إشكالات حول الحدود الشرعية

إشكالات حول الحدود الشرعية | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

2090 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أكثر الجدل في باب الحدود الشرعية يعود إلى حد الرجم، وعقوبة الردة.

 

أولًا حد الرجم:

 

يُنكر بعض المسلمين أن يكون في الإسلام عقوبة بالرجم بالحجارة للزاني المحصن، ويرون أنه أمر وحشي، والمستند الظاهري لاستنكارهم هو أنها عقوبة لم تُذكر في القرآن، خاصة وأن الجلد للزاني قد جاء في سورة النور دون الرجم، كما يرون أنها عقوبة تعارض بعض الآيات القرآنية.
 
فأما ما يتعلق بالوحشية، فإن الرجم عقوبة وليس مكافأة، ومن شأن العقوبات الزجر، وقد شرع الله في القرآن عقوبة رادعة زاجرة في الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، وهي قطع اليد والرجل من خلاف، ويقبلها كثير ممن يدعي الوحشية في الرجم.
 
إن تقدير العقوبات من الله سبحانه وتعالى أمر تابع لحكمته وعلمه، ونحن لم نخترع هذا الحد من عند أنفسنا، وإنما تصديقًا بالأخبار الصحاح الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المفترض أن يقول المؤمن: ما أبشع الزنا من المتزوج؛ ﻷن الله شرع فيه حدًّا شديدًا وهو الرجم، وهذا يدل على قبح هذا الذنب.
 
وأما إنكار الرجم لأنه لم يرد في القرآن فغير مستقيم على طريقة المتبعين للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه في السنة القطعية أنه رجم عددا ممن زنى في وقته من المتزوجين، ووجه القطعية في هذه الأخبار أنها قد نقلت من وجوه صحيحة كثيرة تفيد العلم لمن يعرف قوانين الأخبار، وأحوال الرواة، لا من يجهل ذلك.

 

وقد أجمع أهل السنة على هذا الحد:

 

قال ابن عبد البر، رحمه الله: وأما أهل البدع من الخوارج والمعتزلة فلا يرون الرجم على أحد من الزناة ثيّبًا كان أو غير ثيّب، وإنما حد الزناة عندهم الجلد، الثيب وغير الثيب، سواء عندهم. وقولهم في ذلك خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاف سبيل المؤمنين، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء بعده، وعلماء المسلمين في أقطار الأرض متفقون على ذلك من أهل الرأي، والحديث. وهم أهل الحق. (1) انتهى
 
وقال ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى: وجوب الرجم على الزاني المحصن.. وهذا قول عامة أهل العلم.. ولا نعلم فيه مخالفًا إلا الخوارج. (2)
 
وقال ابن بطال: وثبتت الأخبار عن رسول الله أنه أمر بالرجم ورجم، ألا ترى قول عليّ: رجمنا بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم عمر بن الخطاب، فالرجم ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبفعل الخلفاء الراشدين وباتفاق أئمة أهل العلم، منهم مالك بن أنس في المدينة، والأوزاعي في أهل الشام، والثوري وجماعة من أهل العراق، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. ودفع الخوارج الرجم والمعتزلة واعتلوا بأن الرجم ليس في كتاب الله تعالى"(3)
 
وأما إنكار العقوبة بدعوى تعارضها مع بعض الآيات القرآنية كقول الله في الإماء "فَعَلَيْهِنَّ نِصْف مَا عَلَى الْمُحْصَنَات مِنْ الْعَذَاب" قيقولون إن المحصنات هن المتزوجات، وعلى المتزوجات الرجم في قولكم، وهذا يعارض الآية؛ ﻷن الرجم لا يُنصّف.
 
والرد على هذه الدعوى يكون ببيان خطأ تفسير المحصنات في الآية بالمتزوجات، بل المراد بهنّ: الحرائر، وهذا في غاية الجلاء لمن قرأ أول الآية؛ إذ فيها الحث على نكاح المحصنات؛ أي: الحرائر.
 
وعقوبة الحرائر إن زنين وكن متزوجات: الرجم، وهو لا ينصف، وعقوبتهن إن كن غير متزوجات: مائة جلدة، وهي مما ينصف؛ فيكون حد الأمة الزانية إذا نصف ذلك، وهو: خمسين جلدة.
 
وختاما فإن الكلام عن الإشكالات المثارة حول هذا الحد أكبر من هذا العرض المختصر، وقد أجبت في كتاب كامل الصورة عن بعض ما أثير عليه، وأحيل من يرغب التوسع في هذا الموضوع إلى كتاب "شبهات حول أحاديث الرجم وردها" للدكتور سعد المرصفي. وهو متوفر على الشبكة.
 
مع العلم بأن عقوبة الرجم لا تكاد تتحقق إلا بالاعتراف؛ لأن شروط ثبوت الحد في غاية الصعوبة، والذي يجيء معترفًا فإنما هو مختار لذلك ليس مُكرهًا عليه، والمستحب هو الستر على النفس لا المبادرة بالاعتراف بالذنب، وحتى من رأى شخصًا آخر على زنا؛ فإن الأفضل أن يستره، ولا يبلغ عنه الحاكم، إلا أن يكون مجاهرا بسوء فقد يكون هذا من باب الردع والزجر.

 

ثانيًا: عقوبة الردة:

 

أبرز اعتراض على هذه العقوبة هو أنها تعارض قول الله تعالى "لا إكراه في الدين" وفي الحقيقة فإن هذه الآية لم تكن تخفى على أي عالم من علماء المسلمين، الذين أجمعوا على القول بأن للردة عقوبة القتل، قال ابن قدامة المقدسي "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين"(4)
 
وها هنا لدينا ثلاثة احتمالات حيال موقفهم من الآية:
إما أنهم جميعا لم يفهموا المراد منها.
وإما أنهم فهموه وعلموه ولكنهم كتموه وتعمدوا مخالفته.
وإما أنهم علموا من تفسيرها ما لا يتعارض مع حديث قتل المرتد.
 
ولا شك أن الاحتمال الثالث هو الصواب، هو الذي يرضاه كل مسلم لنفسه، فكيف بحق علماء الأمة كلهم. فإنهم لم يكونوا غافلين عن هذه القضية، فقد قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري، رحمه الله "المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيّهم صلى الله عليه وسلم أنه أكره على الإسلام قومًا، فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر وما أشبههن، وأنه ترك إكراه آخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه، وإقراره على دينه الباطل، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههن؛ كان بيّنا بذلك أن معنى قوله "لا إكراه في الدين" إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حلّ قبول الجزية منه بأدائه الجزيرة ورضاه بحكم الإسلام"(5)
 
وقال ابن كثير في تفسيره "وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب"(6)
 
وقضية عقوبة الردة من أكبر ما يُثار اعتراضا على الإسلام من جهة الملحدين واللادينيين، كما أنها تُثار من كثير المسلمين بقصد الدفاع عن الإسلام، حيث يرون أنها تخالف مبادئ التسامح الإسلامية، كما أنهم يستدلون ببعض الأحداث في السيرة النبوية، وهم في ذلك كله يتجاوزون النص الصحيح الصريح عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في قتل المرتد، وإن كانوا لا يتعمدون مخالفة هديه عليه الصلاة والسلام -أعني المسلمين المدافعين منهم- وفي رأيي أن هؤلاء الذين أشكلت عليهم هذه العقوبة من المسلمين يجب أن يُتعامل معهم دون تشنج، وإنما بكشف الإشكالات، وتبيين ما يلتبس في هذا الباب، فإنه باب كثر فيه الكلام، وفيه من الآثار والأخبار ما يحتاج إلى ناظر عادل يجمع بين الفهم والتقوى ليصل إلى الصواب في هذه القضية.
 
كما أن التشبث بكلمة "حدّ" في هذا الباب قد تورث بعض الالتباس في الفهم، وعلى كل حال فليس من مرادي هنا استقصاء مستمسكاتهم في هذا الإنكار، وقدر ذكرت في كتاب كامل الصورة عشر اعتراضات على عقوبة الردة والإجابة عنها، كما أن من الكتب المفيدة جدا في هذا الباب، كتاب فضاءات الحرية لسلطان العميري، وكتاب الردة بين الحد والحرية لصالح العميريني.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (23/121)
  2. المغني (12/309)، ط، التركي
  3. شرح ابن بطال (8/431)
  4. المغني (12/264) ط عالم الكتب.
  5. تفسير الطبري (4/554) ط عالم الكتب
  6. تفسير الطبري (1/687) ط عالم الكتب

 

المصدر:

  1. أحمد يوسف السيد، سابغات، ص 204
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#شبهات #أباطيل #الحدود #سابغات
اقرأ أيضا
من مفسدات القلوب: التعلق بغير الله | مرابط
تفريغات

من مفسدات القلوب: التعلق بغير الله


التعلق بغير الله له عدة نواح والكلام فيه من عدة فروع فمن التعلق بغير الله: التعلق بالدنيا وقد مثله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود تمثيل في قوله عليه الصلاة والسلام: تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميلة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش هذا الرجل المتعلق بغير الله فمن الناس من يتعلق بالأموال فيعمل لها كل همه فيخرج من الصباح ويسعى ويعمل ويكدح إلى الليل

بقلم: محمد صالح المنجد
696
شبهة: نحن أحق بالشك من إبراهيم | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: نحن أحق بالشك من إبراهيم


بين يديكم رد على الشبهة المتكررة التي يزعم مروجوها أن سيدنا إبراهيم عليه السلام شك في ربه وذلك استنادا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بالشك من إبراهيم فيقول البعض أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب الشك إلى إبراهيم وإلى نفسه.. بين يديكم رد على هذا الزعم.

بقلم: قاسم اكحيلات
388
ارتباط أعمال القلوب وأعمال الجوارح | مرابط
اقتباسات وقطوف

ارتباط أعمال القلوب وأعمال الجوارح


ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم فهي واجبة في كل وقت ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان فمركب الإيمان القلب ومركب الإسلام الجوارح فهذه كلمات مختصرة في...

بقلم: ابن القيم
378
شبهة حول الأمر بضرب الزوجة | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

شبهة حول الأمر بضرب الزوجة


قالوا: القرآن ظلم المرأة حين أجاز لزوجها أن يضربها: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا النساء: ٣٤ وبين يديكم رد مفصل للشيخ الدكتور منقذ بن محمود السقار على هذه الشبهة وتوضيح للخطأ الذي يقع فيه المشككون وتوضيح لحقيقة إباحة ضرب الزوجة في الإسلام

بقلم: د منقذ السقار
666
آثار العالمانية في الغرب: موت العالم والنفع المادي | مرابط
فكر مقالات العالمانية

آثار العالمانية في الغرب: موت العالم والنفع المادي


مثلت العالمانية علامة فارقة في تاريخ الغرب إذ نقلته من عصر السلطان الكنسي إلى عصر سلطان العالم المادي والفجوة بين العصرين هائلة حتى لا يكاد يربط الزمن الأول بالزمان الآخر كثير لكنهما يشتركان في التيه بعيدا عن حقيقة الإنسان وجوهر حاجته إلى ما يروي غلته والنظر عن كثب في حال الغرب المتعلمن في زمن ما بعد الحداثة يكشف أن الآلة الدعائية الخارجية للغرب وآلة التجميل لأقنانه في بلاد المسلمين قد نقلا عن عمد صورة تكاد تكون عديمة الصلة بالعالمانية الغربية وأدوائها القاتلة

بقلم: د سامي عامري
2465
الاجتماع بالأصحاب | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاجتماع بالأصحاب


وبالجملة فالاجتماع والخلطة لقاح إما للنفس الأمارة وإما للقلب والنفس المطمئنة والنتيجة مستفادة من اللقاح فمن طاب لقاحه طابت ثمرته وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من الملك والخبيثة لقاحها من الشيطان وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين للطيبات وعكس ذلك

بقلم: ابن القيم
396