استحضار أرواح الموتى

استحضار أرواح الموتى | مرابط

الكاتب: محمد محمد حسين

2562 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وبعد..
 

الافتتان بالمنهج التجريبي

بلغ من افتتان الغرب بالمنهج التجريبي في المعرفة أنهم طمحوا إلى إخضاع عالم الغيب للتجريب، وكان من أبرز ما ظهر في هذا الميدان إدخال عالم الروح في ميدان التجريب، وابتدعوا لذلك علما سموه "الروحية" أو spiritualism، نقلناه عنهم فيما نقمش ونحطب.
 
ودعوتهم هذه تنتحل اسم العلم، وتزعم أنها تجري التجارب على أرواح من ماتوا، وتدّعي أن هذا هو سبيلها إلى ردّ الناس عن تيار المادية الطاغية، وهذا نفسه جميل ولا بأس به، لولا أن باب الكذب والدجل والخداع لا يتسع في شيء مما ينتحل اسم العلم كما يتسع في هذه الدعوى وتجاربها، ولولا أن هذه الدعوة على ما يبدو من ظاهرها الجميل البراق، الذي يدعو إلى الإيمان بالله، تريد أن تكون دينًا جديدًا يُعفى أتباعه من كل الصلوات والعبادات والشعائر، ولا يجعل أهمية لغير العمل الصالح، بحسب ما يفهمه دعاتها ويزعمونه. فهم إذن يبتغون إلى الله الوسيلة بمناهج جديدة وبشعائر مستخدثة تخالف شعائر كل الأديان.
 
وليس الدين إلا منهجا من المناهج يتوسل به العبد إلى ربه، فهم إذن أصحاب منهج جديد في ربط العباد بربهم وخالقهم، أي أنهم أصحاب دين جديد. والدعوة بعد ذلك ليست حربًا على المادية كما يزعم أصحابها، ولكنها إغراق فيها وإمعان في التمسك بها، ﻷنها لا تقنع بإخضاع المحسوسات للمنهج التجريبي، ولكنها تتطاول إلى ما وراءها من عالم الغيب، تريد أن تخضعه للتجربة وتنكر كلّ ما لا يمكن ثبوته من هذا الطريق.
 

ضحايا هذه الدعوة

وأكثر من ينخدعون بهذه الدعوة هم الذين أصيبوا بصدمة عجزوا عن احتمالها، من موت ابن أو زوج أو زوجة أو عزيز، ولذلك بدأ انتشار الدعوة في أوربا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ودخل فيها عدد من العلماء منه السير أوليفر لودج، الذي فقد ابنه في هذه الحرب، وانتقلت الدعوة إلى مصر عن طريق أحمد فهمي أبو الخير، أستاذ العلوم الذي فقد ابنه الوحيد بعد أن حُرم الإنجاب سنين طويلة.
 

الانتقال إلى العالم العربي

فترجم عددًا من الكتب الإنجليزية المؤلفة في هذا الموضوع، كان أولها (على حافة العالم الأثيري) لمؤلفه آرثر فندلاي، ثم أنشأ أول دائرة عربية لتحضير الأرواح وأصدر باسمها مجلة شهرية سماها "عالم الروح" وانتشرت الدعوة انتشارا واسعًا بعد الحرب العالمية الثانية في مصر في كثير من البلاد العربية والإسلامية.
 
ومن أكثر ما ينخدع به الناس الذين تستهويهم هذه الدعوة أمران: أولهما الأجهزة العلمية التي تملأ معامل تحضير الأرواح، وثانيهما الأسماء الضخمة البارزة لعدد كبير من المشتغلين بالعلوم الرياضية والطبيعية والكيميائية، الذين انضموا للدعوة وشاركوا في بحوثها.
 
أما الأجهزة العلمية فالثغرات التي تسمح بالغش والخداع فيها كثيرة، ولكنها تخفى على غير المدققين، وتعتمد فيها نتائج البحث اعتمادا كبيرًا على شخص الوسيط، وهذا كلام مجمل شديد الإيجاز يحتاج إلى بيان، ولكن الوقت الذي يسمح به البرنامج لا يحتمل التفصيل الدقيق، لذلك أحيل من يطلب تفصيلا أدق وأطول إلى كتابي عن الروحية الحديثة.
 
أما عن العلماء الذين دخلوا في الدعوة وأصدروا فيها كتبا أو سمحت لهم الجامعات بإجراء بعض التجارب في معاملها فالأمر يحتاج إلى تجلية شبهة ينخدع بها كثير من الناس، ويستغلها دعاة الروحية أوسع استغلال. فحقيقة الأمر في الظواهر الكونية التي اكتشفها الإنسان واستغلها حتى الآن وسوف يكتشفها ويستغلها من بعد، أنها لا تعدو أن كون معارف جزئية يفيد كل كشف منها معرفة حقيقة جزئية على حدة.
 
لكنها لا تفيد إدراك الكل الذي ينتيج عن ربط ما بين الأجزاء والوحدات في كل الميادين، ما عُرف منها وما لم يُعرف، ولذلك كانت براعة كل واحد من الباحثين في هذه الفروع أو المكتشفين لبعض أسرارها محصورة في دائرة لا يتجاوزها ولا يتعداها من الميادين، وقد يكون بعد ذلك متوسط الخبرة أو ضعيفها فيما عداها من شئون.
 
بل المعروف أن بين المشهورين من المشتغلين بالعلوم التجريبية كثيرًا ممن تغلب عليهم الغفلة والسذاجة، وتجوز عليهم الحيلة والخداع بأيسر سبيل، لطول انطوائهم على أنفسهم وانكبابهم على الدائرة الضيقة التي حصروا فيها أنفسهم، لا يحوّلون عنها انتباههم، مما يعزلهم عن الناس ويُضعف خبرتهم بالحياة ويجعل كل واحد منهم أقرب إلى الصانع الماهر منه إلى العالم المحيط.
 

العلماء والدعوات الهدامة

ولكن الغرب المفتون بالمادة وبدراستها التجريبية والمحتقر لما عداها هو الذي سماهم scientists واشتق لهم هذا الاسم من الكلمة اللاتينية التي تدل على المعرفة وهي science وجرينا نحن من بعد على هذه التسمية فترجمنا الاصطلاح إلى علماء. وقد زعم أحد المنتسبين إلى هذه الدعوى أنهم هم المقصودون بقول الله تعالى "إنما يخشى الله من عباده العلماء" ومن الواضح أن هذه الدراسات والحرف التجريبية ليست هي العلم المقصود، ﻷن بين المشتغلين بها كثيرا من الملاحدة والماديين، ولأن أصحابها لا يبرءون من الأهواء.
 
فليس هناك ما يمنع من أن يضعوا أنفسهم في خدمة إحدى الدعوات الهدامة، ما داموا قد قبلوا ولا يزالون يقبلون، أن يضعوا أنفسهم في خدمة الوحوش والطغاة من صانعي الحروب والفتن ومستعبدي الشعوب ومزوّري الحقائق ومروّجي الأباطيل. فهم في خدمة من يغدق عليهم ثم يحبسهم على ما يريده وما يدبره.
 
من وراء أبواب مغلقة، يعملون في داخلها كما تعمل دودة الحرير، وإنما العلم المقصود بقول الله تعالى هو علم الحق، علم الذين يتقون الله فيهديهم سبلهم ويملأ أبصارهم وبصائرهم بالنور، ولكن داعية الروحيين المسكين يريد أن يفسر القرآن العربي بمفاهيم أوربية بل بمفاهيم صهيونية.
 

مآلات الروحية

وقد تشعبت هذه الدعوى أو الدعوة، فأصبحت لها فروع متعددة، فأصبح لوسطائها تخصصات معروفة، فمن فروعها فرع لعلاج الأمراض المستعصية، يزعمون أن بعض المشتغلين بالطب من الموتى هم الذين يقومون عليه، ومن فروعها فرع لما يسمونه "الإرشاد" تقوم فيه الروح المزعومة المسيطرة على الدائرة بتقديم المواعظ، والإرشاد إلى ما يكون وما يجري وراء الموت. وكل ما يقدمه هذا الفرع من الروحية من بيان يناقض الإسلام أشد المناقضة، ويلتقي مع أهداف الصهيونية العالمية بأجهزتها المتعددة كالماسونية والتسلح الخلقي وشهود يهوه.
 
فالإسلام عندهم ليس خاتم الرسالات والوحي عندهم دائم لا ينقطع، كان ولا يزال وسيبقى، والرسل والأنبياء وسطاء، لا يزيدون عن الوسطاء الذين يستخدمونهم في اجتماعاتهم لمناجاة الأرواح المزعومة، ولا يتسع الوقت لتقديم ما لديّ من النصوص الصريحة التي تشهد بذلك وتثبته إثباتا قاطعًا، ولكني أجمل الكلام فأقول إن الروحية في عزم أصحابها وبصريح أقوالهم "أقدر من غيرها على تأسيس دين جديد واسع للعالم كله" (مجلة الروح العدد127) وهم يقدمون، كما يقول الدكتور علي عبد الجليل راضي، الأستاذ بكلية العلوم "طريقة جديدة للحياة، ويعطوننا فكرة جديدة عن الله ومشيئته" (عالم الروح العدد126).
 

دين جديد

ويُعفي هذا الدين الجديد أتباعه من كل العبادات وتنحصر طقوسه وفرائضه "في تدريب الناس على تركيز القوة الروحية" -عالم الروح العدد 127. ويقول محمد فريد وجدي في سلسلة من المقالات نشرها في مجلة المقتطف، وصاحب المقتطف على ما هو معروف من كبار الماسون، ومحمد فريد وجدي معدود عند بعض الناس من أصحاب الاتجاه الإسلام، يقول على لسان أحد الأرواح المزعومة التي يناجونها وتناجيهم في اجتماعاتهم الروحية "نحن مرسلون من عند الله كما أرسل المرسلون من قبلنا غير أن تعاليمنا أرقى من تعاليمهم، فإلهنا هو إلههم، إلا أن إلهنا أظهر من إلههم وأقل صفات بشرية وأكثر صفات إلهية"
 
وفي تعاليمهم خلط وخبط وتناقض كثير، فهم يمجدون الشيوعية في الوقت الذي يدعون فيه إلى تنمية القوى الروحية، وهم يمجدون الوثنيين من الفراعنة والهنود الحمر، وينسبون إليهم أكثر من يسمونهم (الأرواح الحارسة) في جلساتهم، وهم يزعمون أن بعض أرواح الموتى تقوم بعلاج الضالين والمرضى من الأحياء، وفي الوقت نفسه يزعمون أنهم يرشدون في دوائرهم بعض الضالين من أرواح الذين فارقوا الحياة، وهم يقدّمون طائفة من المزاعم والأوهام يسودها الخلط عما وراء الموت، تختلف باختلاف الدوائر التي تصدر عنها، والأرواح المزعومة التي تُنسب إليها.
 

الموت والجنة والنار

وتزعم بعض دوائرهم أن التواصل سيزداد بين الأحياء والأموات، حتى يتم ويصبح عامًا، وعند ذلك يتحقق السلام والسعادة، وذلك عندهم هو الجنة، وفي خلال ذلك تتطهر أرواح الكفار والمنحرفين والمذنبين من خلال ما يعانون من آلام التوبة والندم، وذلك عندهم هو كل العذاب، الذي تقدم الأديان صورا رمزية منه فيما تسميه جهنم.
 
وهم يزعمون أن باب التوبة لا يغلق بالموت، وأن فرصته متاحة للمجرمين وللخطائين بعد الموت، وهم يهدمون الخلق بنفي الاختيار والقول بالجبر، حين يزعمون أن كثيرًا من المجرمين يرتكبون جرائمهم وهم مسلوبو الإرادة تحت سيطرة بعض الأرواح الشريرة، وذلك ما يسمونه المس الروحي، وأخطر ما في الأمر أن المسلمين منهم يؤيدون ذلك كله بنصوص ملفقة من القرآن والحديث وسير الصالحين، بعد تحريفها وإساءة تأويلها.

 


 

المصدر:

  1. محمد محمد حسين، أزمة العصر، ص86
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
توجيه النشء بين الأمس واليوم | مرابط
تفريغات

توجيه النشء بين الأمس واليوم


من المؤسف أن تجد كثيرا من الآباء والأمهات اليوم لا يعتنون بتوجيه الناشئة بآداب الإسلام لا في الطعام ولا في الشراب ولا في الدخول ولا في الخروج ولا في دخول الخلاء ولا عند المبيت ولا عند الاستيقاظ لقد تعلمنا كما قلت من عجائز جدات وأمهات ما عرفوا الدراسة ولا يعرفون الألف من الباء.

بقلم: سعد البريك
325
أصل ضلال البشرية | مرابط
تفريغات

أصل ضلال البشرية


أضعف الناس عقلا وأقلهم إدراكا واستعمالا للعقل أولئك الذين يجحدون وجود الخالق سبحانه وتعالى الإنسان خلق بإحكام وخلقه الله عز وجل في أحسن تقويم لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم التين:4 أحسن تقويم من جهة نظامه وقوامه وكذلك أيضا دب الحياة فيه واتساقها وانتظامها وما جعل الله سبحانه وتعالى له من قدرة يؤتيها الله عز وجل إياه للاكتساب وجلب الخير ودفع الضر الذي يلحق به هذا من حسن خلق الله عز وجل وصنعه في الإنسان.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
553
زهد أبي هريرة رضي الله عنه | مرابط
مقالات

زهد أبي هريرة رضي الله عنه


حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا كثير حدثنا جعفر حدثنا يزيد بن الأصم قال: سمعت أبا هريرة يقول: المكثرون في النار إلا من قال هكذا وهكذا وأشار بكفيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ثم قال: وقليل ما هم قال يزيد: إن لم أكن سمعته من أبي هريرة وأشار بإصبعيه إلى أذنيه وإلا فصمتا

بقلم: أحمد بن حنبل
1095
احترازات الأذكياء | مرابط
مقالات

احترازات الأذكياء


قال ابن عرابة المؤدب حكي لي محمد بن عمر الصبي أنه حفظ ابن المعتز وهو يؤدبه والنازعات وقال له إذا سألك أمير المؤمنين أبوك في أي شيء أنت فقل له في السورة التي تلي عبس ولا تقل أنا في النازعات قال فسأله أبوه في أي شيء أنت قال في السورة التي تلي عبس فقال من علمك هذا قال مؤدبي قال فأمر له بعشرة آلاف درهم

بقلم: ابن الجوزي
926
يؤمنون بالشريعة إلا قليلا | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

يؤمنون بالشريعة إلا قليلا


أين من يقرأ في نصوص الشريعة ويبحث في أحكامها لينظر في مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يؤمن به ويعمل بمقتضاه ويؤمن بعد ذلك كله أن هذا هو العقل والمصلحة ويعتمد في سبيل ذلك على أقاويل الصحابة وتفاسير التابعين ومذاهب الفقهاء واللغويين حتى يهتدي إلى مراد الله و مراد رسوله صلى الله عليه وسلم أين هذا ممن يضع أحكاما عقلية مسبقة و مصالح دنيوية معينة يرى أنها بحسب هواه وعقله القاصر هي العقل و المصلحة التي لا تأتي الشريعة بما ينافيها فإذا وجد آية محكمة أو حديثا صحيحا يهز بعض جوانب هذه...

بقلم: د فهد بن صالح العجلان
2281
ويلك آمن | مرابط
فكر مقالات

ويلك آمن


هذه هي الحضارة الأوربية الحديثة قد انتهت بالناس إلى خلق هذا الإشكال الدائم الذي لا يحل وساقت الناس إلى مرعى من الشك وبيء كلما ازدادوه غذاء زادهم بلاء فلا ينتهي من ينتهي إلا إلى هلكة تدع فكرة الحياة خرافة عظيمة قد اتخذت لها أسلوبا تتجلى فيه فكان أبلغ أسلوب وأفظع أسلوب هذا الإنسان الذي يحمل من رأسه قنبلة حشوها المادة المتفجرة التي تهلكه وتهلك ما يطيف به أو يقاربه فلا هو ينتفع بنفسه ولا ينتفع العالم به

بقلم: محمود شاكر
2479