الارتباط بالله

الارتباط بالله | مرابط

الكاتب: محمد قطب

2770 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن الناس يقبلون الخضوع للدولة في الشئون الاقتصادية والاجتماعية، لأنهم قد يصلون لدرجة من الوعي يستطيعون معها إدراك هذه الحقيقة: وهي أنهم حين يتنازلون عن بعض امتيازاتهم في هذه الشئون للمحرومين منها فإن ذلك سيعود عليهم بالخير في النهاية. أو على الأقل يخضعون لها بحكم السلطة التي تملك بها إخضاعهم لأوامرها.

 

ولكن الشأن يختلف في المسألة الخلقية. فالناس لا يتنازلون عن متاعهم ولذائذهم من أجل الدولة وحدها. وقد يدرك الفلاسفة والمشتغلون بالقضايا الفكرية أن التحلل الخلقي شر على الإنسانية يعود عليها بالبوار، ويبدد طاقتها في محيط حيواني هابط، فلا تتطلع إلى الارتفاع، ولا تجد الطاقة اللازمة له، لو اتجهت إليه.

 

ولكن غمار الناس لن يدركوا ذلك، لأنه قد لا يقع في جيلهم. فقد تظل الأمة سليمة –من الظاهر- جيلا أو جيلين أو ثلاثة، بينما التحلل الخلقي يسري في كيانها خفيا كالسوس؛ فيتعذر على الشخص العادي، أو الشخص المنجرف بطبعه وراء اللذات، أن يصدق أن تحلله هو –وهو فرد واحد- أو أن الجريمة العابرة التي يرتكبها خلسة في الظلام، يمكن أن تؤثر في خط سير المجتمع وتؤدي إلى انهياره. وحتى إذا صدّق بذهنه، فإنه –بغير تهذيب ديني- لا يستطيع أن يمتنع عن اللذة العارمة التي يحسها من أجل خطر لا يرى أنه سيقع عليه مباشرة، حتى إذا وقع في نفس الجيل.

 

فإذا فرضنا أن الدولة من عندها –أي بالقوانين الأرضية وحدها- تعاقب على الجرائم الخلقية حين تضبطها، فهي لن تستطيع أن ترى كل جريمة، ولا أن تتعقب كل مجرم. وسيفلت منها كثير من الجرائم بلا إثبات ولا عقاب. ومع ذلك فهذا فرض نظري في الوقت الحاضر، فدول الغرب “المتحضر” كلها لا تكاد تعاقب على هذه الجرائم إلا حين تقع كرها أو على القاصرين!

 

وإنما يحتاج الامتناع عن الجريمة الخلقية إلى الارتباط بالله. وذلك وحده هو الضمان.
الارتباط بالله هو الذي يهذب النفس فلا تندفع وراء الجريمة.

 

وهو الذي يقيم أهدافا أعلى من أهداف الأرض تستنفد الطاقة الجسدية والنفسية الفائضة فتصرفها عن عالم الشهوات.
وهو الذي يقيم في داخل النفس حسيبا يراقب كل عمل لا تصل إليه يد القانون ولا تبصره عين الدولة.
وهو الذي يعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة التي يتركها في الأرض، أملا في النعيم الدائم في السماء.
وهو الذي يحدث في نهاية الأمر رهبة من الجريمة أقوى من رهبة الدولة والقانون.

 

وبهذه العوامل كلها مجتمعة ومممتزجة في العقيدة، يمتنع الناس عن ارتكاب الجريمة. فإذا أضيف إلى ذلك أن تكون القيود التي تفرضها العقيدة معقولة في ذاتها لا تحرم إلا المتاع الزائد عن الحد، ولا تكبت الشهوات من منبتها، فقد استوت لها العدالة مع القدرة على التهذيب. وذلك ما يتحقق في العقيدة الإسلامية التي تعترف بالشهوات على أنها الأمر الواقع بالنسبة للبشر: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ..) ولكنها فقط تهذب التنفيذ العملي لهذه الشهوات، فتقف بها عند الحد الذي لا يؤذي الفرد ولا المجتمع، ويتيح في الوقت ذاته قسطا معقولا من المتاع

 


 

المصدر:

  1. محمد قطب، في النفس والمجتمع
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأستاذ-محمد-قطب
اقرأ أيضا
القرآن والعلم | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر مقالات

القرآن والعلم


تتجدد العلوم الإنسانية مع الزمن على سنة التقدم فلا تزال بين ناقص يتم وغامض يتضح وموزع يتجمع وخطأ يقترب من الصواب فلا يطلب من كتب العقيدة أن تطابق مسائل العلم كلما ظهرت مسألة منها لجيل من أجيال البشر ولا يطلب من معتقديها أن يستخرجوا من كتبهم تفصيلات تلك العلوم كما تعرض عليهم في معامل التجربة والدراسة

بقلم: عباس محمود العقاد
2415
لماذا نحب الرسول الجزء الأول | مرابط
تفريغات

لماذا نحب الرسول الجزء الأول


في هذه المحاضرة يدور الحديث حول محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطريق إليها معناها وأهميتها واجباتها ومستلزماتها وما ينبغي أن يكون موقف المسلم تجاه نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم وهذا الموضوع على درجة عظيمة من الحساسية لما وقع الناس فيه من أهل الإسلام أهل القبلة بين الإفراط والتفريط هذا الموضوع ينبغي أن يفتح كل مسلم قلبه وسمعه لتفاصيله ويتذكر حتى ولو لم يتعلم شيئا جديدا ويستعيد إلى نفسه وقلبه ذكريات هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ويتذكر حقوق رسول الله وواجباته

بقلم: محمد المنجد
840
قصة الله محبة وموقف الأناجيل منها ج1 | مرابط
فكر مقالات

قصة الله محبة وموقف الأناجيل منها ج1


وقال لى أحدهم وهو يحاورنى: إننا نرى أن الله محبة على عكس ما ترون فأجبت ساخرا كأننا نرى الله كراهية إن الله مصدر كل رحمة وبر وكل نعمة وخير وصحيح أننا نصفه بالسخط على الفجار والظلمة والأمر فى ذلك كما قال جل شأنه ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين أفليس الأمر كذلك لديكم إنكم تخدعون العالمين بذكر هذه الكلمة وحدها ووضع ستائر كثيفة على ما عداها من كلمات تصف الجبروت الإلهى بأشد مما ورد فى الإسلام

بقلم: محمد الغزالي
782
المسألة فيها خلاف الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات

المسألة فيها خلاف الجزء الثاني


كان الناس قبل عقود -بل سنوات- قليلة إذا تباحثوا في مسألة ما قال أحدهم: ما الدليل واليوم وبعد أن سمع فتوى فلان وفلان قال لك: المسألة فيها خلاف فرد التنازع إلى الخلاف لا إلى الدليل من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وبدلا من أن يجعل القرآن والسنة حاكمين عند الاختلاف جعل الاختلاف حاكما عليهما ومرد ذلك إلى الجهل والهوى والتساهل والتهاون في اتباع الشرع والأخذ بالدليل

بقلم: علوي بن عبد القادر السقاف
1753
أساليب الخطاب في القرآن الكريم | مرابط
تفريغات

أساليب الخطاب في القرآن الكريم


وهذا الزمان الذي كثرت فيه الأخطاء ووقعت فيه المصائب على الأمة تعالوا ننظر إلى لغة الحوار والخطاب من الدعاة إلى المدعوين ومن العلماء إلى من يعلمون ومن المدرسين إلى تلامذتهم ومن الأزواج إلى زوجاتهم ومن الآباء إلى أبنائهم نعلم أن هناك أخطاء كثيرة وجسيمة ولكن هل هذا الزمان زمان التقريع وعد الأخطاء وجلد الظهور بالسياط وإبراز هذه المشاكل الضخمة بصورة قد تقعد صاحبها عن الحركة وعن العمل وعن إعادة الإصلاح من جديد أم زمن مد اليد وبث الأمل والتفاؤل في النفوس وإعطاء الأمة فرصة جديدة للقيام وهي لا شك ست

بقلم: د راغب السرجاني
801
الدليل العقلي عند السلف ج1 | مرابط
أبحاث

الدليل العقلي عند السلف ج1


والحق أنهم -أي السلف- أيقنوا بغناء الدلائل الشرعية بالبراهين العقلية الفطرية وكفايتها عن الابتداع في دين الله وهذا جوهر الخلاف بينهم وبين مخالفيهم فإن المخالفين لما اعتقدوا أن الدلائل النقلية تعرى عن البراهين العقلية قادهم ذلك إلى ابتداع دلائل على مسائل الدين بل جمعوا بين الابتداع في الدلائل والإحداث في المسائل. ولو أنهم علموا أن دلائل القرآن العقلية لها صفة الثبات والاستمرارية إلى يوم الدين بحيث لا يفتقر في الاستدلال على أصول الدين إلى غيرها لما وقعوا في هذه المشاقة.

بقلم: عيسى بن محسن النعمي
453