أصول الأصول: مراجعة لكتاب غمرات الأصول

أصول الأصول: مراجعة لكتاب غمرات الأصول | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

1844 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

الحمد لله وبعد،،

 

إذا كانت العروض قواعد تنظم الشعر، وعلم أصول الفقه قواعد تنظم النظر في الفقه الشرعي، فإن هذا الكتاب الصادر حديثًا في معرض الكتاب 1435هـ يطمح أن يكون مساهمة في بناء القواعد التي تنظم النظر في علم أصول الفقه ذاته، فهو بمثابة بحث في علم "أصول أصول الفقه"، ولذا وبغض النظر عن الترجيحات الداخلية للمؤلف، التي قد يخالف بعضها القارئ؛ إلا أن فكرة الكتاب، والشواهد العزيزة التي وقع عليها المؤلف واستخرجها من بطون الموسوعات الأصولية ووظفها ببراعة؛ تجعله كتابًا نسيج وحده.

 

وكما أنك تجد أية قرية من القرى فيها من هو من أهلها الذين أنشؤوها، وفيهم من هو من أبنائهم وذريتهم لم يشارك في التأسيس، وفيها من هو أجنبي أجير ليس من أهل البلد لكن بقاءه مهم لسير العمل فيه، وفيهم من هو طفيلي متسور على أهل البلد بلدهم؛ فكذلك تجد في (العلوم) مباحث هي من صلب العلم، وفيه مباحث تبعية نشأت عن تطور بحث المسائل الأصلية فتبعتها، وفيه مباحث مستقدمة من علوم أخرى لكنها ضرورية لقيام العلم نفسه، وفيه مباحث أجنبية من علوم أخرى أقحمت فيه تطفلًا وفضولًا.

 

الفصل الأول

وهكذا، وفي الفصل الأول من الكتاب، سعى المؤلف إلى فرز مستويات المباحث الأصولية داخل علم أصول الفقه لتحديد مدى "أصولية" المسألة الأصولية ذاتها، أي مدى ارتباطها بعلم أصول الفقه ومدى أجنبيتها عنه، والذي يتحصل من دراسة الباحث وفرزه وتحليله في هذا الفصل أن مستويات المسائل داخل المباحث الأصولية هي على أربعة مستويات، وهي: (الأصلية والتبعية والتكميلية والأجنبية) فالأصلية قصرها المؤلف على مبحثين فقط، وهما: مبحث (الأدلة) ومبحث (الاستدلال)، مثل دليلية القياس وهل الأمر للوجوب، وأما التبعية فجعل المؤلف مثالها الأبرز مبحث (الاجتهاد والتقليد)، وأما التكميلية فمثل الفروع الفقهية التي تذكر للتمثيل أثناء بحث المسائل الأصولية، فيما جعل المؤلف (الأجنبية) مثل مسائل علم المنطق وعلم الجدل وعلم الكلام، ودخول الأصوليين في مسائل مصطلح الحديث الخارجة عن الدليلية والاستدلالية.

 

ضابط إدخال المسألة اللغوية في علم أصول الفقه

ومن المسائل التي أثارها المؤلف وحللها واقترح لها معايير مسألة: ما ضابط إدخال المسألة اللغوية في علم أصول الفقه وإخراجها منه؟ والضابط الذي اقترحه المؤلف هو تأثير المسألة اللغوية في (القانونية الاستدلالية)، لا مجرد بيان معنى النص الشرعي، ولا التنظير اللغوي العام، والقانونية الاستدلالية فيها قدر زائد على بيان معنى النصوص كما هو ظاهر، وقد بنى الباحث على ضابطه الذي اقترحه نقدًا لإدخال بعض الأبحاث اللغوية في علم أصول الفقه.

 

القدر المقبول من فروع الفقه

كما ناقش الباحث القدر المقبول من فروع الفقه في الكتابة الأصولية، بين الحاجة لهذه الفروع في التمثيل، وبين إشكالية الانجراف إلى البحث الفروعي فيها.
وفي الخلاف المشهور في أول من أدخل علم المنطق وعلم الكلام في أصول الفقه يرجح المؤلف بقوله (تمنطق الأصول بدأ مع الغزالي، وتكلُّم الأصول بدأ مع الباقلاني).

 

ونبّه المؤلف إلى أن مقصوده في هذا الفصل بفرز مستويات "أصولية" المسألة الأصولية هي أن لا ينفر الطالب لعلم أصول الفقه لأجل تعثره بما هو خارج عن جوهر علم أصول الفقه، وذكر الباحث أنه لاحظ أن غالب المشنعين على علم أصول الفقه يشغّبون عليه بمسائل لا تدخل في صلبه، وإنما هي مسائل أجنبية أقحمت فيه.

 

الفصل الثاني

وأما الفصل الثاني فهو بعنوان (سؤال المراجعية) وخصصه الباحث لدراسة: كيف بنى الأصوليون دليلية الدليل الشرعي المجمل؟ وكيف أبطلوا الدليليات المحدثة؟ وفي ثنايا بحثه انتقد المؤلف الفكرة التي أشاعها مصطفى عبد الرزاق بأن الإبداع الفلسفي عند المسلمين هو في (علم أصول الفقه) ورأى في هذا مدحًا مضللًا.

 

ويلاحظ المؤلف أن جزءًا من النزاع في دليلية الدليل الشرعي المجمل يرجع إلى الحاجة إلى تعميق التحليل لمفهوم هذا الدليل المجمل ذاته، وضرب نموذجًا لذلك بالقياس، وتتبع بعض تصورات الأصوليين لمفهوم القياس نفسه، وكيف أن هناك مستويات من التداخل بين الأدلة الشرعية ذاتها وتنسب للقياس، ودرس فيه قراءتين، القراءة الغزالية في رد القياس ليكون من أبحاث الدلالات العقلية، والقراءة الرشدية في رد القياس ليكون من أبحاث الدلالات اللغوية.

 

وفي هذا الفصل المعقود للأدلة وضع المؤلف مبحثًا طريفًا، حيث درس المضمون العلمي في أساس تقسيمات الأدلة لدى الأصوليين، كتقسيمهم الدليل إلى العقلي والنقلي، والقطعي والظني، ونحوها من أسس تقسيم الأدلة، وأساس التقسيم في جوهره يحمل محتوى ومضمونًا، وينبني على كشوفات التقسيمات والتمييزات تحولات في بنية العلم نفسه، يعرف ذلك من له عناية بحقل (تاريخ العلوم)، فالتقسيمات ليست عملًا فنيًا بحتًا.

 

الفصل الثالث

ثم انتقل المؤلف إلى الفصل الثالث المخصص لمبحث (الدلالة)، والمؤلف برغم أنه يعرف أن عامة الأصوليين يجعلون أخص مباحث الأصول هو مبحث (الدليلية)، إلا أنه لا يخفي ميوله الظاهرة ليكون أخص مباحث الأصول مبحث (الدلالة)، وعرض المؤلف بحث الأصوليين إجمالًا في الدلالة وأنه يدور حول ثلاثة مستويات: مستوى قوة الدلالة وضعفها، ومستوى سعة الدلالة وضيقها، ومستوى معايير صحة القاعدة الدلالية. وفيما يخص المستوى الثالث استخلص الباحث من كلام الأصوليين خمسة معايير، وهي : (الاستعمال، والاطراد، والظهور، والقرينة، والسياق). وهو ليس استخلاصًا ذهنيًا مجانيًا، بل المؤلف يسند كل معيار يذكره بنصوص للعلماء عينوا فيها معيارية هذا المعيار.

 

ثم استعرض المؤلف الأسباب التي يقع بسببها التعثر الذهني في مبحث الدلالة، وسماها (مثارات الغلط في البحث الدلالي) وذكر منها سبعًا، ووقف المؤلف على معالجات عزيزة غير شائعة للجويني وابن رشد.

 

الفصل الأخير

ثم في الفصل الأخير درس المؤلف بعض الظواهر الذهنية المتصلة بالنظر الأصولي وسمى هذا الفصل (مسار النظر الأصولي) ومما ناقشه المؤلف في هذا الفصل العلاقة بين (علم أصول الفقه) و (علم الفروع الفقهية) في المستوى "التاريخي" والمستوى "الموضوعي"، فمن حيث التاريخ أيهما الذي بدأ وأين كان جنينيًا بالنسبة للآخر؟ ومن حيث الموضوع : أيها الذي يحاكم للآخر: هل تحاكم الفروع الفقهية للقواعد الأصولية؟ أم تمتحن صحة القاعدة الأصولية في مختبر الفروع الفقهية؟
ويلاحظ في لغة الكتاب مزجه بين مكونين أسلوبيين: لغة التراكيب الجوينية التراثية، وبعض القوالب الفكرية المعاصرة.

 

وأما النقول والاقتباسات المدهشة التي وقع عليها المؤلف وزرعها على طول ممرات البحث، فيلاحظ فيها عنايته بالاقتباس من أي عالم يعرض (المحتوى العلمي في صياغة أدبية)، لذا يكثر في اقتباساته الاستعارات والتشبيهات والألفاظ غير المألوفة.

 

عنوان الكتاب

وأما عنوان الكتاب (غمرات الأصول) فقد يتساءل القارئ عن سر هذه التسمية؟ والحقيقة أنها التقاطة ذكية من المؤلف من عبارة ذكرها أبو شامة وابن تيمية، وهي قول أبي شامة عن مبحث الدلالات أنه (غمرة علم أصول الفقه ومعظمه)، وقول ابن تيمية (وهي متصلة بمسألة المطلق، والمقيد، وهي غمرة من غمرات أصول الفقه، وقد اشتبهت أنواعها على كثير من السابحين فيه).

 

وأقترح أن يكون هذا الكتاب (قراءة موصى بها) في أقسام الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي والدراسات الإسلامية في الأكاديميات العربية للتعرف على أغوار علم الأصول.

 

والله أعلم،،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

 


 

المصدر:

  1. http://saaid.net/Doat/alsakran/64.htm
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إبراهيم-السكران
اقرأ أيضا
المذاهب والفرق المعاصرة: الديمقراطية ج2 | مرابط
تفريغات الديمقراطية

المذاهب والفرق المعاصرة: الديمقراطية ج2


تناحر الأحزاب وتشاحنها فإن الديمقراطية تسمح بتكوين أحزاب وهذه الأحزاب تشحذ همم الناس على ترشيحها وقد تصل إلى السلطة وقد لا تصل إليها وهذا يفرق وحدة المسلمين والله عز وجل قد أمر بالوحدة والألفة فقال الله عز وجل وإن هذه أمتكم أمة واحدة المؤمنون 52 وأمر سبحانه وتعالى بالاجتماع على كلمة سواء ونهى عن التفرق والاختلاف فتكوين الأحزاب بهذه الطريقة هو تفريق لوحدة الأمة

بقلم: عبد الرحيم السلمي
384
انتظار الفرج من الله عز وجل | مرابط
اقتباسات وقطوف

انتظار الفرج من الله عز وجل


حدثنا محمد بن عبد الله الأزدي ثنا حماد بن واقد قال: سمعت إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق الهمداني عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله عز وجل من فضله فإن الله عز وجل يحب أن يسأل من فضله وأفضل العبادة انتظار الفرج

بقلم: ابن أبي الدنيا
411
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج3 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج3


يقول الحسن البصري: اثنان لا يشبعان: طالب دنيا وطالب علم لو أفنيت عمرك كله ما حزت العلم كله ولما شبعت منه وكلما أخذت منه شيئا بقي منه شيء كثير ولن تستطيع الإحاطة به قال تعالى في الآية الكريمة: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا الإسراء:85 فدائما العلم كثير إذا: لن ينتهي العلم أبدا إلا بالموت وإذا مت وقد اجتهدت في العلم تجد الأجر والمثوبة على ما قدمت وطالب الدنيا أيضا لا يشبع والله لو عنده من الأموال كماء البحر فهو كأنه يشرب من البحر لا يرتوي أبدا طالب الدنيا

بقلم: د راغب السرجاني
319
مقام العبودية | مرابط
اقتباسات وقطوف

مقام العبودية


والعبودية هي أشرف شيء أشرف وصف للإنسان هو العبودية لله فالإنسان إنما يشرف بانتسابه للرب العظيم سبحانه وتعالى فكلما كان الإنسان عبدا لله كان أقرب إليه ولذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: واسجد واقترب

بقلم: عمرو الشرقاوي
135
كيف كسرت باريس القذرة قلبي وحطمت توقعاتي! | مرابط
مقالات

كيف كسرت باريس القذرة قلبي وحطمت توقعاتي!


ربما كنت أشاهد الكثير من الأفلام الحالمة الغير واقعية أو ربما كنت أعيش في عالم طوباوي مواز للعالم.. ولكن باريس -بالتأكيد- ليست كما كنت أتصورها إنها قذرة حرفيا ومجازا كل ما أعرفه هو أن ما رأيته نجح فقط في كسر قلبي!

بقلم: براتيك دام
87
الإسلام واللغة العربية | مرابط
اقتباسات وقطوف لسانيات

الإسلام واللغة العربية


وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب فإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ثم منها ما هو واجب على الأعيان ومنها ما هو واجب على الكفاية

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
273