الانشغال عما هو أهم

الانشغال عما هو أهم | مرابط

من المقولات الدارجة التي توجه لمن يأمر ببعض الأحكام الشرعية أو ينهى عنها أن ما تفعله هو انشغالٌ عما هو أهم، وهو إغراق في الجزئيات على حساب الكليات، ودوران في الهوامش على حساب المركز، ونحو ذلك.
هذه المقولة تنكر العناية أو الاهتمام بموضوعات معينة كالأمر بالحجاب، والنهي عن الاختلاط المحرم، والحث على الصلوات في المساجد، والمحافظة على السنن، والإنكار على بعض المحرمات بأن هذا كله انشغال بالجزئيات، مع ضرورة العناية بالكليات والأصول الكبرى.
 
ونحن هنا يجب أن نميز بين موقفين:

 

الموقف الأول:

 
أن يكون الإنكار متعلقًا بذات الأحكام، بمعنى أنها أحكام غير صحيحة، فقائل هذه المقولة لا يعترف أصلًا بأنها أحكام شرعية، وبناءً عليه فالواجب على مثله أن لا يحول النقاش إلى الجزئي والكلي، والهامشي والأصلي، بل أن يصمد إلى الموضوع ويبين وجه كون تلك الأحكام غير معتبرة ولا يعتد بها، حتى يكون محل البحث في موضعه فيكون التباحث في اعتبارها أو عدمه، وصواب رأيه من خطئه.

 

الموقف الثاني:
 

أن لا يتجه بالإنكار إلى هذه الأحكام، وإنما يتحدث عن أوزانها النسبية، فينكر الحرص على بعض الجزئيات والتفصيلات والهوامش، ويؤكد على ضرورة التركيز على الأصول والكليات.
 
والموقف الثاني هو المعبر الأظهر عند أصحاب هذه المقولة، وفرق كبير بين من يطلق هذه المقولة غير معتدٍّ بهذه الأحكام من الأساس ولا يرى لها أي اعتبار، وبين من يعتدُّ بها ويعتقد أنها أحكام شرعية لكنه يطالب بعدم الإغراق فيها، إذ هي من الجزئيات في مقابل وجوب العناية والتركيز أكثر على الأصول والكليات.
 
وقد يكون بعضهم في الحقيقة غافلًا عن تحديد موقف واضح من تلك الأحكام، وإنما يعبر عن رفضه للعناية بالجزئيات عبر هذه المقولة.
 
وعند التدقيق في هذه المقولة (الانشغال عما هو أهم) نجد أنها تؤثر سلبًا في التزهيد في أي حكم شرعي غير مرغوب فيه عند قائلها، لأن أي عنايةٍ به أو دعوة إليه أو إنكار بسببه سيكون محل تذمر ورفض من هذا القائل بسبب أنه هامشي، ويجر إلى التفريط في العناية بالأصول، وهذه المقولة في الحقيقة تتضمن مغالطات كبيرة، سيتجلى أمرها عند إدراك الحقائق التالية:

 

الحقيقة الأولى:
 


أن تقسيم الأحكام هنا إلى جزئيات وكليات، وهوامش وأصول، لا يستند إلى سبب موضوعي، ولم يرجع فيه إلى اعتبارات شرعية، فهذا التقسيم لا ينطلق من الشريعة نفسها ليعرف أصول الشريعة من فروعها، وكلياتها من جزئياتها، وإنما هي تقسيمات ذوقية مزاجية، فالدعوة إلى التوحيد مثلًا هي عند بعض الناس دعوة لجزئيات وهوامش، مع أنه في الميزان الشرعي يمثل أصل الأصول، والعناية بالعبادات وأعمال القلوب وما ينجي الإنسان في آخرته هي أمور مهمشة في نظرهم، بينما تبقى الأصول والكليات في جزءٍ من المصالح المهمة وهي الجانب المادي الدنيوي الذي يمس مصالحهم الدنيوية المباشرة.
 
فالتقسيم في الأصل مبني على غير أساس، ويزيده سوءًا واضطرابًا حين يسمي بعض أحكام الشريعة المعتبرة بالهوامش، فهو لم يكتف باضطراب التسمية بين الجزئيات والكليات، بل تجاوزه إلى الإساءة والتنقص من بعض الأحكام والتقليل من قدرها بلا سبب.

 

الحقيقة الثانية:
 


أن الانشغال بالجزئيات لا يضر في العناية بالكليات، فمن ينشغل بتفصيلات الأحكام الشرعية لا يعني أنه مفرط بكلياتها، بل إن من يفرط في الجزئيات هو الذي سيضيع الكليات وليس العكس، فمن يحرص على نوافل العبادات، ويتورع عن المحرمات، ويحرص على تتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فهو الحقيقة محافظ على الكليات الشرعية ومقوٍ لها، وليس بمنشغل عنها.

 

الحقيقة الثالثة:

 
أن التفريط في الأصول والكليات ليس له علاقة بالانشغال بجزئيات معينة على النحو الذي يصوره صاحب هذه المقولة، فإذا كان صاحبها يرى في الناس تقصيرًا في جانب مهم كالإصلاح الإداري أو المالي، أو منع الظلم، أو محاربة الفساد والرشوة، وحل مشكلة الفقر والبطالة، أو تعزيز الأخلاق الفاضلة، ونحو ذلك، فإن الحل هو في ابتعاث الهمم للاهتمام في هذه القضايا المهمة، وليس في التزهيد في قضايا أخرى، فمن يرى عليك منكرًا فينصحك بسببه ليس منشغلًا بسبب ذلك عن مشكلة الفقر، ومن السذاجة أن تتصور أن دعوته للتوقف عن الإنكار سيساهم في دفعه لحل مشكلة الفقر!
 
ومن الظريف هنا أن دعاوى الانشغال بالجزئيات إنما ترمى في وجه كل ناصح يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر فيُذكَّرُ حينها بالأصول والكليات وبكافة المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بهدف صرفه عن ما يقوم به، ولو أنه التزم الصمت فلم يأمر بمعروفٍ ولم ينهَ عن منكرٍ لما قال له أحدٌ من هؤلاء الناس شيئًا!
 
فهي للأسف أصبحت ملفاتٍ توظف للتزهيد ببعض الأحكام الشرعية، وليست دعوةً جادةً حقيقيةً للإصلاح في ملفات كبرى مهمة، فمن يريد الإصلاح فليس طريقه أن يزهد في مثل هذه الموضوعات.
 
ولهذا فالتفكير الموضوعي المستقيم لمن يرغب في تعزيز الاهتمام بموضوع يراه من المهمات والأصول الكبرى أن يحث الناس على العناية به، وينشر الأفكار المعينة لذلك، ويفتح المشاريع المعززة، فليس ضعف العناية بموضوعٍ ما ناشئًا بالضرورة من انشغال الناس بموضوعات أخرى، فالإنسان حارث همّام لا يتوقف عن العمل والنظر، فهو يقوم بأعمال كثيرة، ويهتم بقضايا متفرقة، ولا يتوقف تفكيره عن هذه الأصول بسبب أنه يفكر في أمور أخرى، يزيد هذا الأمر بيانًا:

 

الحقيقة الرابعة:

 
أن الناس في الحقيقة ينشغلون باهتمامات كثيرة هي دون هذه القضايا بكثير، فهم ينشغلون بالمباحات، ويقضون أوقاتًا كثيرة في السفر والترفيه والنزهة والرياضة واللقاءات الطويلة، كما يقضي كثير من الناس أوقاتًا طويلة في متابعة التلفاز ومشاهدة الأفلام وملاحقة تفصيلات الأخبار الاجتماعية في شبكات التواصل وغيرها، ولا تجد أحدًا يذكر لهم مقولة (الانشغال عما هو أهم).
 
وهذا شيء لافت عجيب، فهذه المقولة التي تنفجر في وجه كلِّ من يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر أو ينصح بخير، لا تكاد أن تجد لها ذكرًا متى نظر صاحبنا في انشغالات الناس التفصيلية المستهلكة للوقت والجهد، لكنه إن صادف داعية أو ناصحًا أو محتسبًا تحركت توربيناته النقدية النفاثة، وهجم بالتبكيت والتقريع والتهكم مذكرًا بضرورة الاشتغال بالكليات والأصول، ومحذرًا من مغبة التفريط فيها!
 
وربما تجد هذا الناقد غارقًا حتى أذنيه فيما غرق فيه غيره من هذه المباحات والمفضولات، بل والمحرمات، ثم لا تجده يرمي بهذه النفثة الغاضبة إلا في وجه من ينصحه ببعض الأحكام الشرعية!
 
وهذا يؤكد لك أن هذه المقولة ليست علمية موضوعية صحيحة، وأن الموضوع ليس له علاقة بأي انشغال حقيقي، ولا بجزئيات وكليات، وإنما هو توظيف لقيمة الأصول الكبرى ومكانتها للتزهيد في بعض الأحكام والحط من قدرها.

 

الحقيقة الخامسة:
 


أن من ينتقد الانشغال بالجزئيات عما هو أهم تجده ينشغل بنفس الجزئيات لكن في الجهة المقابلة لها، فحين يجد من يتحدث عن حكم شرعي تفصيلي معين كحرمة المعازف مثلًا تجده يقول: هذا انشغال بجزئيات، وتضييع للأعمار، وانصراف بالوقت عن الأصول الكبرى، ولو أن القول في المعازف كان هو الإباحة لفرح به ونصره، وبيَّن أهمية انتشار هذا الرأي ومسيس الحاجة إلى مثل هذا الاجتهاد.
 
فالجزئيات المهمشة في الحقيقة لم تعد هي المسألة ذاتها، وإنما الحكم غير المرغوب، فلا إشكال في العناية بهذه الجزئيات، وإنما المرفوض هو قول معين فيها.
 
إذا استحضرت هذه الحقائق أدركت أن مقولة (الانشغال عما هو أهم) هي حالة توظيف في خصومة فكرية، تستغل مكانة ملفات وقضايا معينة لأجل التزهيد في بعض الاحكام غير المرغوب فيها، وأنها لا تقوم على حجة صحيحة.
 
فالموضوع محل الخلاف هنا ليس له علاقة بالتأثير على العناية بأصول كبرى، فتقديم الأصول الكبرى على ما هو دونها، والعناية بالكليات أكثر من الجزئيات هي مقدمة صحيحة لا غبار عليها، فلا شك أن الضروري أهم من الحاجي، وأن المصلحة العامة أولى من المصلحة الخاصة، وأن ما يمس عموم الناس أهم مما يمس بعضهم، وأن القطعيات أولى من الخلافيات، لكن هذه المقدمات كلها لا علاقة لها بالسياق الذي تأتي فيه هذه المقولة، فهي تسعى لتوظيف هذه المعاني، وليس توظيف الطاقات لتحقيق هذه المعاني، وهو أمر ينكشف كثيرًا بملاحظة أثر السياق الذي تأتي فيه هذه المقولة.

 


 

المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص126
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#زخرف-القول
اقرأ أيضا
الركون إلى الدنيا | مرابط
تفريغات

الركون إلى الدنيا


والله عز وجل مع أنه رفع الهمة وبث الأمل ونشط المسلمين فقد علم المسلمين المنهج الواقعي في معالجة الأمور فليس معنى رفع الهمة الغفلة عن الأخطاء وعدم ذكر العيوب لا فلابد أن نذكر ولكن بصيغة لطيفة ولنرفع الهمة ونصلح الأوضاع ولنكن إيجابيين نكتشف الأخطاء ونصلحها ونرفع الهمة عند المسلمين ولا نقرع الأبدان ولا نلهب الظهور بالسياط ولكن بلطف وبرقة وببث الأمل

بقلم: د راغب السرجاني
966
من حياة عمر بن عبد العزيز ج2 | مرابط
تفريغات

من حياة عمر بن عبد العزيز ج2


لقد حمل هم الأمة خلع كل لباس إلا لباس التقوى لم يأخذ قليلا ولا كثيرا همه الآخرة لا الدنيا كانت له نظرة مختلفة عن نظرات الناس حتى مع الناس وأخذ الناس يتسابقون يوم عرفة مع الغروب إلى مزدلفة وهو يدعو ويتضرع ويقول: لا والله ليس السابق اليوم من سبق جواده وبعيره إن السابق من غفر له في هذا اليوم

بقلم: خالد الراشد
641
هل أعرض أهل الحديث عن النظر العقلي | مرابط
اقتباسات وقطوف

هل أعرض أهل الحديث عن النظر العقلي


شيخ الإسلام ابن تيمية من أكثر المنافحين عن أهل الحديث وقد رد عنهم الكثير من الشبهات والأباطيل التي أحاطت بهم وعلى رأسها مسألة إهمال العقل فقد زعم أهل الكلام أن أهل الحديث ليسوا أهلا إلا للتقليد فقط فلا يوجد مساحة للعقل عندهم وهنا اقتباس ماتع لشيخ الإسلام يرد على هذا الزعم ويوضح الخطأ في كلامهم

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2434
التحدي الأعظم ج2 | مرابط
تعزيز اليقين

التحدي الأعظم ج2


جوانب الإعجاز في القرآن الكريم لا تكاد تنقضي وكلما تأملته وتدبرته ظهرت لك تفاصيل إعجازية لم تعلم عنها من قبل سواء في لغته أو بنائه أو محتواه العلمي أو تنبؤاته إلخ وهذا الأمر ليس محصورا على العرب والمسلمين وإنما متاح لكل من يتدبر بل إن من أشهر الآيات المعبرة عن هذا الجانب قوله تعالى في سورة فصلت: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ۗ أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد 53 ومن السياق يتضح أن الآية تتحدث عن الكفار والحاصل فعلا هو أن الإعجاز العلمي في العصور المتأخرة يقوم غا...

بقلم: موقع هداية الملحدين
1553
ليس عندكم إلا ابن تيمية؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

ليس عندكم إلا ابن تيمية؟


هنا إشكالية أجنبية عن مسألتنا أجدني مضطرا إلى معالجتها قبل الولوج لمناقشة شبهة تعارض العقل والنقل وهو إستطراد اضطراري لمعالجة إشكالية يكثر تداولها عند إستجلاب أي كاتب سلفي لابن تيمية رحمه الله في مثل هذه السياقات وتتلخص هذه الإشكالية في الإعتراض الشهير: أنتم ليس عندكم إلا ابن تيمية؟

بقلم: عبد الله العجيري
1042
طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج1 | مرابط
تفريغات

طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج1


من أساليب أهل البدع في إثبات بدعهم وما أحدثوه في الدين هو تحريف آيات الكتاب وأحاديث السنة إما بلي أعناقها لإثبات مقصودهم وأهوائهم أو بتفسيرها بما يسمى عندهم بالتفسير الباطني أو تحريف الأحاديث بذكر زيادات لم تصح وغير ذلك وقد تصدى أهل العلم لهذه التحريفات بفضل الله فقاموا بتفنيد هذه الشبه وفضح أهل البدع بكل ما أوتوه من قوة وبيان

بقلم: أبو إسحاق الحويني
978