التقعر في الكتابة

التقعر في الكتابة | مرابط

الكاتب: د جمال الباشا

415 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الكتابة هي إحدى وسائل التعبير عما يعتلج في النفس من أفكار، وهي كالكلام من هذه الناحية، وكل منهما قد يتسم بالبلاغة واستعمال البديع وقد يتسم بالركاكة والحشو والتقعر.

وقد جاء في السنة المطهرة نهي صريح عن بعض صفات التكلم كالتشدق والتنطع والتفيهق، وهي كلمات تدور حول معنى التكلف والتصنع وإخراج الكلام عن حده الطبيعي الذي يتحدث به الناس عادة، واختيار المفردات الغريبة والتراكيب العويصة في طرح أي موضوع يتناوله سواء أكان لفظيا أم كتابيا.

والذي حملني على التعرض لهذا الموضوع رصدي لبعض المبرَّزين من الخطباء أو الكتاب الذين أغرقوا في الأسلوب الأدبي إلى حدِّ الغلو فلم يعودوا قادرين على تناول أي موضوع بشكل عفوي وبلغة بسيطة يفهمها عامة الناس، حتى لو كانت الفئة المستفيدة من عموم الناس وليسوا من طلبة العلم ولا الأدباء، ولا يخفى كم في هذا المنحى من حظوظ النفس والتفات القلب إلى مدح الناس وإطرائهم أكثر من التفاته إلى نفعهم والنصح لهم.

تجد بعض الكُتاب يذهب بك بعيدًا فيُشرِّقُ ويُغرِّب وربما سحرك بجمال صياغاته وتراكيبه ثم إذا أنهيت المقال لا تكاد تُمسك بأصل الموضوع ولا تستطيع حصرَ الفكرة التي تناولها ولا مراده منها، ولو سألت المعجبين الذين ينهالون عليه بعبارات الثناء والتبجيل ما هي خلاصة المقال؟ هل لكم أن توجزوا الفكرة ببساطة ووضوح؟!
سوف يجيبونك بالعجز عن ذلك!!

ومعلوم أنَّ الكتابة الأدبية كتابة خاصة تتضمن صورًا من التشبيه كالمجاز والكنايات، ويراعى فيها البديع كالسجع والطباق والجناس، مما يجعله مناسبا في مقامه الخاص كالمنتديات الشعرية والصالونات الأدبية التي يرتادها المثقفون ذوو الذائقة الخاصة فيستمتعون بها ويحلقون معها، وهذا ما درج عليه بعض من كتب قديما كالحريري في مقاماته، وابن الجوزي في مدهشه، وحديثا كالرافعي ومحمود شاكر والمنفلوطي وغيرهم، وهذا الأسلوب لن يكون محبذا في كل مقام ولا مع كل أحد، فخطبة الجمعة أو المقالة العلمية أو الفقهية أو الموعظة المركزة كل هذا يجب أن يكون الهدف الأساس منه إيصال المعاني والمضامين إلى السامعين وليس إمتاعهم وإبهارهم بقوة البلاغة وبراعة العرض وسعة الإحاطة بالغريب.

وربما يتوهَّم بعض الناس أنَّ البلاغة والفصاحة هي تلك اللغة المعقدة المُلغِزة التي لا يفهمها أكثر الناس، ولم يعلموا أنَّ البلاغة تفيد معنى بلوغ مراد المتكلم إلى السامع، والفصاحة تفيد كذلك معنى الإفصاح والبيان الجلي، وقدرة المتكلم عن التعبير بسلاسة عما في نفسه، فيتطابق اللفظ مع المعنى من غير حشو ولا إطناب.

لقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المتنطعين بالهلاك فقال: (هلك المتنطعون. قالها ثلاثا).
وقد كان هديه صلى الله عليه وسلم أحسن الهدي وأكمله في الكلام دعوةً وتعليمًا وخطابةً وتحاورًا، وفي الأمور كلها.
وكان من هديه في الكلام ما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فصلاً يفهمه كل من يسمعه".

يعجبني في هذا المقام ما قاله الجاحظ: "ومتى كان اللفظ كريمًا في نفسه، متخيرًا في جنسه، وكان سليمًا من الفضول بريئًا من التعقيد، حُبِّب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحَم بالعقول، وهشت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب... ولم أجد في خطب السلف الطيب، والأعراب الأقحاح ألفاظًا مسخوطة، ولا معانيَ مدخولة، ولا طبعا رديًا، ولا قولاً مستكرهًا".

وأخيرًا أقول:

إنَّ المحسنات البديعية والصور المجازية في اللغة هي بمثابة الملح والتوابل التي تضفي نكهة طيبة على الطعام، فإذا كانت هي البديل عن الطعام ذاته أو زادت عن حد الاعتدال فقدت قيمتها وكرهها الطبع السليم والمزاج المعتدل

 


 

المصدر:

قناة تيليجرام الخاصة بالدكتور جمال الباشا

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الكتابة
اقرأ أيضا
لن تسرقوا منا رمضان | مرابط
فكر مقالات

لن تسرقوا منا رمضان


لماذا لم نتفكر بجدية في سر هذا السعار الفني والإعلامي في رمضان؟! لماذا يغرسون تلك المفاهيم الخفية التي تغير من طبيعة رمضان في الوجدان المسلم؟! لماذا يتحول رمضان إلى شهر مسلسلات وبرامج مسابقات وتفاهات وفوازير وسهرات؟! ما علاقة رمضان بالدورات الرياضية أو بالخيام الترفيهية؟!

بقلم: محمد علي يوسف
269
بالمساواة يتحقق العدل | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

بالمساواة يتحقق العدل


المساواة هي الشعار البراق اللامع الذي يرفعه الكثير من الناس ويقدمونها كأنها قيمة مثالية عليا متى تحققت صلح الواقع وبالتالي فلا يحق لأحد معارضتها أو إنكارها ولكن الحقيقة أن هذا الشعار البراق هو محض وهم فالمساواة ليست دائما حسنة ومن هنا يقف بنا المقال عند قيمة العدل وقيمة المساواة للتفريق بينهما وفهم ميدان عمل كل واحد منهما

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2144
الوسائل المعينة على القيام لصلاة الفجر في جماعة ج1 | مرابط
تفريغات

الوسائل المعينة على القيام لصلاة الفجر في جماعة ج1


نريد أن نصلي الفجر في جماعة كل يوم وهناك وسائل تساعدنا على المحافظة على صلاة الفجر والابتكار في هذه الوسائل يا إخواني مفتوح فأي شخص عنده وسيلة توقظ لصلاة الفجر فلينصح بها وبين يديكم مجموعة من الاقتراحات التي قدمها الدكتور راغب السرجاني في محاضرة هامة عن صلاة الفجر

بقلم: د راغب السرجاني
682
محاورة دينية اجتماعية الجزء الرابع | مرابط
مناظرات فكر الإلحاد

محاورة دينية اجتماعية الجزء الرابع


محاورة بين رجلين كانا متصاحبين مسلمين يدينان الدين الحق ويشتغلان في طلب العلم فغاب أحدهما عن صاحبه مدة طويلة ثم التقيا فإذا هذا الغائب قد تغيرت أحواله وتبدلت أخلاقه فسأله صاحبه عن ذلك فإذا هو قد تغلبت عليه دعاية الملحدين الذين يدعون لنبذ الدين ورفض ما جاء به المرسلون فحاوره صاحبه لعله يرجع فأعيته الحيلة في ذلك وعرف أن ذلك علة عظيمة ومرض يفتقر إلى استئصال الداء ومعالجته بأنفع الدواء وعرف أن ذلك متوقف على معرفة الأسباب التي حولته والطرق التي أوصلته إلى هذه الحالة المخيفة وإلى فحصها وتمحيصها و

بقلم: عبد الرحمن بن ناصر السعدي
1833
الرسالة القرآنية | مرابط

الرسالة القرآنية


ثم تأتي الرسالة من رب الكون إلى هذا الإنسان .. وكان أولى به أن ينظر -أول ما ينظر- إلى مرسلها ويسأل -أول ما يسأل- عن مصدرها حتى يتحقق منه يقينا. ذلك أن الإنسان عندما يتوصل عادة بأي رسالة أرضية بشرية فإنه ينظر بادئ النظر إلى اسم المرسل من هو؟ حتى إذا استقر في ذهنه اسمه قرأ الرسالة حينئذ لأنه على قدر المرسل عند المرسل إليه تكون قيمة الرسالة

بقلم: فريد الأنصاري
176
هل يحق للنسويات انتقاد وضع المرأة في الإسلام؟ | مرابط
النسوية

هل يحق للنسويات انتقاد وضع المرأة في الإسلام؟


وأما النسوية الليبرالية فليس لها أيضا انتقاد مكانة المرأة ولا أحكامها في الإسلام لأن الليبرالية تقرر نسبية الحقيقة أي الحق عندي ليس بالضرورة هو كذلك عندك وهذه سفسطة يقررها عامة الليبراليين يقول راسل: إن الفيلسوف الليبرالي لا يقول: هذا حق بل يقول في مثل هذه الظروف: يبدو لي أن هذا الرأي أصح من غيره

بقلم: حمود بن ثامر
329