الإمبريالية كمقولة تحليلية

الإمبريالية كمقولة تحليلية | مرابط

الكاتب: عبد الوهاب المسيري

568 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

ونحن نقترح استرجاع الإمبريالية كمقولة تحليلية باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية، ومن ثم لا يمكن استبعادها من دراسة أية ظاهرة في الحضارة الغربية الحديثة. ولنأخذ الديموقراطية على سبيل المثال. يُلاحَظ أن الدول الغربية الديموقراطية، وفي طليعتها إنجلترا وفرنسا، هي بلاد لها مشروعها الاستعماري الضخم حيث التهمت معظم أنحاء العالم وقمعت السكان الأصليين وسلبتهم حريتهم وحطمت مؤسساتهم الاجتماعية والثقافية. وقُل نفس الشيء عن هولندا وبلجيكا، وبدرجة أقل عن إيطاليا. وبعد أن استعمر الإنسان الغربي الولايات المتحدة وأقام فيها نظامًا سياسيًا مستقرًا..

قام بعملية إبادة للسكان الأصليين، ثم دخلت الولايات المتحدة في تجربتها الاستعمارية فاحتلت بورتوريكو وهاواي والفلبين، ووضعت أمريكا اللاتينية تحت مظلتها بمقتضى مبدأ مونرو. وقد ترسخت الديموقراطيات الغربية عن طريق الإمبريالية إذ نجحت في تسريع التراكم الرأسمالي (الإمبريالي) من خلال نهب المستعمرات، الأمر الذي ساهم في تأسيس بنيتها التحتية المادية الضخمة المستقرة وتحقيق الرفاه الاجتماعي للمواطنين عن طريق تجريد بقية شعوب العالم من مصادرها الطبيعية والبشرية. وقد نجحت الحكومات الغربية في تصدير مشاكلها الاجتماعية حيث قامت بإرسال المجرمين والعناصر غير المستقرة اجتماعيًا والفائض السكاني إلى الشرق.

بل قامت بالتخلص من الجماعات والأقليات غير المرغوب فيها (مثل اليهود) عن طريق نقلهم إما إلى الشرق (في فلسطين) أو إلى الغرب (في أفران الغاز)، كما حلت مشكلة سوء توزيع الثروة من خلال نهب المستعمرات. ويكفي أن نعرف أن ما نهبته إنجلترا من الهند يزيد كثيرًا عما أنتجته خلال الثورة الصناعية عامة، أي أن نجاح المجتمع الإنجليزي ومشروعه التحديثي لا يمكن رؤيته بمعزل عن التراكم الاستعماري، فالسلام الاجتماعي الداخلي الذي حققه المجتمع الإنجليزي قد تحقق من خلال تصدير مشاكل إنجلترا إلى خارجها ومن خلال تحقيق التراكم الرأسمالي (الإمبريالي) بما نهبه من الآخرين.

وهنا يمكن أن نثير قضية المجتمع المدني، فمن المُلاحَظ أن البلاد التي ظهر فيها المجتمع المدني هي أساسًا البلاد صاحبة المشروع الاستعماري. ولم تنجح ألمانيا في تأسيس مجتمع مدني ربما بسبب إجهاض تجربتها الاستعمارية على يد الدول الاستعمارية الأخرى. ويلاحَظ أن معظم بلاد شرق أوربا واتحاد دول الكومنولث المستقلة (الاتحاد السوفيتي سابقًا) دول لا يوجد فيها مجتمع مدني ولا مشروع استعماري (أو لم يظهر إلا متأخرًا فلم تتم عملية النهب في روسيا القيصرية بشكل منهجي كفء، وهو ما جعل المشروع الاستعماري مكلفًا بالنسبة لهم. ثم قامت الثورة الاشتراكية وأخذ الاستعمار الروسي شكلًا مختلفًا تمامًا).

ولننظر إلى ظاهرتين تبدوان كما لو كانتا بعيدتين كل البعد وهما قيام الاستعمار الاستيطاني في أمريكا الشمالية في القرن السابع عشر بإبادة السكان الأصليين وقيام الدولة النازية بإبادة يهود أوربا في القرن العشرين. لو طبقنا نفس المنظور المعرفي الذي يُبيِّن أن الرؤية العلمانية الإمبريالية هي الرؤية الكامنة وراء معظم الظواهر الغربية، فإننا سنرى الوحدة الكامنة وراء تلك الظاهرتين. وكما أسلفنا، فإن جوهر الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية هو تحويل البشر والعالم إلى مادة نافعة.

وانطلاقًا من هذه الرؤية، قام التشكيل الاستعماري الاستيطاني في الغرب بنقل ملايين البشر باعتبارهم مادة محضة تُوظَّف وتُسخَّر وتُنقَل وتُغزَى. فتم نقل الملايين من البشر من أوربا إلى أمريكا لتوطينهم هناك، لزيادة نفعهم وتعظيم إنتاجيتهم، ولتسهيل عملية توظيفهم ولحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية لأوربا. ولنفس السبب، تم استجلاب مادة بشرية يمكن تحويلها إلى طاقة عضلية رخيصة. وماذا لو حدث أن ظهرت عوائق تقف في طريق عملية زيادة المنفعة وتعظيم الإنتاج؟

ماذا لو كانت العوائق مادة بشرية أخرى؟ الإجابة سهلة ومباشرة: مثل هذه المادة البشرية ستكون غير نافعة ولذا لابد من إزالتها. وهذا ما حدث للهنود الحمر في الولايات المتحدة، حيث كان الإنسان الأبيض يبيد الهنود في أمريكا ويقوم في نفس الوقت باصطياد السود في أفريقيا ونقلهم إلى الأرض التي أبيد سكانها. ولا يمكن فهم هذا إلا في إطار التوظيف وتعظيم الإنتاج والتعريفات البيولوجية العِرقية الصارمة. فالسود يمكن استخدامهم بسبب عدم تماسكهم الحضاري وبسبب قوتهم العضلية ولأنهم بلا حقوق، أما الهنود فكانوا يُشكِّلون كتلة حضارية متماسكة ذات حقوق تاريخية (كما أن نظام المناعة الخاص بهم كان ضعيفًا جدًا أمام الميكروبات التي حملها الإنسان الأبيض، ومن ثم كان من العسير استيعابهم في النظام الجديد).


المصدر:
عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ص197

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإمبريالية
اقرأ أيضا
عن الدعاء والتوسل والاستغاثة ج2 | مرابط
تفريغات

عن الدعاء والتوسل والاستغاثة ج2


محاضرة هامة حول مسائل الدعاء والتوسل والاستغاثة.. وهي التي أثار بها علماء السوء جدلا واسعا في الفترة الأخيرة حيث أباحوا ما يفعله العوام عند الأضرحة والقبور وحاولوا الاستدلال ببعض الآثار والأخبار وحاولوا لي أعناق النصوص وهنا توضيح لهذه المسائل ورد على تلك المزاعم وإزالة للإشكال الحادث وتبيين لعقيدة أهل السنة والجماعة في هذه المسائل.

بقلم: محمد الحسن الددو الشنقيطي
421
علامتان جعلهما الله لأهل محبته | مرابط
اقتباسات وقطوف

علامتان جعلهما الله لأهل محبته


وقد جعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول والجهاد في سبيله وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح وفي دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان وقد قال تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم إلى قوله: حتى يأتي الله بأمره فتوعد من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد الشديد

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2086
الملحد: ينكر وجود الله أم يرفض وجود الله؟ | مرابط
الإلحاد

الملحد: ينكر وجود الله أم يرفض وجود الله؟


كثير من الملاحدة والليبراليين لا ينكرون وجود الله بل يرفضون وجود الله. هم لا يريدون لأي قوة أن تفرض عليهم حدودا لشهواتهم بل يريدون الاستمتاع بالدنيا كما تتمتع البهائم فاللذة هي إلههم المعبود الذي لا يستحق أحد العبادة سواه.

بقلم: إسماعيل عرفة
739
حقوق المال في الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

حقوق المال في الإسلام


وضح لنا ديننا الواجبات المالية توضيحا تاما مجملا ومفصلا فأمرنا بأداء الحقوق المالية والإنفاق مما رزق الله وأثنى على القائمين بها وذم المانعين لها أو لبعضها وفصل ذلك فذكر الأموال التي تجب فيها الزكاة من الحبوب والثمار والمواشي والعروض والنقود وذكر شروطها ونصبها ومقدار الواجب منها ولمن تدفع للمصالح المحتاج إليها وللمحتاجين

بقلم: عبد الرحمن بن ناصر السعدي
1274
شبهات حول المرأة: المساواة الجزء الثاني | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين المرأة

شبهات حول المرأة: المساواة الجزء الثاني


يشتمل المقال على مجموعة من الشبهات المثارة حول المرأة في باب المساواة حيث يحاول العلمانيون والمشككون وأعداء الدين أن يجدوا أي باب ليدخلوا منه ويهدموا الأسرة المسلمة وفي هذه الشبهات ستجدهم يستخدمون بعض الأحاديث النبوية التي يستدلون بها على إمكان المساواة المطلقة بين الجنسين وتجدهم يستندون تارة أخرى إلى العقل والهدف في النهاية واضح والمقال يشتمل على ردود كثيرة على هذه الشبهات

بقلم: موقع المنبر
1544
دلالة المخلوقات على الخالق | مرابط
تعزيز اليقين

دلالة المخلوقات على الخالق


إن كل شيء يدل على وجود الله تعالى إذ ما من شيء إلا وهو أثر من آثار قدرته سبحانه وما ثم إلا خالق ومخلوق والمخلوق يدل على خالقه فطرة وبداهة إذ ما من أثر إلا وله مؤثر كما اشتهر في قول الأعرابي الذي سئل: كيف عرفت ربك؟ فقال -بفطرته السليمة: البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وجبال وبحار وأنهار أفلا تدل على السميع البصير؟

بقلم: سعود العريفي
382