استحضار أرواح الموتى

استحضار أرواح الموتى | مرابط

الكاتب: محمد محمد حسين

2439 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وبعد..
 

الافتتان بالمنهج التجريبي

بلغ من افتتان الغرب بالمنهج التجريبي في المعرفة أنهم طمحوا إلى إخضاع عالم الغيب للتجريب، وكان من أبرز ما ظهر في هذا الميدان إدخال عالم الروح في ميدان التجريب، وابتدعوا لذلك علما سموه "الروحية" أو spiritualism، نقلناه عنهم فيما نقمش ونحطب.
 
ودعوتهم هذه تنتحل اسم العلم، وتزعم أنها تجري التجارب على أرواح من ماتوا، وتدّعي أن هذا هو سبيلها إلى ردّ الناس عن تيار المادية الطاغية، وهذا نفسه جميل ولا بأس به، لولا أن باب الكذب والدجل والخداع لا يتسع في شيء مما ينتحل اسم العلم كما يتسع في هذه الدعوى وتجاربها، ولولا أن هذه الدعوة على ما يبدو من ظاهرها الجميل البراق، الذي يدعو إلى الإيمان بالله، تريد أن تكون دينًا جديدًا يُعفى أتباعه من كل الصلوات والعبادات والشعائر، ولا يجعل أهمية لغير العمل الصالح، بحسب ما يفهمه دعاتها ويزعمونه. فهم إذن يبتغون إلى الله الوسيلة بمناهج جديدة وبشعائر مستخدثة تخالف شعائر كل الأديان.
 
وليس الدين إلا منهجا من المناهج يتوسل به العبد إلى ربه، فهم إذن أصحاب منهج جديد في ربط العباد بربهم وخالقهم، أي أنهم أصحاب دين جديد. والدعوة بعد ذلك ليست حربًا على المادية كما يزعم أصحابها، ولكنها إغراق فيها وإمعان في التمسك بها، ﻷنها لا تقنع بإخضاع المحسوسات للمنهج التجريبي، ولكنها تتطاول إلى ما وراءها من عالم الغيب، تريد أن تخضعه للتجربة وتنكر كلّ ما لا يمكن ثبوته من هذا الطريق.
 

ضحايا هذه الدعوة

وأكثر من ينخدعون بهذه الدعوة هم الذين أصيبوا بصدمة عجزوا عن احتمالها، من موت ابن أو زوج أو زوجة أو عزيز، ولذلك بدأ انتشار الدعوة في أوربا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ودخل فيها عدد من العلماء منه السير أوليفر لودج، الذي فقد ابنه في هذه الحرب، وانتقلت الدعوة إلى مصر عن طريق أحمد فهمي أبو الخير، أستاذ العلوم الذي فقد ابنه الوحيد بعد أن حُرم الإنجاب سنين طويلة.
 

الانتقال إلى العالم العربي

فترجم عددًا من الكتب الإنجليزية المؤلفة في هذا الموضوع، كان أولها (على حافة العالم الأثيري) لمؤلفه آرثر فندلاي، ثم أنشأ أول دائرة عربية لتحضير الأرواح وأصدر باسمها مجلة شهرية سماها "عالم الروح" وانتشرت الدعوة انتشارا واسعًا بعد الحرب العالمية الثانية في مصر في كثير من البلاد العربية والإسلامية.
 
ومن أكثر ما ينخدع به الناس الذين تستهويهم هذه الدعوة أمران: أولهما الأجهزة العلمية التي تملأ معامل تحضير الأرواح، وثانيهما الأسماء الضخمة البارزة لعدد كبير من المشتغلين بالعلوم الرياضية والطبيعية والكيميائية، الذين انضموا للدعوة وشاركوا في بحوثها.
 
أما الأجهزة العلمية فالثغرات التي تسمح بالغش والخداع فيها كثيرة، ولكنها تخفى على غير المدققين، وتعتمد فيها نتائج البحث اعتمادا كبيرًا على شخص الوسيط، وهذا كلام مجمل شديد الإيجاز يحتاج إلى بيان، ولكن الوقت الذي يسمح به البرنامج لا يحتمل التفصيل الدقيق، لذلك أحيل من يطلب تفصيلا أدق وأطول إلى كتابي عن الروحية الحديثة.
 
أما عن العلماء الذين دخلوا في الدعوة وأصدروا فيها كتبا أو سمحت لهم الجامعات بإجراء بعض التجارب في معاملها فالأمر يحتاج إلى تجلية شبهة ينخدع بها كثير من الناس، ويستغلها دعاة الروحية أوسع استغلال. فحقيقة الأمر في الظواهر الكونية التي اكتشفها الإنسان واستغلها حتى الآن وسوف يكتشفها ويستغلها من بعد، أنها لا تعدو أن كون معارف جزئية يفيد كل كشف منها معرفة حقيقة جزئية على حدة.
 
لكنها لا تفيد إدراك الكل الذي ينتيج عن ربط ما بين الأجزاء والوحدات في كل الميادين، ما عُرف منها وما لم يُعرف، ولذلك كانت براعة كل واحد من الباحثين في هذه الفروع أو المكتشفين لبعض أسرارها محصورة في دائرة لا يتجاوزها ولا يتعداها من الميادين، وقد يكون بعد ذلك متوسط الخبرة أو ضعيفها فيما عداها من شئون.
 
بل المعروف أن بين المشهورين من المشتغلين بالعلوم التجريبية كثيرًا ممن تغلب عليهم الغفلة والسذاجة، وتجوز عليهم الحيلة والخداع بأيسر سبيل، لطول انطوائهم على أنفسهم وانكبابهم على الدائرة الضيقة التي حصروا فيها أنفسهم، لا يحوّلون عنها انتباههم، مما يعزلهم عن الناس ويُضعف خبرتهم بالحياة ويجعل كل واحد منهم أقرب إلى الصانع الماهر منه إلى العالم المحيط.
 

العلماء والدعوات الهدامة

ولكن الغرب المفتون بالمادة وبدراستها التجريبية والمحتقر لما عداها هو الذي سماهم scientists واشتق لهم هذا الاسم من الكلمة اللاتينية التي تدل على المعرفة وهي science وجرينا نحن من بعد على هذه التسمية فترجمنا الاصطلاح إلى علماء. وقد زعم أحد المنتسبين إلى هذه الدعوى أنهم هم المقصودون بقول الله تعالى "إنما يخشى الله من عباده العلماء" ومن الواضح أن هذه الدراسات والحرف التجريبية ليست هي العلم المقصود، ﻷن بين المشتغلين بها كثيرا من الملاحدة والماديين، ولأن أصحابها لا يبرءون من الأهواء.
 
فليس هناك ما يمنع من أن يضعوا أنفسهم في خدمة إحدى الدعوات الهدامة، ما داموا قد قبلوا ولا يزالون يقبلون، أن يضعوا أنفسهم في خدمة الوحوش والطغاة من صانعي الحروب والفتن ومستعبدي الشعوب ومزوّري الحقائق ومروّجي الأباطيل. فهم في خدمة من يغدق عليهم ثم يحبسهم على ما يريده وما يدبره.
 
من وراء أبواب مغلقة، يعملون في داخلها كما تعمل دودة الحرير، وإنما العلم المقصود بقول الله تعالى هو علم الحق، علم الذين يتقون الله فيهديهم سبلهم ويملأ أبصارهم وبصائرهم بالنور، ولكن داعية الروحيين المسكين يريد أن يفسر القرآن العربي بمفاهيم أوربية بل بمفاهيم صهيونية.
 

مآلات الروحية

وقد تشعبت هذه الدعوى أو الدعوة، فأصبحت لها فروع متعددة، فأصبح لوسطائها تخصصات معروفة، فمن فروعها فرع لعلاج الأمراض المستعصية، يزعمون أن بعض المشتغلين بالطب من الموتى هم الذين يقومون عليه، ومن فروعها فرع لما يسمونه "الإرشاد" تقوم فيه الروح المزعومة المسيطرة على الدائرة بتقديم المواعظ، والإرشاد إلى ما يكون وما يجري وراء الموت. وكل ما يقدمه هذا الفرع من الروحية من بيان يناقض الإسلام أشد المناقضة، ويلتقي مع أهداف الصهيونية العالمية بأجهزتها المتعددة كالماسونية والتسلح الخلقي وشهود يهوه.
 
فالإسلام عندهم ليس خاتم الرسالات والوحي عندهم دائم لا ينقطع، كان ولا يزال وسيبقى، والرسل والأنبياء وسطاء، لا يزيدون عن الوسطاء الذين يستخدمونهم في اجتماعاتهم لمناجاة الأرواح المزعومة، ولا يتسع الوقت لتقديم ما لديّ من النصوص الصريحة التي تشهد بذلك وتثبته إثباتا قاطعًا، ولكني أجمل الكلام فأقول إن الروحية في عزم أصحابها وبصريح أقوالهم "أقدر من غيرها على تأسيس دين جديد واسع للعالم كله" (مجلة الروح العدد127) وهم يقدمون، كما يقول الدكتور علي عبد الجليل راضي، الأستاذ بكلية العلوم "طريقة جديدة للحياة، ويعطوننا فكرة جديدة عن الله ومشيئته" (عالم الروح العدد126).
 

دين جديد

ويُعفي هذا الدين الجديد أتباعه من كل العبادات وتنحصر طقوسه وفرائضه "في تدريب الناس على تركيز القوة الروحية" -عالم الروح العدد 127. ويقول محمد فريد وجدي في سلسلة من المقالات نشرها في مجلة المقتطف، وصاحب المقتطف على ما هو معروف من كبار الماسون، ومحمد فريد وجدي معدود عند بعض الناس من أصحاب الاتجاه الإسلام، يقول على لسان أحد الأرواح المزعومة التي يناجونها وتناجيهم في اجتماعاتهم الروحية "نحن مرسلون من عند الله كما أرسل المرسلون من قبلنا غير أن تعاليمنا أرقى من تعاليمهم، فإلهنا هو إلههم، إلا أن إلهنا أظهر من إلههم وأقل صفات بشرية وأكثر صفات إلهية"
 
وفي تعاليمهم خلط وخبط وتناقض كثير، فهم يمجدون الشيوعية في الوقت الذي يدعون فيه إلى تنمية القوى الروحية، وهم يمجدون الوثنيين من الفراعنة والهنود الحمر، وينسبون إليهم أكثر من يسمونهم (الأرواح الحارسة) في جلساتهم، وهم يزعمون أن بعض أرواح الموتى تقوم بعلاج الضالين والمرضى من الأحياء، وفي الوقت نفسه يزعمون أنهم يرشدون في دوائرهم بعض الضالين من أرواح الذين فارقوا الحياة، وهم يقدّمون طائفة من المزاعم والأوهام يسودها الخلط عما وراء الموت، تختلف باختلاف الدوائر التي تصدر عنها، والأرواح المزعومة التي تُنسب إليها.
 

الموت والجنة والنار

وتزعم بعض دوائرهم أن التواصل سيزداد بين الأحياء والأموات، حتى يتم ويصبح عامًا، وعند ذلك يتحقق السلام والسعادة، وذلك عندهم هو الجنة، وفي خلال ذلك تتطهر أرواح الكفار والمنحرفين والمذنبين من خلال ما يعانون من آلام التوبة والندم، وذلك عندهم هو كل العذاب، الذي تقدم الأديان صورا رمزية منه فيما تسميه جهنم.
 
وهم يزعمون أن باب التوبة لا يغلق بالموت، وأن فرصته متاحة للمجرمين وللخطائين بعد الموت، وهم يهدمون الخلق بنفي الاختيار والقول بالجبر، حين يزعمون أن كثيرًا من المجرمين يرتكبون جرائمهم وهم مسلوبو الإرادة تحت سيطرة بعض الأرواح الشريرة، وذلك ما يسمونه المس الروحي، وأخطر ما في الأمر أن المسلمين منهم يؤيدون ذلك كله بنصوص ملفقة من القرآن والحديث وسير الصالحين، بعد تحريفها وإساءة تأويلها.

 


 

المصدر:

  1. محمد محمد حسين، أزمة العصر، ص86
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
الأصل.. بين أهل السنة وأهل البدعة | مرابط
اقتباسات وقطوف

الأصل.. بين أهل السنة وأهل البدعة


واعلم أن الخطة الفاصلة بيننا وبين كل مخالف أننا نجعل أصل مذهبنا الكتاب والسنة ونستخرج ما نستخرج منهما ونبنى ما سواهما عليهما ولا نرى لأنفسنا التسلط على أصول الشرع حتى نقيمها على ما يوافق رأينا وخواطرنا وهواجسنا بل نطلب المعانى فإن وجدناها على موافقة الأصول من الكتاب والسنة أخذنا بذلك وحمدنا الله تعالى على ذلك وأن زاغ بنا زائغ ضعفنا عن سواء صراط السنة ورأينا أنفسنا قد ركبت البنيان وبركت الجدد اتهمنا آراءنا فرجعنا بالآية على نفوسنا واعترفنا بالعجز

بقلم: الإمام السمعاني
403
الثقافة المستعارة: الأفلام والمسلسلات | مرابط
فكر اقتباسات وقطوف ثقافة

الثقافة المستعارة: الأفلام والمسلسلات


إن عالم الأفلام والمسلسلات ينتمي إلى فضاء غير الذي ننتمي إليه إنه ينتمي إلى فضاء التجارة والشهرة والإثارة والصنعة الإعلامية وهو فضاء لا يتقابل مع الواقع الحقيقي إلا في بعض صوره ومع الأسف الشديد فإن ما لا يقل عن جيلين أو ثلاثة أجيال من المسلمين قد تأثر كثير من أبنائها بثقافة المسلسلات وخاصة النساء

بقلم: أحمد يوسف السيد
498
شبهات حول الحجاب: الحجاب شريعة رجعية ج1 | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات المرأة

شبهات حول الحجاب: الحجاب شريعة رجعية ج1


كثيرا ما طرق آذان المسلمات قول صارخ منتفش ودعوى فجة مغرورة أن مطالبة المرأة العربية بارتداء الحجاب في القرن الواحد والعشرين حيث تطور العالم وبلغ في ابتكاراته العلمية الذروة وتطور المجتمع وأصبح أكثر انفتاحا ونضجا لهو دعوة صريحة إلى الانتكاس والعودة إلى القرون الوسطى عصور الظلام

بقلم: سامي عامري
1016
من الغافل؟ | مرابط
تفريغات

من الغافل؟


وكل يوم تطلع فيه الشمس عليك صدقة -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- وكل يوم محسوب عليك وأقرب مثال نراه نحن -الآن- في حياتنا هو هذا التقويم الذي يعلق في البيوت وفي المساجد إذا أخذت كل يوم منه ورقة تفاجأ وإذا به قد انتهى وهكذا العمر كل يوم تأخذ منه ورقة وإذا بالعمر فجأة ينتهي فهذا فيه عبرة لمن اعتبر.

بقلم: سفر الحوالي
391
من أخلاق الكبار: زين العابدين | مرابط
تفريغات

من أخلاق الكبار: زين العابدين


إن جاءك إنسان وشتمك وكنت في مجلس مناسبة أو في صالة أفراح فتسلط عليك إنسان وأسمعك قبيح القول فما موقفك من هذا الإنسان إن كنت من أصحاب النفوس الكبيرة فستتجاوز النفس ولهذا كان بعضهم يقول لمن يشتمه ويبالغ في شتمه: يا هذا لا تفرط في شتمنا وأبق للصلح موضعا فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.

بقلم: خالد السبت
282
وهم الحياد في البحث العلمي | مرابط
فكر

وهم الحياد في البحث العلمي


الحياد المتخيل في البحث العلمي يكاد أن يصطف في متحف المحالات إلى جوار العنقاء حيث لا يمكن للباحث أن يرى الأشياء ويقيمها ويحكم عليها إلا من خلال مرجعيته التي يؤمن بها ولا يكاد ينفك عن ذلك باحث غربي أو شرقي فالباحثون لا ينطلقون في أحكامهم إلا من مواقفهم الفكرية والسياسية.

بقلم: د. عايض بن سعد الدوسري
348