إشكالات حول الحدود الشرعية

إشكالات حول الحدود الشرعية | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

2189 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

أكثر الجدل في باب الحدود الشرعية يعود إلى حد الرجم، وعقوبة الردة.

 

أولًا حد الرجم:

 

يُنكر بعض المسلمين أن يكون في الإسلام عقوبة بالرجم بالحجارة للزاني المحصن، ويرون أنه أمر وحشي، والمستند الظاهري لاستنكارهم هو أنها عقوبة لم تُذكر في القرآن، خاصة وأن الجلد للزاني قد جاء في سورة النور دون الرجم، كما يرون أنها عقوبة تعارض بعض الآيات القرآنية.
 
فأما ما يتعلق بالوحشية، فإن الرجم عقوبة وليس مكافأة، ومن شأن العقوبات الزجر، وقد شرع الله في القرآن عقوبة رادعة زاجرة في الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، وهي قطع اليد والرجل من خلاف، ويقبلها كثير ممن يدعي الوحشية في الرجم.
 
إن تقدير العقوبات من الله سبحانه وتعالى أمر تابع لحكمته وعلمه، ونحن لم نخترع هذا الحد من عند أنفسنا، وإنما تصديقًا بالأخبار الصحاح الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المفترض أن يقول المؤمن: ما أبشع الزنا من المتزوج؛ ﻷن الله شرع فيه حدًّا شديدًا وهو الرجم، وهذا يدل على قبح هذا الذنب.
 
وأما إنكار الرجم لأنه لم يرد في القرآن فغير مستقيم على طريقة المتبعين للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه في السنة القطعية أنه رجم عددا ممن زنى في وقته من المتزوجين، ووجه القطعية في هذه الأخبار أنها قد نقلت من وجوه صحيحة كثيرة تفيد العلم لمن يعرف قوانين الأخبار، وأحوال الرواة، لا من يجهل ذلك.

 

وقد أجمع أهل السنة على هذا الحد:

 

قال ابن عبد البر، رحمه الله: وأما أهل البدع من الخوارج والمعتزلة فلا يرون الرجم على أحد من الزناة ثيّبًا كان أو غير ثيّب، وإنما حد الزناة عندهم الجلد، الثيب وغير الثيب، سواء عندهم. وقولهم في ذلك خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاف سبيل المؤمنين، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء بعده، وعلماء المسلمين في أقطار الأرض متفقون على ذلك من أهل الرأي، والحديث. وهم أهل الحق. (1) انتهى
 
وقال ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى: وجوب الرجم على الزاني المحصن.. وهذا قول عامة أهل العلم.. ولا نعلم فيه مخالفًا إلا الخوارج. (2)
 
وقال ابن بطال: وثبتت الأخبار عن رسول الله أنه أمر بالرجم ورجم، ألا ترى قول عليّ: رجمنا بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم عمر بن الخطاب، فالرجم ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبفعل الخلفاء الراشدين وباتفاق أئمة أهل العلم، منهم مالك بن أنس في المدينة، والأوزاعي في أهل الشام، والثوري وجماعة من أهل العراق، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. ودفع الخوارج الرجم والمعتزلة واعتلوا بأن الرجم ليس في كتاب الله تعالى"(3)
 
وأما إنكار العقوبة بدعوى تعارضها مع بعض الآيات القرآنية كقول الله في الإماء "فَعَلَيْهِنَّ نِصْف مَا عَلَى الْمُحْصَنَات مِنْ الْعَذَاب" قيقولون إن المحصنات هن المتزوجات، وعلى المتزوجات الرجم في قولكم، وهذا يعارض الآية؛ ﻷن الرجم لا يُنصّف.
 
والرد على هذه الدعوى يكون ببيان خطأ تفسير المحصنات في الآية بالمتزوجات، بل المراد بهنّ: الحرائر، وهذا في غاية الجلاء لمن قرأ أول الآية؛ إذ فيها الحث على نكاح المحصنات؛ أي: الحرائر.
 
وعقوبة الحرائر إن زنين وكن متزوجات: الرجم، وهو لا ينصف، وعقوبتهن إن كن غير متزوجات: مائة جلدة، وهي مما ينصف؛ فيكون حد الأمة الزانية إذا نصف ذلك، وهو: خمسين جلدة.
 
وختاما فإن الكلام عن الإشكالات المثارة حول هذا الحد أكبر من هذا العرض المختصر، وقد أجبت في كتاب كامل الصورة عن بعض ما أثير عليه، وأحيل من يرغب التوسع في هذا الموضوع إلى كتاب "شبهات حول أحاديث الرجم وردها" للدكتور سعد المرصفي. وهو متوفر على الشبكة.
 
مع العلم بأن عقوبة الرجم لا تكاد تتحقق إلا بالاعتراف؛ لأن شروط ثبوت الحد في غاية الصعوبة، والذي يجيء معترفًا فإنما هو مختار لذلك ليس مُكرهًا عليه، والمستحب هو الستر على النفس لا المبادرة بالاعتراف بالذنب، وحتى من رأى شخصًا آخر على زنا؛ فإن الأفضل أن يستره، ولا يبلغ عنه الحاكم، إلا أن يكون مجاهرا بسوء فقد يكون هذا من باب الردع والزجر.

 

ثانيًا: عقوبة الردة:

 

أبرز اعتراض على هذه العقوبة هو أنها تعارض قول الله تعالى "لا إكراه في الدين" وفي الحقيقة فإن هذه الآية لم تكن تخفى على أي عالم من علماء المسلمين، الذين أجمعوا على القول بأن للردة عقوبة القتل، قال ابن قدامة المقدسي "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين"(4)
 
وها هنا لدينا ثلاثة احتمالات حيال موقفهم من الآية:
إما أنهم جميعا لم يفهموا المراد منها.
وإما أنهم فهموه وعلموه ولكنهم كتموه وتعمدوا مخالفته.
وإما أنهم علموا من تفسيرها ما لا يتعارض مع حديث قتل المرتد.
 
ولا شك أن الاحتمال الثالث هو الصواب، هو الذي يرضاه كل مسلم لنفسه، فكيف بحق علماء الأمة كلهم. فإنهم لم يكونوا غافلين عن هذه القضية، فقد قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري، رحمه الله "المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيّهم صلى الله عليه وسلم أنه أكره على الإسلام قومًا، فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر وما أشبههن، وأنه ترك إكراه آخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه، وإقراره على دينه الباطل، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههن؛ كان بيّنا بذلك أن معنى قوله "لا إكراه في الدين" إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حلّ قبول الجزية منه بأدائه الجزيرة ورضاه بحكم الإسلام"(5)
 
وقال ابن كثير في تفسيره "وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب"(6)
 
وقضية عقوبة الردة من أكبر ما يُثار اعتراضا على الإسلام من جهة الملحدين واللادينيين، كما أنها تُثار من كثير المسلمين بقصد الدفاع عن الإسلام، حيث يرون أنها تخالف مبادئ التسامح الإسلامية، كما أنهم يستدلون ببعض الأحداث في السيرة النبوية، وهم في ذلك كله يتجاوزون النص الصحيح الصريح عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في قتل المرتد، وإن كانوا لا يتعمدون مخالفة هديه عليه الصلاة والسلام -أعني المسلمين المدافعين منهم- وفي رأيي أن هؤلاء الذين أشكلت عليهم هذه العقوبة من المسلمين يجب أن يُتعامل معهم دون تشنج، وإنما بكشف الإشكالات، وتبيين ما يلتبس في هذا الباب، فإنه باب كثر فيه الكلام، وفيه من الآثار والأخبار ما يحتاج إلى ناظر عادل يجمع بين الفهم والتقوى ليصل إلى الصواب في هذه القضية.
 
كما أن التشبث بكلمة "حدّ" في هذا الباب قد تورث بعض الالتباس في الفهم، وعلى كل حال فليس من مرادي هنا استقصاء مستمسكاتهم في هذا الإنكار، وقدر ذكرت في كتاب كامل الصورة عشر اعتراضات على عقوبة الردة والإجابة عنها، كما أن من الكتب المفيدة جدا في هذا الباب، كتاب فضاءات الحرية لسلطان العميري، وكتاب الردة بين الحد والحرية لصالح العميريني.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (23/121)
  2. المغني (12/309)، ط، التركي
  3. شرح ابن بطال (8/431)
  4. المغني (12/264) ط عالم الكتب.
  5. تفسير الطبري (4/554) ط عالم الكتب
  6. تفسير الطبري (1/687) ط عالم الكتب

 

المصدر:

  1. أحمد يوسف السيد، سابغات، ص 204
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#شبهات #أباطيل #الحدود #سابغات
اقرأ أيضا
ما ذنب من لم يقتنع بالإسلام | مرابط
أباطيل وشبهات

ما ذنب من لم يقتنع بالإسلام


يخرج علينا بعض المشككين بتساؤل جديد وهو: ماذا إذا لم يقتنع الشخص بالإسلام ما ذنبه في ذلك لماذا يحاسب على هذا أو حتى يلام على قناعاته العقلية لماذا يدخل النار والحقيقة أن هذا التساؤل فيه خلط وأباطيل كثيرة وفي هذا المقال الموجز والمختصر رد على التساؤل وتوضيح ما به من خطأ

بقلم: موقع هداية الملحدين
1335
في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير | مرابط
اقتباسات وقطوف

في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير


والمقصود أن التأويل يتجاذبه أصلان التفسير والتحريف فتأويل التفسير هو الحق وتأويل التحريف هو الباطل فتأويل التحريف من جنس الإلحاد فإنه هو الميل بالنصوص عن ما هي عليه إما بالطعن فيها أو بإخراجها عن حقائقها مع الإقرار بلفظها وكذلك الإلحاد في أسماء الله تارة يكون بجحد معانيها حقائقها وتارة يكون بإنكار المسمى بها وتارة يكون بالتشريك بينه وبين غيره فيها فالتأويل الباطل هو إلحاد وتحريف وإن سماه أصحابه تحقيقا وعرفانا وتأويلا

بقلم: ابن القيم
833
دور الحملة الفرنسية | مرابط
تاريخ

دور الحملة الفرنسية


إذا طالعت الكتب الدراسية التي تقدم للتلاميذ والطلاب في بلادنا ووقفت على ذكر الحملة الفرنسية فيها فلا بد أن يمر عليك ما يطلق عليه مآثر الحملة الفرنسية أو ربما مساهمات الحملة الفرنسية في تحقيق التقدم والرخاء للمجتمع المصري أو انتشاله من ظلمات الضياع والجهل وغير ذلك من العبارات التي قد توصف بها المساهمة العظيمة للحملة الفرنسية في مصر وبالطبع ستجد حديثا طويلا حول المطابع العلمية التي جاء بها نابليون إلى بلادنا وكيف أفادتنا وحققت طفرة ونقلة ضخمة على المستوى العلمي لبلادنا وكذلك البعثة العلمية ال

بقلم: الأستاذ محمد قطب
3708
ظاهرة الليبراليين الفقهاء | مرابط
فكر مقالات الليبرالية

ظاهرة الليبراليين الفقهاء


ومن طريف أمر فقهائنا الليبراليين أنهم حين يلجون مسائل الدين القطعية وأصول الإسلام الكلية يتعاملون معها بنسبية الحقيقة وتعدد التفسيرات ورفض الوصاية وقبول كافة الاجتهادات مما يغيب معه حق واحد واضح في هذه القطعيات وحين ينزلون إلى المسائل الفروعية الفقهية الاجتهادية يتعاملون معها بوثوقية عالية وقطعية جازمة وحسم تام يرمي كل من يشكك في بعض حيثيات الحكم بالتشدد والانغلاق والفهم البليد

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1883
آيات من سورة ق | مرابط
اقتباسات وقطوف

آيات من سورة ق


ففي قوله:أفلم ينظروا إلى السماء الضمير يعود إلى هؤلاء الذين كذبوا بالبعث وقالوا:أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد فحثهم الله عز وجل حثا بتوبيخ إلى أن ينظروا إلى السماء التي فوقهم:كيف بنيناها أي: بنيناها بقوة وجعلناها سقفا محفوظا وجعلناها سقفا مستويا سليما:رفع سمكها فسواهاالمرسلات:28 وليس فيها من فروج ولا شقوق ولا عيب على طول الأزمنة التي لا يعلمها إلا الله عز وجل

بقلم: ابن عثيمين
701
دين الأهوائية | مرابط
مقالات

دين الأهوائية


فمعظم الغربيين يمكن تعريفهم بأنهم نصارى الهوية لادينيون المنهج! وبينهما دين أو عقيدة أهوائية محضة فتجد الشخص يؤمن بالمتناقضات الصارخة لمجرد أن كلا منها توافق هواه في جانب من الجوانب

بقلم: الزبرقان
339