرق بين المسلم الملتزم بالأحكام التشريعية، المعتقد بأن الالتزام بها هو ما يفضي به إلى تحقيق العدل، والمخالف الذي يعتقد أن العدل أمر منفك عن التفصيلات التشريعية، بل قد يعتقد أن في بعض تلك التفصيلات ما هو ظلم.  
 

الشريعة الإسلامية والعدل

فالمسلم مأمور شرعًا أن يضع الشريعة نصب عينيه، ويستفرغ جهده وطاقته في التوصل إلى معرفة حكم الله تعالى في المسألة التي بين يديه، مع اعتقاده بأن الحكم متى ثبت فإن العدل والمصلحة هو في الالتزام به، فالشريعة أمارة على العدل وعلامة عليه، والعدل المُحَقَّق أمارة على الشريعة دالة عليها، إذ هما لا يتناقضان، ومتى وقع توهم المناقضة، فإما أن يكون الأمر عائدًا إلى كون العدل متوهمًا، وأن العدل فيما حققت الشريعة حكمه، أو أن الناظر غلط في تصوره للشريعة فوقع منه الغلط في موقفه من العدل.
 
وليس للمسلم أن يطرح حكم الشريعة طلبًا للعدل استقلالًا عنها، فإن هذا فاسد من جهة الدين والذي يُلزم المسلم بالاحتكام للشرع، وليكن على ثقة أنه متى التزم حكم الشريعة فسيؤول به الأمر إلى تحقيق العدل، وأنه متى خالفها فسيقع في مناقضة العدل، إذ اطراح الحكم والحالة هذه اطراح للعدل أيضًا.
 
وبناءً عليه، فحيثما كان العدل فثم شرع الله هي مقولة صحيحة إذا كانت الصورة التي يتحدث عنها هي من العدل الحق الظاهر، فما دام ثم عدل ظاهر قطعي بيّن فلا شك أن الشريعة قد جاءت به ولا تخالف مثله، وأما إذا جيء بهذه العبارة لنقض بعض أحكام الشريعة بدعوى أنها مخالفة للعدل فهذه مقولة فاسدة لم تتفطن لإشكالية أن ما يسميه عدلًا هو توهم ظنه عدلًا بسبب تأثره بعوامل أخرى.

 

ضغط الثقافة الليبرالية

فمن يتأثر مثلًا بضغط الثقافة الليبرالية المعاصرة في المساواة سيرى أن العدل في المساواة بين الذكر والأنثى في الميراث، والمساواة بين المسلم والكافر في كل شيء، ويرى أن العدل في السماح لكل أحد في أن يفعل ما يشاء مهما كان مخالفًا للشرع ما دام أنه لم يضر به أحدًا، وبه ينكشف أن مفهوم العدل قد تأثر بمرجعيات ثقافية مختلفة، فكيف يمكن أن يقول عاقل إن هذا من شرع الله، وهو يناقض شرع الله يقينًا!
 
فالعدل إذن قيمة عليا يتفق الجميع عليها، غير أن محل الخلاف يكمن في التفاصيل، وهو ما يؤدي إلى تفاوت أحكام الناس على وقائع كثيرة بإعطائها وصف العدل أو سلبها إياه بناءً على تصوراتهم ومرجعياتهم، فمن تبنى الحرية الاقتصادية مرجعية حاكمة فالعدل عنده إنما يتمثل في كفالة حرية الأسواق والأفراد، بينما هي في الاشتراكية في تحقيق المساواة بين الناس حتى لا يقع بينهم تفاضل بسبب أحوالهم المالية، وهذا الاختلاف مبني على اختلاف المرجعية الحاكمة لكل منهما والتي تؤثر بطبيعة الحال في الحكم على الوقائع.
 
إذا عرف المسلم هذا أدرك محل الإشكال المستتر في مثل هذه المقولات، حيث يتأثر بعض المسلمين بمفاهيم العدل التفصيلية لبعض الاتجاهات الفكرية المخالفة ليحكم بها على الإسلام نفسه، فينفي أحكامًا شرعية محكمة بدعوى مخالفتها للعدل، فهو في الحقيقة لم يرجع للإسلام نفسه في فهم العدل وتفصيلاته، بل أخضع الإسلام لفهم غيره، فأثبت ونفى بحسب ما يقتضيه هذا الفهم المغاير.

 


 

المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص195
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#زخرف-القول #العدل
اقرأ أيضا
تأصيل موجز حول إشكالية المعازف | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين

تأصيل موجز حول إشكالية المعازف


بين يدي القارئ مجموعة من التغريدات لإبراهيم السكران حول موضوع المعازف حاول فيها تأصيل المسألة بشكل موجز وسريع وأشار إلى عدد من المصادر لمن أراد الاستزادة في هذه المسألة ثم تم جمع هذه التغريدات لما فيها من فائدة على وجازتها واختصارها

بقلم: إبراهيم السكران
2498
مقارنة الإسلام بالجاهلية | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

مقارنة الإسلام بالجاهلية


إن من أهم ما يبرز محاسن الإسلام ويرسخها في النفس: النظر إلى أحوال الجاهلية -سواء ما كان منها متقدما على الإسلام أو متأخرا عن بدايته- ورؤية الجانب الإصلاحي العظيم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في مقابل ما كان منتشرا ومتجذرا في نفوس العرب من الناحية الاعتقادية والسلوكية ومن ناحية العادات والأعراف والتقاليد

بقلم: أحمد يوسف السيد
829
عداء اليهود للمسلمين الجزء الأول | مرابط
تفريغات

عداء اليهود للمسلمين الجزء الأول


تمكن المسلمون من فتح الأندلس ثم خرجوا منها وليس ذلك بسبب قوة أعدائهم وإنما بتفرق كلمتهم وتجزئهم وانقسامهم فأزال الله سبحانه وتعالى دولتهم وخرجوا من تلك الديار بعد أن عمروها مئات السنين واليوم في وسط بلاد المسلمين تقوم دولة لليهود اغتصبت جزءا من ديار المسلمين في أول الأمر ثم زادت عليه فأخذت فلسطين كلها وأخذت أجزاء أخرى من بلاد المسلمين وهي تطمع غدا في احتلال الأردن وسوريا ومصر والعراق وتصل إلى منابع النفط وإلى المدينة المنورة وإلى خيبر حيث كان يقيم آباؤهم وأجدادهم في الماضي

بقلم: عمر الأشقر
1372
خطورة اللسان | مرابط
تفريغات اقتباسات وقطوف

خطورة اللسان


وبعض الناس وهم يضحكون في مجالسهم يريدون النكات لكي يضحكون وقد تمس رسول الله أو الصلاة وقد تمس الإمام الذي يقرأ القرآن وتضحك الناس من أمر من أمور الدين هذا خطر كبير يقع فيه كثير من المسلمين الذين يرجون خيرا ويرجون الله سبحانه وتعالى ولا يلقون للكلمة بالا

بقلم: عمر الأشقر
485
شبهات الحداثيين العرب حول تدوين السنة النبوية والرد عليها ج1 | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين

شبهات الحداثيين العرب حول تدوين السنة النبوية والرد عليها ج1


هذه دراسة نقدية تبرز أهم الشبهات التي أثارها الحداثيون العرب حول تدوين السنة النبوية وما يتعلق به ولقد حاولت ذكر أبرز الشبهات المتداولة حديثا بين أوساط الحداثيين والعقلانيين وبينت بطلان هذه الشبهات معتمدا في ذلك على جملة من الأدلة العقلية والنقلية ومستعينا بأقوال جملة من أهل العلم ممن درسوا هذه الشبهات وبينوا زيفها متتبعين في ذلك سقطاتهم ومسلطين الضوء على عثراتهم وهناتهم وموضحين الآليات القويمة في التعامل معها والله الموفق والمستعان وعلى نبيه الصلاة السلام

بقلم: شنوف عبدالهادي
2513
المدارس العالمية وتعلم اللغات | مرابط
فكر لسانيات

المدارس العالمية وتعلم اللغات


لي تجربة مع ولدي كان العمل يعطيني بدلا للتعليم يدخله أغلى مدرسة دولية لكنني فضلت لغة دينه وأمته ثم لما اطمأننت عليها دفعته قبل الجامعة بعام أو عامين لتعلم الإنجليزية فأتقنها وها هو الآن يدرس بها فلا هو ضيع لغته ودينه ولا هو تأخر عن غيره من أهل اللغة التي يدرسونها منذ نعومة أظفارهم على حساب لغة قرآنهم وأمتهم.

بقلم: د.خالد حمدي
475