الشذوذ الجنسي ظاهرة قديمة جدًا وخصوصًا في المجتمعات الغربية ومنذ زمن اليونان كان هناك فلاسفة يعترفون به ويدعمونه بالتبريرات الفلسفية، ويقال بأن أفلاطون كان منهم (1).
جاءت الأديان لتعتبر أن هذه فعلة شيطانية منكرة تأباها النفوس الطاهرة، بل حتى الحيوانات لا تعرف مثل هذه المعاشرة ولعل انشغال نبي الله لوط عليه السلام بمحاربة هذه السيئة جعلها تعرف باللواط (2)
ومع تصاعد الموجة الجنسانية الحديثة وتمرد الغربيين على كل القيم والأعراف والأديان، وميلهم لتقديس كل نزواتهم وغرائزهم والاستجابة لها بأية وسيلة، ثم الإباحية المفرطة التي أدت إلى انصرافهم عن النساء بحثًا عن تنويع اللذة وتكثير التجربة الجنسية، كل تلك وغيرها دفعت بهم إلى معاداة هذه الفاحشة وعلى نطاق واسع وبشكل جماعي، كتيار جارف شمل كل شرائح المجتمع، ففي حين كانت هذه الفاحشة فردية وسرية أصبحت منذ الستينات جماعية وعلنية ونظم أهلها أنفسهم في تنظيمات متعددة وبأسماء متعددة للمطالبة بحقوقهم أو بحقوقهن سواء الذكور الذين يعرفون بـ Gay والإناث اللاتي يعرفن بـ Lesbian ويطالبون بأمرين:
1- الاعتراف بهذه الفعلة كأمر طبيعي والنظر إليها كحرية شخصية، بل نوع خاص من المعاشرة، وأنها حق من حقوق الإنسان ويعتبر الاعتراف بها إنجازا قانونيا وإضافة للحريات الإنسانية الأساسية (في نظرهم ونظر من يؤيدهم)
2- إصدار قوانين تعترف بهؤلاء كأسر شرعية تملك كل الحقوق الطبيعية للأسرة.
وتطور هذا الأمر في العالم الغربي إلى حد أن تورطت فيه شخصيات كبيرة في المجتمع الغربي من السياسيين وأهل الفن والإعلام والرياضيين وأساتذة الجامعات ورجال الأعمال، بل حتى وصل الأمر إلى رجال العبادة في الكنائس وفي أعلى المراتب الكنسية. "فقد عين في نهاية 1994 في (درم) وهي مدينة تاريخية عريقة في شمال شرق إنجلترا أسقف مطران كان قد حكم عليه في قضية شذوذ ارتكبها قبل ثلاثين عامًا والمنصب الذي احتله باحتفال تقليدي ضخم حضره كبار رجال الكنيسة الإنجليزية وقاطعه بالصياح مناصرو الشذوذ ﻷنه نفى عن نفسه تهمة الشذوذ فاعتبروه يتنصل عن طبيعته ومنصبه أحد أهم أربعة مناصب في الكنيسة الإنجليزية، كما أن جمعية مناصري الشذوذ هذه أعلنت أنها بعثت برسائل إلى عشرة أساقفة في بريطانيا ترجوهم فيها الإعلان عن ميولهم الحقيقية كالشذوذ وعدم إخفائها، وقد أدى ذلك إلى إعلان اثنين منهم، وهما أسقف غلاسكو الكردينال هيوم، وأسقف لندن ديفيد هوب عن انتمائهما إلى صنف معاشري المثل"(3) وهذه الأمور أدت ببعض الكنائس إلى إباحة الشذوذ وعقد زيجات من هذا النوع (4)
وأما ما يتعلق بالحركات الأنثوية فإنها تنظر إلى المسألة علاوة على ما سبق وبالقدر المتعلق بالمرأة السحاقية على أنها:
-وسيلة لكي تتخلص المرأة من تبعيتها للرجل
-تخلص المرأة من سطوة الرجل وعنفه
-تخلصها من مشاكل الولادة والإنجاب والأمومة
-تثبت المرأة من خلالها أنها تستطيع أن تستقل بذاتها وتستغني عن الرجل تماما وفي كل شيء وهي بهذه الطريقة تثبت نديتها ومساواتها المطلقة
-المساحقة مسألة غريزية فطرية لدى المرأة حسب زعمهن(5)
-أسلوب من أساليب التمرد يلجأ إليه الفرد المتمتع بالسيادة والمتحكم في مقومات حياته ضد تحويله إلى فريسة جسدية، وهذا يفسر انتشار السحاق بين الرياضيات (6)، وكذا النساء ذوات الرأس والملك اللواتي يصبح الاستسلام بالنسبة إلهن غالبا أمرًا صعبًا أو مستحيلًا ولو كان بشكله الجسدي، ويجد هذا التحليل دليله ومبرره في أي معاشرة حيوانية تختزل إلى حد المتعة الجسدية للرجل فقط من دون أن تجد المرأة فيها حظها من المتعة والرقي والحنان، فهي تشعر بالتالي بأنها تخدم نزوات الرجل وأنها فريسة ودمية (7) أما المعاشرة الإنسانية الصحيحة التي تجد فيها كل طرف متعة وحنانا وحبا فلا يمكن فهمها على أنها استسلام.
وإذا كانت سيمون دي بوفوار لم تجزم بكون السحاق المخرج المفضل للمرأة بل اكتفت بقولها "إنما هو موقف تتخذه المرأة كرد فعل على أوضاعها في المجتمع.. وقد يؤدي في بعض الحالات إلى عد التوازن والفشل والكذب والرياء أو يكون على العكس مصدرًا للتجارب الخصبة في حياة المرأة" (8)
فإن الأنثوية المعاصرة بعد الموجة الراديكالية اعتبرت الشذوذ الجنسي شكلًا محتملًا للخروج من سيطرة الرجل، وبديلًا ملائمًا للتخلص من هيمنته، أي تم الانتقال من المساواة إلى الاستعلاء ثم الاستغناء.
ثم اكتسبت حركة الشذوذ في ظل النسوية أبعادًا فلسفية، إذ بدأت دراسة الشذوذ تتجاوز الأبحاث التطبيقية المتناثرة إلى دراسات تنظيرية، ثم تطور الأمر إلى أن أصبح الشذوذ النسوي (رؤية معرفية) ذات أبعاد مختلفة منها البعد السياسي، حيث تم طرح فكرة (مجتمع نسوي خالص) وقدمت تصورات للسلطة والدولة (9) "مجتمع نسوي" يوفرن فيه سائر متطلبات حياتهن دون الحاجة إلى الارتباط بالرجال بأية صورة من الصورة" (10)، وتحقيقًا لهذا الهدف وتوفير مثل هذا المجتمع فإن منشورات الخلايا النسائية كانت تتضمن مبادئ مثل "حض غير المتزوجات على البقاء من غير زواج، والمتزوجات بهجر أزواجهن، وتحذير النساء من العلاقات الجنسية (أي مع الرجال)، ومن الحمل، ومن شراء أدوات التجميل" (11).
وتطور الأمر بعد ذلك، وصعدت الأنثوية لهجتها، واعتبرت العلاقات الجنسية الطبيعية Hetero sexual أمرًا مرفوضًا بشكل قاطع لأنها مفروضة على المرأة من قبل السلطة الأبوية Patriarchy لأن المرأة تستطيع إشباع رغباتها عن طريق المرأة كما تقول Julia Kristeva، بل وصل الأمر إلى حد أن يعتبر السحاق شرطًا لاعتبار المرأة من مؤيدي قضية المرأة أو أن تكون أنثوية حقيقية حين قالت Adrienne Rich في مقالتها عن الممارسة الجنسية الشرعية بأنه إذا أرادت المرأة أن تكون أنثوية حقيقية True Feminist فعليها أن تكون سحاقية أو She Must Became A Lesbian حسب التعبير الإنجليزي، وعليها أن تتخلى عن كل الأفكار التي تؤرقها وتجعلها تحس بأنها شاذة ومريضة ومجنونة، فقط ﻷنها تمارس الجنسي مع النساء بدلًا من الرجال.
مثنى أمين الكردستاني، حركات تحرير المرأة من المساواة إلى الجندر، ص175
