التأويل المذموم

التأويل المذموم | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

3251 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

مصطلح التأويل من أكثر المصطلحات تداولًا لدى الفرق العقدية وأكثرها حضورًا في كتبهم وأقوالهم، إذ كان من حججهم الكبار في تحريف النص، لهذا عني شيخ الإسلام ابن تيمية بدراسة هذا المصطلح لغويًا وشرعيًا وتاريخيًا، فخلص إلى النتيجة الآتية:

التأويل له معنيان:

المعنى الأول: التفسير، كما يذهب إليه بعض مفسّري القرآن حين يقول تأويل هذه الآية كذا؛ أي: تفسيرها، ومن أشهرهم ابن جرير الطبري.

المعنى الثاني: معرفة حقيقة ما يؤول إليه الشيء، وهو المراد بلفظ التأويل في القرآن كما في قوله تعالى "هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ" فتأويل الأحاديث هو نفس مدلولها الذي تؤول إليه.

وأما المعنى الثالث: الذي هو صرف اللفظ عن معناه الحقيقي إلى معنى مرجوح لدليل راجح، فهو التفسير الدارج عند المتكلمين، لكن هذا معنى محدث ليس من معاني التأويل في الكتاب والسنة ولم يعرفه أهل اللغة(1)

وفائدة هذا التحقيق هو إبطال اعتمادهم على هذا المعنى المحدث لتفسير قوله تعالى "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" فالتأويل هنا سواء على رواية الوقف أو الوصل لا يراد به التأويل الكلامي في حمل الكلام على غير ظاهره بدليل ﻷنه معنى محدث فلا يصح تفسير ألفاظ الشريعة بمصطلحات ومفاهيم محدثة جاءت فيما بعد، كما لا تفسر بقية الآيات التي ورد فيها لفظ التأويل بنفس التفسير.

وأما مجرد الاصطلاح على تسمية مثل هذا تأويلًا أو تسميته بأي شيء آخر فغير مؤثر ما دام أنه مجرد اصطلاح، فلا إشكال مع ذات المصطلح، إنما الإشكال في تفسير الآية به، حيث يفسرون به التأويل في القرآن ويزعمون أنه هو المراد به (2). وإن كان ثم إشكال مع هذا الاصطلاح عند بعض أهل العلم الذين ينفون المجاز من جهة أنهم لا يرون أن ثم معنى حقيقيًا سابقًا قد تُرك لوجود مرجّح نقل المعنى إلى المعنى المجازي، والخلاف على هذه الجهة خلاف لفظي. 

فالتأويل بهذا المعنى يكشف لنا عن قواعد أربع: 

الأولى: الإيمان بوجود معنى واضح من النص الشرعي
الثانية: الإيمان بأن هذا المعنى يؤخذ من دلالة النص وسياقه
الثالثة: الإيمان بأنه لا يجوز العدول عن ظاهر هذا النص إلا بدليل أقوى منه، فهو يبحث عن مراد النص، فحين يجد دليلًا أقوى منه ينتقل إليه، فهذا بحث عن الدلالة الأرجح للنص، فهو ترجيح لمعنى النص بناء على نصوص آخر، فهو من قبيل تفسير النصوص بعضها ببعض.
الرابعة: الإيمان بأن الاتجاه للمعنى غير الظاهر لا يكون إلا بعد اجتهاد ونظر في الدليل، ذلك:

حين نقرأ هذه المعطيات الأربع نجد أن التأويل بهذا المعنى صحيح ولا إشكال فيه، وحين يلتزم المسلم به فسيكون متبعًا للنص الشرعي، إنما يأتي الإشكال حين تأتي الانحرافات التي تعبث بمسيرة الاهتداء والاقتفاء للنص، فيحرف التأويل ليبتعد عن مسار الكشف عن مراد النص ومعرفة مقصوده إلى تفسير النص بما يخالف ظاهره اعتمادا على أمور خارجية عنه بلا دليل صحيح.. إذا كان التأويل بهذا المعنى لا إشكال فيه، فأين الإشكال؟

أين الإشكال في التأويل؟

الإشكال في سبب العدول، لماذا يعدل عن ظاهر النص؟ وما الدليل الأقوى حتى يعدل به عن ظاهر النص؟

هنا تأتي الانحرافات الكلامية، فتجعل من معتقداتها السابقة وأصولها الفكرية المنحرفة عذرًا لها في تأويل كل ما يخالف النص، فالحقيقة أن المنطلق لم يكن من النص، وإنما جاء من خارجه، فهو يعدل عن ظاهر النص لأنه يرفض هذا الظاهر مسبقًا، فيعدل عنه إلى معتقده السابق، الذي يراه الأرجح دليلًا.

وقد كان الإمام ابن القيم بصيرًا بأحوال هذه الفرق جيدًا حين وصف منهج التأويل لديهم قائلًا

"وحقيقة الأمر أن كل طائفة تتأول كل ما يخالف نحلتها وأصلها، فالمعيار عندهم فيما يتأول وما لا يتأول هو المذهب الذي ذهبت إليه، فما وافقها أقروه ولم يتأولوه وما خالفها تأولوه"(3)

وقبله قال شيخ الإسلام:

"ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع كلّ فريق لأنفسهم قانونًا فيما جاءت به الأنبياء من عند الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه هو ما ظنّوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعًا له، فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفهم لم يتبعوه"(4)

التأويلات المخالفة لمنهج التسليم

وهذا التقرير ينطبق على كافة التأويلات التي عرفها التراث الإسلامي قديمًا؛ كالتأويل الباطني والتأويل الفلسفي والتأويل الكلامي والتأويل الصوفي، فهذه التأويلات التي تحرف مفهوم النص وتحاكم النصوص لمقدمات فكرية مسبقة هي مناهج مخالفة لمنهج التسليم لله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، ولا تستقيم مع وجوب الانقياد لكلام الله وكلام رسوله، صلى الله عليه وسلم، وذلك:

أولًا: لأنها مخالفة لمدلول النص الشرعي، فالواجب هو اتباع ما دلّ عليه الشارع، ولا يعرف ذلك إلا من خلال اللفظ الصحيح والصريح، فحين لا يكون اللفظ دالا على مقصود الشارع وإنما يبحث عن باطن خفي أو معنى آخر لا يدل عليه اللفظ؛ بل واللفظ ينافيه ويرفضه فهذا إلى التدليس والتلبيس أقرب منه إلى النور والبرهان، فإن المتكلم "لا يجوز أن يعني بكلامه خلاف ظاهره مطلقًا، ولا يدل عليه دليل خلافًا للمرجئة؛ لأن اللفظ بالنسبة إلى غير ظاهره لا يدل عليه فهو كالمهمل والخطاب بالمهمل باطل"(5)

فالأصل هو اتباع ظاهر الكلام، وكل من يخرج عن الظاهر، فيجب عليه أمور:

1- بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي يذكره في ذلك التركيب، ولا يكفي أن يكون مجرد اللفظ يدل في اللغة على معنى ما؛ بل لا بد من كون التركيب بكامله يدلّ على هذا المعنى؛ لأن ثم ألفاظًا لها دلالات في اللغة مختلفة لكن السياق يحدد المراد، فلا يكفي أن يأتي بدلائل للفظة ما حتى يأتي بأن هذه الدلائل تأتي على ذات السياق.

2- بيان أن المراد هو المعنى الذي ذكره فلا بد من وجود دليل يثبت ذلك.

3- إثبات الدليل الصارف عن إرادة المعنى الأساسي.

4- الجواب عن المعارض (6)

وهذه الشروط التي ذكرها ابن القيم شروط ظاهرة مستمدة من قاعدة أن الأصل هو التسليم لدلالة ظاهر النص، فهو أصل قطعي، وحتى يستقيم العدول عن هذا الأصل لا بد من مثل هذه المقدمات العقلية.

فليس كلّ تأويل باطلًا، وإنما الباطل التأويل الذي ينحرف بالآية عن مقصودها، ويتجه به لخلاف ظاهرها بغير منهج صحيح، أما حين تجتمع شروط التأويل فيكون المحل قابلًا للتأويل ومحتملًا له، ودلالة تركيب الكلام والسياق تدل عليه، وقام الدليل على هذا المعنى فهذا تأويل صحيح (7)

ثانيًا: أن ثم لوازم شنيعة للأخذ بهذه المناهج التأويلية "منها: أن يكون الله سبحانه قد أنزل في كتابه وسنّة نبيه، صلى الله عليه وسلم، من هذه الألفاظ ما يضلهم ظاهره ويوفعهم في التشبيه والتمثيل:

ومنها: أن يكون قد ترك بيان الحق والصواب ولم يفصح به بل رمز إليه رمزًا وألغزه إلغازًا لا يفهم منه ذلك إلا بعد الجهد الجهيد.
ومنها: أن يكون قد كلف عباده أن لا يفهموا من تلك الألفاظ حقائقها وظواهرها، وكلفهم أن يفهموا منها ما لا تدل عليه، ولم يجعل معها قرينة تُفهم ذلك.
ومنها: أن يكون دائمًا متكلمًا في هذا الباب بما ظاهره خلاف الحق بأنواع متنوعة من الخطاب..
 ومنها: أن يكون أفضل الأمة وخير القرون قد أمسكوا من أولهم إلى آخرهم عن قول الحق في هذا النبأ العظيم الذي هو من أهم أصول الإيمان وذلك إما جهل ينافي الحق وإما كتمان ينافي البيان..
ومنها: أنهم التزموا لذلك تجهيل السلف وأنهم كانوا أميين مقبلين على الزهد والعبادة والورع والتسبيح وقيام الليل ولم تكن الحقائق في شأنهم.
ومنها: أن ترك الناس من إنزال هذه النصوص كان أنفع لهم وأقرب إلى الصواب، فإنها ما استفادوا بنزولها غير التعرض للضلال ولم يستفيدوا منها يقينًا ولا علما بما يجب لله ويمتنع عليه" (8)

فمناهج التأويل هذه لا تقوم على قاعدة منهجية مطّردة تضبط فهم النص الشرعي، حتى ولو كانت القاعدة باطلة لكن اطرادها يجعل الانحراف محددًا في جهة معينة، لكنها تقوم على منهج باطل، وغير مطرد، فيفتح به من الشرور ما الله به عليم، ولهذا فالضابط الحقيقي لما يمكن تأويله وما لا يمكن تأويله لا يرجع إلى النص وإنما إلى ذات الشخص المتلقي "ولهذا لما لم يكن لهم قانون قويم وصراط مستقيم في النصوص، لم يوجد أحد منهم يمكنه التفريق بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل والتي لا تحتاج إليه، إلا بما يرجع إلى نفس المتأول المستمع للخطاب، لا بما يرجع إلى نفس المتكلم بالخطاب"(9)

وإذا كان التأويل مذمومًا لكونه يحرف الكلام عن حقيقته ويبحث عن مقصود المتأول لا مقصود النص، فكذلك الجمود الظاهري الذي لا ينظر للعلل ولا يتأمل في مقصاد وحكم التشريع ويكون مقتصرًا على اللفظ فقط هو قصور في التسليم، فكمال التسليم أن تتبع مراد الله، من خلال إدراك وفهم لكلامه وكلام نبيه، صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يكون بمناهج التأويل المبتدعة ولا بالجمود اللفظي الظاهري.

فالظاهرية لا تستحضر مقاصد الشريعة ولا عللها وحِكَمها فيعتريها نقص في فهم مراد الشارع يؤدي إلى خطأ في تنزيل أحكام الشريعة على الواقع مما يجعل الحكم في الواقع لا يكون حسب مراد الله.


الإشارات المرجعية:

  1. انظر: مجموع الفتاوى 653/2 و750/2 و276/13، وانظر مختصر الصواعق المرسلة ص20
  2. انظر كلام شيخ الإسلام عن هذه الجزئية في مجموع الفتاوى 274/13
  3. مختصر الصواعق المرسلة ص32
  4. درء التعارض 73/1
  5. البحر المحيط 460/1
  6. انظر: مختصر الصواعق المرسلة ص46
  7. انظر موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة لسليمان الغصن 798/2
  8. مختصر الصواعق المرسلة ص52
  9. درء التعارض 657/2

المصدر:

  1. فهد بن صالح العجلان، التسليم للنص الشرعي والمعاضرات الفكرية المعاصرة، ص80
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#التأويل
اقرأ أيضا
الاحتجاج بزلل العلماء والفقهاء | مرابط
مناظرات اقتباسات وقطوف

الاحتجاج بزلل العلماء والفقهاء


لا ينبغي أن يقف المسلم عند زلة العالم ويحتج بها أو يعتقد فيها رخصة له ليفعل المثل أو يواجه النص الصحيح الثابت بها فهذا ما لا يقبله عقل بالطبع وكل العلماء وكل أهل العلم لهم زلاتهم ولو وقف الواحد منا عند كل ذلة لأنشأ لنفسه دينا جديدا بعيدا عما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2064
نقض أصول الإلحاد الإيجابي | مرابط
الإلحاد

نقض أصول الإلحاد الإيجابي


لا يمكن لإنسان أيا كان في قضية وجود الخالق أن يحكم على الخالق بحكم إلا وقد سبق ذلك الحكم تصور معين عن الخالق الذي يريد الحكم عليه. حتى الملحد الجلد لا يمكنه إنكار الصانع إلا وحكمه فرع عن تصور معين لخالق يأباه ولا يوافق عليه إذ يستحيل أن يخوض الملحد في قضية ممتنعة لذاتها أو قضت ضرورة العقل بانتفائها فهذا عبث وسفه.

بقلم: عبد الله بن سعيد الشهري
313
شهادة أهل العصبية | مرابط
اقتباسات وقطوف

شهادة أهل العصبية


الناس كلهم عباد الله تعالى لا يخرج أحد منهم من عبوديته وأحقهم بالمحبة أطوعهم له وأحقهم من أهل طاعته بالفضيلة أنفعهم لجماعة المسلمين من إمام عدل أو عالم مجتهد أو معين لعامتهم وخاصتهم وذلك أن طاعة هؤلاء طاعة عامة كثيرة فكثير الطاعة خير من قليلها وقد جمع الله تعالى الناس بالإسلام ونسبهم إليه فهو أشرف أنسابهم.

بقلم: الإمام الشافعي
340
رد الإمام أحمد على المرجئة | مرابط
مناظرات

رد الإمام أحمد على المرجئة


تأويل من تأول القرآن بلا سنة تدل على معناها أو معنى ما أراد الله عز وجل أو أثر قال المروذي: أو أثر عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرف ذلك بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه فهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وشهدوا تنزيله وما قصه له القرآن وما عني به وما أراد به وخاص هو أو عام.

بقلم: أبو بكر الخلال
229
مفهوم الهداية | مرابط
اقتباسات وقطوف

مفهوم الهداية


مقتطف ماتع للدكتور سلطان العميري حول مفهوم الهداية والذي يفهمه كثير من المسلمون بشكل خاطئ ويحصرونه في الأمور الدينية فقط بينما يحتاج الإنسان إلى أنواع كثيرة من الهدايات في حياته يوضحها لنا ويسردها بشكل موجز

بقلم: سلطان العميري
576
قواعد اليقين | مرابط
مقالات المرأة

قواعد اليقين


إليك هذه قواعد.. هي أسس عند كل مسلم وهي عنده محل اليقين فاحفظها في نفسك وقولك وعملك ثم تأمل بعد ذلك ما شئت في مسألة التعرض للمرأة بما تكره:

بقلم: خالد بهاء الدين
203