الارتباط بالله

الارتباط بالله | مرابط

الكاتب: محمد قطب

2683 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن الناس يقبلون الخضوع للدولة في الشئون الاقتصادية والاجتماعية، لأنهم قد يصلون لدرجة من الوعي يستطيعون معها إدراك هذه الحقيقة: وهي أنهم حين يتنازلون عن بعض امتيازاتهم في هذه الشئون للمحرومين منها فإن ذلك سيعود عليهم بالخير في النهاية. أو على الأقل يخضعون لها بحكم السلطة التي تملك بها إخضاعهم لأوامرها.

 

ولكن الشأن يختلف في المسألة الخلقية. فالناس لا يتنازلون عن متاعهم ولذائذهم من أجل الدولة وحدها. وقد يدرك الفلاسفة والمشتغلون بالقضايا الفكرية أن التحلل الخلقي شر على الإنسانية يعود عليها بالبوار، ويبدد طاقتها في محيط حيواني هابط، فلا تتطلع إلى الارتفاع، ولا تجد الطاقة اللازمة له، لو اتجهت إليه.

 

ولكن غمار الناس لن يدركوا ذلك، لأنه قد لا يقع في جيلهم. فقد تظل الأمة سليمة –من الظاهر- جيلا أو جيلين أو ثلاثة، بينما التحلل الخلقي يسري في كيانها خفيا كالسوس؛ فيتعذر على الشخص العادي، أو الشخص المنجرف بطبعه وراء اللذات، أن يصدق أن تحلله هو –وهو فرد واحد- أو أن الجريمة العابرة التي يرتكبها خلسة في الظلام، يمكن أن تؤثر في خط سير المجتمع وتؤدي إلى انهياره. وحتى إذا صدّق بذهنه، فإنه –بغير تهذيب ديني- لا يستطيع أن يمتنع عن اللذة العارمة التي يحسها من أجل خطر لا يرى أنه سيقع عليه مباشرة، حتى إذا وقع في نفس الجيل.

 

فإذا فرضنا أن الدولة من عندها –أي بالقوانين الأرضية وحدها- تعاقب على الجرائم الخلقية حين تضبطها، فهي لن تستطيع أن ترى كل جريمة، ولا أن تتعقب كل مجرم. وسيفلت منها كثير من الجرائم بلا إثبات ولا عقاب. ومع ذلك فهذا فرض نظري في الوقت الحاضر، فدول الغرب “المتحضر” كلها لا تكاد تعاقب على هذه الجرائم إلا حين تقع كرها أو على القاصرين!

 

وإنما يحتاج الامتناع عن الجريمة الخلقية إلى الارتباط بالله. وذلك وحده هو الضمان.
الارتباط بالله هو الذي يهذب النفس فلا تندفع وراء الجريمة.

 

وهو الذي يقيم أهدافا أعلى من أهداف الأرض تستنفد الطاقة الجسدية والنفسية الفائضة فتصرفها عن عالم الشهوات.
وهو الذي يقيم في داخل النفس حسيبا يراقب كل عمل لا تصل إليه يد القانون ولا تبصره عين الدولة.
وهو الذي يعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة التي يتركها في الأرض، أملا في النعيم الدائم في السماء.
وهو الذي يحدث في نهاية الأمر رهبة من الجريمة أقوى من رهبة الدولة والقانون.

 

وبهذه العوامل كلها مجتمعة ومممتزجة في العقيدة، يمتنع الناس عن ارتكاب الجريمة. فإذا أضيف إلى ذلك أن تكون القيود التي تفرضها العقيدة معقولة في ذاتها لا تحرم إلا المتاع الزائد عن الحد، ولا تكبت الشهوات من منبتها، فقد استوت لها العدالة مع القدرة على التهذيب. وذلك ما يتحقق في العقيدة الإسلامية التي تعترف بالشهوات على أنها الأمر الواقع بالنسبة للبشر: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ..) ولكنها فقط تهذب التنفيذ العملي لهذه الشهوات، فتقف بها عند الحد الذي لا يؤذي الفرد ولا المجتمع، ويتيح في الوقت ذاته قسطا معقولا من المتاع

 


 

المصدر:

  1. محمد قطب، في النفس والمجتمع
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأستاذ-محمد-قطب
اقرأ أيضا
كيف نعلم الطقس غدا وهو من الغيب؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

كيف نعلم الطقس غدا وهو من الغيب؟


قد يقول قائل: إن من أمور الغيب التي استأثر الله بها إنزال الغيث والعلم بما في الأرحام فكيف تخبر النشرة الجوية عن جو الغد أصحو أم ماطر؟ ويكشف العلم عما في بطن الحامل: هل هو ذكر أم أنثى؟

بقلم: علي الطنطاوي
243
مخالفة المرجئة لمنهج السلف: إخراج العمل عن الإيمان | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين تفريغات مناقشات

مخالفة المرجئة لمنهج السلف: إخراج العمل عن الإيمان


ومنهج أهل السنة والجماعة في قضايا الإيمان والتوحيد أن الإيمان قول وعمل واعتقاد وهذا خلافا للمرجئة فالإيمان بإجماع أهل السنة والجماعة: تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان والإيمان قول وعمل القول باللسان فإذن قول القلب وعمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح الإيمان حقيقة مركبة من هذه الأشياء الأربعة وفي هذا المقال بيان لحقيقة الإيمان وخلاف المرجئة فيه

بقلم: محمد صالح المنجد
1217
العبر من الحروب الصليبية الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

العبر من الحروب الصليبية الجزء الثاني


عندما نختار أن نأخذ مرحلة الحروب الصليبية بالذات فإن ذلك له دلالته الخاصة من جهة أنها تحكي أو تشابه الواقع الذي نعيشه الآن والمرحلة التي تحياها هذه الأمة في ظل هذه الهجمة الخبيثة الماكرة التي يستجمع الغرب فيها قواه مرة أخرى فما أشبه الليلة بالبارحة إن المؤرخين يقولون: التاريخ يعيد نفسه ونحن نقول: سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا هذه هي سنة الله تعالى في الأمم وبالذات في الأمة الإسلامية كل حياتها كر وفر وكل مواقفها إقبال وإدبار

بقلم: سفر الحوالي
672
مش متدين لكنه طيب | مرابط
أباطيل وشبهات فكر تفريغات

مش متدين لكنه طيب


يناقش الدكتور إياد قنيبي العبارة الرائجة على ألسنة عوام الناس فلان مش متدين لكنه طيب في محاولة لتوضيح مفهوم التدين وكيف أنه يشمل كل خلق حميد وكل صفة حسنة وأن على المسلمين التحلي بكل هذه الصفات وإدخالها في مفهوم التدين لديهم وعدم حصره في بعض الشعائر والمظاهر فقط

بقلم: د إياد قنيبي
2094
أسباب الوضع المأساوي للمسلمين اليوم | مرابط
تفريغات

أسباب الوضع المأساوي للمسلمين اليوم


إن المشكلة ليست مشكلة دولة أو مجتمع أو فرد وإنما هي مشكلة أمة كاملة أمة عاشت سنوات تقود غيرها فإذا بها اليوم تقاد أمة رفعت رأسها قرونا فإذا هي اليوم تطأطئ رأسها للشرق وللغرب أمة ظلت دهرا تعلم الناس الخير وتضرب لهم الأمثال في الأخلاق وتأخذ بأيديهم إلى طريق الله عز وجل فإذا بها بعد أن عرفت طريق الهدى وعرفت به تتبع هذا وذاك وهذه مشكلة خطيرة

بقلم: د راغب السرجاني
763
ذكر الربا وآكله في السنة | مرابط
تفريغات

ذكر الربا وآكله في السنة


الربا من السبع الموبقات ودليل ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين والحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتنبوا السبع الموبقات قيل: وما هي يا رسول الله؟! قال: الشرك بالله والسحر

بقلم: سعيد بن مسفر
323