الاستبدادان

الاستبدادان | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

2265 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ما هو الاستبداد؟

نحن نردد دومًا كلمة (الاستبداد)، ونرميها بكل عبارات الذم والقدح والعيب، لكن هل تساءلنا قبل ذلك: ما هو الاستبداد؟
 
الاستبداد في معناه العام هو الخضوع لسلطة غير موضوعية، ويزيد الأمر أحيانًا إلى محاولة خلق المستندات والحيثيات التي تبرر إكراهات هذه الاستبداد.
 
وبناءً على ذلك فالاستبداد في حقيقته ليس نوعًا واحدًا كما يتصور الكثيرون، بل هو على مستويين: استبداد داخلي، واستبداد خارجي، ولكل نوعٍ من نوعي الاستبداد ضحاياه.
 

مستويات الاستبداد

فضحايا (الاستبداد الداخلي) يغالون في مفهوم طاعة ولاة الأمور فوق القدر الشرعي المأمور به، وينفرون من الاحتساب على الولاة والحكام، ويميلون للتفهم الشرعي لكل أمر يأمر به المسؤولون، ويبحثون في النصوص الشرعية أو التراث الإسلامي لتبرير وتسويغ أوامر المستبد، حتى لو كان بنوع من التطويع، ويتحدثون عن المستبد الداخلي بعبارات الانبهار والتفخيم مثل: طويل العمر، وحبيبنا المفدى، وسيدي فلان، ونحو ذلك، وكل ذلك نتيجة (انهيارهم النفسي) أمام نفوذ المستبد الداخلي.
 
 وضحايا (الاستبداد الخارجي) يميلون للتفهم الشرعي قدر الإمكان لثقافة الغرب المنتصر في السياسة والاجتماع والحكم، ويبحثون في النصوص الشرعية أو التراث الإسلامي لتبرير وتسويغ مفاهيم الثقافة الغربية، حتى لو كان بنوع من التطويع، ويتحدثون عن المستبد الخارجي بعبارات الانبهار والتفخيم مثل: المعجزة الغربية، الحضارة الغربية، ونحو ذلك، وكل ذلك نتيجة (انهيارهم النفسي) أمام نفوذ المستبد الخارجي.
 
وتجد ضحايا (المستبد الداخلي) لو قلت لهم أنتم تميلون لتطويع النصوص والتراث لأوامر المستبد الداخي؛ لغضبوا عليك، ورأوك جائرًا ظالمًا في الحكم والتقييم، ويرددون لك بأنهم لديهم نصوص وهم أقرب للشريعة منك.
 
وهكذا أيضًا: تجد ضحايا (المستبد الخارجي) لو قلت لهم أنتم تميلون لتطويع النصوص والتراث لثقافة المستبد الخارجي؛ لغضبوا عليك، ورأوك جائرًا ظالمًا في الحكم والتقييم، ويرددون لك بأنهم لديهم نصوص وهم أقرب للشريعة منك.

 

آلية تطويع النصوص الشرعية

 
لكن لو تساءلنا: ما هي الآلية الداخلية التي يتم من خلالها تطويع النصوص الشرعية لأفكار المستبد، سواءً المستبد الداخلي أو المستبد الخارجي؟
 
الواقع أن الأمر يتم على هذه الصورة: تجد كثيرًا من النصوص الشرعية تحتمل عدة دلالات نتيجة طبيعة بنيتها اللغوية (وهي قضية دلالية/سيميولوجية)، وعلماء المسلمين يتعاملون مع هذه الاحتمالات الدلالية بـ (منهج علمي) لتحديد الدلالة التي تعبر عن مراد الله، هذا هو المسار الطبيعي للعالم المستقل المتحرر من نوعي الاستبداد، أما الخانع لأحد نوعي الاستبداد فإنه لا يرجِّح بين هذه الاحتمالات الدلالية بمنهج علمي، وإنما ينتقي من هذه الدلالات ما يتوافق مع اتجاه المستبد الذي يخضع له، سواءً كان مستبدًا داخليًا أو خارجيًا، فصار المرجح في الاحتمالات الدلالية للنصوص ليس (المنهج العلمي) وإنما (هوى المستبد) الداخلي أو الخارجي.
 
 
والخنوع للمستبد الداخلي يكثر عند بعض المنتسبين للسلفية ممن يسميهم السلفيون (أدعياء السلفية)، بينما الخنوع للمستبد الخارجي يكثر عند بعض المنتسبين للثقافة المعاصرة.
 

هيمنة الثقافة الليبرالية

ونحن اليوم في عصر (الليبرالية)، ولحظة انتصار وهيمنة (النموذج الليبرالي الغربي)، ولذلك تغزونا مقولاتها المدججة بأقوى وسائل التأثير، وتفرض على تفكيرنا أولوية أسئلتها وإشكالياتها، وتزودنا بقوالب تشكّل تفكيرنا، وتمارس استبدادًا عقليًا ونفسيًا على كثير من المتطلعين للثقافة المعاصرة، فحين تقرأ كتاباتهم أو تسمع كلامهم لا تخطئ عينك تلك الهزيمة المضمرة بين حروفهم، وتشعر أحيانًا أن الكاتب يحاول أن يستقل، لكن ينهار مرة تلو مرة، ويظل تواقًا إلى مشابهة المنتصر في أفكاره، يشعر أنه الأقوى والأصح كلما شابهه.
 
وأحيانًا كثيرة يمارس الشخص هذه الهزيمة للمستبد الخارجي دون وعي، نتيجة انتشار مفاهيم المستبد الخارجي وتعملقها في تفاصيل أوعية المعرفة المعاصرة، فيتشربها من خلال الحوارات الفضائية، أو الرواية الحديثة، أو النص السينمائي، أو العمود الصحفي، أو التقرير الإخباري، الخ. دعنا نضرب أمثلة لهذا الاستبداد الخارجي، والخنوع الذي يعيشه الكثيرون لأفكار ومفاهيم وتصورات المستبد الخارجي:
 

نماذج محلية


تجد بعض الناس صارت أهم قضاياه هي (الموقف من المخالف) وتجد لديه تأزم حقيقي في هذا الموضوع، برغم أنه موضوع عادي جدًا خلال التراث الإسلامي، بكل ما فيه من نقد المخالف، وكان العلماء وأئمة السلف ينتقدون المخالف بكل وضوح وحسم، ولو سألته: لماذا صار الموقف من المخالف (أزمة) فقط في هذه اللحظة التأريخية التي انتصر فيها النموذج الليبرالي الذي يشيع روح المغالاة في الحرية؟ لربما كان هذا السؤال بالنسبة له مفتاحًا للتفكير المستقل في هذا الموضوع.
 
وتجد البعض الآخر صار يعتبر أن الحديث عن خطر الرافضة وبيان ضلالهم وتفنيد شبهاتهم (طائفية مذمومة)، حسنًا.. لقد كان أهل السنة طوال التاريخ يقولون في الرافضة ما لم يقل الدعاة المعاصرون مده ولا نصيفه، فلماذا صار الحديث عن ضلال الرافضة أزمة وطائفية في هذا العصر الذي انتصر فيه النموذج الغربي الليبرالي الذي يمنع المساس بالطوائف؟ أتمنى أن يكون هذا السؤال -أيضًا- مفتاحًا للتفكير خارج استبداد المستبد الخارجي.
 
وتجد بعض الناس يقول لك (انتقد الأشخاص لا الأفكار)، طيب.. ألم يكن السلف يا أخي الكريم ينتقدون الأشخاص والأفكار كلاهما، فلم يكن لدى السلف أصلًا هذا التمييز (إنقد الفكرة لا الشخص)!، ألا ترى أننا صرنا خاضعين لسحر النموذج الليبرالي الذي يغلو في حرية الأشخاص ويرفع حساسية الموضوع ؟
 
وبعض الناس صار لديه مشكلة مع (شريعة إنكار المنكر) لأنها تخالف الحرية التي تشربها من النموذج الليبرالي المهيمن، فتراه إذا شاهد أحدًا ينكر منكرًا قال: هذا إقصاء، أو هذه وصاية، الخ. وعبارة (إقصاء ووصاية) ليست مجرد تعبير أدبي، بقدر ما هي تحمل (ثقافة) تنبض بالليبرالية في داخلها.
 
ومن المقولات الليبرالية التي راجت بين كثير من المنتسبين للثقافة المعاصرة عبارة (تكلم لكن لا تمد يدك) وقريب منها عبارة (تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين)، فإذا سألته: لماذا يجوز أن تتكلم لكن لا يجوز أن تمد يدك؟ قال لك: حرية التعبير متاحة، لكن أن تمد يدك فهذا عدوان. حسنًا يا أخي الكريم.. فإذا كان الكلام عدوانًا على الله أو رسوله أو الصحابة أو أحد شرائع الإسلام الخ، فهل سيبقى الكلام أهون من اليد؟!
 
مثل هذه المقولات ليست مجرد آراء، بل هي (معايير) تجري في عروقها دماء الليبرالية الغربية، حيث تفرق بين الرأي والفعل، وتميل إلى فتح المجال للرأي إلى نهاية الطريق، بينما تميل إلى ضبط الفعل بالقوانين، وهذا طبعًا نسبي عندهم.
 

عقيدة المسلمين

لكن هل هذا التصور موجود عندنا نحن المسلمين؟ لا، طبعًا فنحن المسلمين نعتبر العدوان على الله ورسوله أعظم من العدوان على حق شخصي، لأن الله ورسوله أعظم في نفوسنا من كل أحد، بخلاف هذا الغربي المسكين الذي لا يعظم إلا نفسه، فالرأي المنحرف في ميزان الشريعة قد يكون أخطر من الفعل المنحرف، والعدوان بالرأي على الشريعة، قد يكون أعظم من العدوان بالفعل على المسلمين، وقد وضح هذا ابو العباس ابن تيمية حيث يقول:
 

"والمحاربة باللسان في باب الدين قد تكون أنكى من المحاربة باليد..، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتل من كان يحاربه باللسان، مع استبقائه بعض من حاربه باليد..، وكذلك الإفساد قد يكون باليد، وقد يكون باللسان، وما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد" (ابن تيمية، [الصارم المسلول، 3/735]، ت الحلواني وزميله).
 

فتأمل كيف جعل ابن تيمية عدوان الكلمة أضر على الشريعة من عدوان اليد في كثير من الأحيان، ثم قارن ذلك بالعبارة الليبرالية (تكلم لكن لا تمد يدك). وهكذا أيضًا تجد التأزمات الحديثة مع منظومة التشريعات المخالفة لغلو الحرية في الثقافة الليبرالية، مثل: عقوبة المرتد، وأحكام أهل الذمة، وجهاد الطلب، الخ.
 

التعامل مع ضحايا الاستبداد

ومع ذلك كله.. فكلا الشريحتان، أعني ضحايا الاستبداد الداخلي، وضحايا الاستبداد الخارجي؛ يحتاجان من دعاة الإسلام إلى الرفق والهدوء، وأن يوضحوا لضحايا الاستبدادين كيف يخرجون من هذا الخنوع الذي يعيشونه؟ وكيف يتنفسون الاستقلال الحقيقي المتكامل؟ وكيف يتحررون من كافة أشكال الاستبداد؟. بحيث لا يرضى المثقف المسلم بأن يكون رقيقًا لمستبد داخلي يشرعن أوامره الهرقلية، ولا رقيقًا لمستبد خارجي يشرعن ثقافته الليبرالية.
 
وما أكثر ما يكون ضحية الاستبداد غير واعٍ بحاله، يتوهم أنه مستقل وهو يرسف في الأصفاد منذ أزمان..
 
وأهم وسائل العلاج على الإطلاق: ضخ مفاهيم العزة والكرامة والإباء والشموخ وقيمة المسلم ونحو هذه المنظومة المفاهيمية، بحيث يتأبى من نشأ في مثل هذه الثقافة العزيزة الشامخة أن يخنع وينصاع لمستبد داخلي لا يراك أهلًا لأن تشارك في القرار، ويطلب منك أن تمد معاريضك فقط، أو مستبد خارجي لا يراك أهلًا لأن يكون لك منظومتك التشريعية الخاصة، فيهينك لكي تكون تبعًا له تؤمن بالحرية الليبرالية والديمقراطية وتؤول نصوص الله ورسوله لكي تتوافق مع ثقافته الغربية.

 


 

المصدر:

http://iswy.co/e11vdl

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إبراهيم-السكران #الاستبداد
اقرأ أيضا
تحريف مفهومي الرجولة والأنوثة | مرابط
فكر

تحريف مفهومي الرجولة والأنوثة


كثير من الشباب في هذه الأيام في حاجة إلى إعادة تأهل ليكون رجلا قبل أن يكون زوجا أو صديقا أو موظفا.. الرجولة والشهامة والصلابة في خطر يا رجال. وكذلك كثير من البنات هذه الأيام في حاجة إلى إعادة تأهل لتكون امرأة وأنثى قبل أن تكون زوجة أو صديقة أو مربية.. الأنوثة والأمومة في خطر شديد هذه الأيام.

بقلم: سلطان العميري
230
كيف تنمي مهارة الحفظ؟ | مرابط
مقالات ثقافة

كيف تنمي مهارة الحفظ؟


وأما الهمة وإدمان النظر فقد سئل الإمام البخاري رحمه الله عن دواء للحفظ فقال: لا أعلم شيئا أنفع للحفظ من نهمة الرجل ومداومة النظر وأهل العلم كان يكررون قراءة الكتاب الواحد مئات المرات فمثلا نجد الإمام المزني رحمه الله يقول: قرأت الرسالة خمسمائة مرة ما من مرة إلا واستفدت منها فائدة جديدة

بقلم: محمد سالم بحيري
207
التعليل المادي للشريعة | مرابط
مقالات

التعليل المادي للشريعة


كثير من غلاة المدنية في محاولتهم لتكريس أهمية الشأن المدني يحاولون ربط الشعائر والشرائع بالحضارة فتراهم يقولون إن غاية الشعائر هي تهذيب الأخلاق الاجتماعية وغاية التشريع هو سياسة المصالح العامة .. وفي هذا المقال الموجز يناقش إبراهيم السكران هذه الفرضيات.

بقلم: إبراهيم السكران
393
الجنس الثالث | مرابط
المرأة

الجنس الثالث


وفي الوقت الذي يتجرع فيه الغرب آثار خروج المرأة على فطرتها ووظيفتها كان بعض كتابنا ومفكرينا ينادون بأن نأخذ في ذلك الطريق الذي انتهى بالغرب إلى ما هو فيه من مشاكل اجتماعية واقتصادية هزت دعائم مجتمعه هزا عنيفا أفقده استقراره واتزانه وعرض سلامته وكيانه لأشد الأخطار

بقلم: محمد محمد حسين
261
مشكلة خفاء الله | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات الإلحاد

مشكلة خفاء الله


يعترض الملاحدة على دعوى وجود إله بالقول: إذا كان الإله موجودا حقيقة فيجب أن يكون وجوده شديد الظهور فلا يرتاب فيه بشر يدرك يمينه من شماله ولكن واقعنا اليوم يخبر أن طوائف من الناس ملحدة لا تجد حجة تلزمها بهذا الاعتقاد وتعرف هذه الشبهة المنتشرة بين الملاحدة بمشكلة الخفاء الإلهي divine hiddenness وهي تقوم على زعمين أولهما: أنه إذا كان الله موجودا فلا بد أن يكون وجوده واضحا للجميع بلا أدنى ريبة وثانيهما: أن وجود الله غير بين لجل الناس وفي المقال الذي بين يدينا يقف المؤلف على هذه الشبهة ويمحصها و

بقلم: سامي عامري
1778
الرد على المفوضة الجزء الأول | مرابط
تفريغات

الرد على المفوضة الجزء الأول


وردت الكثير من الشبه حول مسألة التفويض في آيات الصفات ونسبتها إلى أهل السنة وعقيدة السلف في هذه ذلك هو الإيمان بالمعنى وتفويض الكيف أما المعطلة فيظهر فساد مذهبهم في ذلك وتأثرهم بعلم المنطق وبين يديكم تفريغ لمحاضرة للشيخ الألباني يرد فيه على المفوضة وعلى من نسب عقيدتهم إلى السلف

بقلم: الشيخ الألباني
783