التغريب: الأهداف والأساليب ج2

التغريب: الأهداف والأساليب ج2 | مرابط

الكاتب: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

2442 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين


 

مفهوم التغريب

 

وفي مجلسنا هذا نتكلم عن التغريب، والتغريب كما هو ظاهر في هذا المصطلح مشتق من جهة الغرب، والغرب المراد به هي الملة الغربية، وليس المراد بذلك غرب الأرض على الإطلاق، والملة الغربية هي الملة النصرانية، والتغريب له مصطلح مضاد له، ولكنه في غايته واحد، والمصطلح المضاد له هو مصطلح الاستشراق، والمراد بذلك أن ثمة أناسًا من الغرب يأتون إلى بلدان المسلمين وينغمسون فيها، وينظرون في أحوالهم حتى يكون ذلك آلة للوصول إلى أحوالهم، والتغلغل في دينهم، وعاداتهم وتقاليدهم وأقوالهم، فيخاطبون على ذلك النحو، وذلك من المدارك الصحيحة من جهة الأصل، أن الإنسان لا يمكن أن يخاطب قومًا إلا وقد عرف أحوالهم، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عباس: (لما بعث معاذًا إلى اليمن قال: إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ).
 
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنك تأتي قومًا أهل كتاب ) إشارة إلى معرفة دينهم، وأنه ينبغي للإنسان ألا يخاطب القوم وسائر الناس بخطاب واحد لا ينفك باختلاف أنواعهم من جهة المدارك العقلية، من جهة السن والجنس، وكذلك من جهة الدين، وكذلك العرق واللغة، فينبغي للإنسان أن يدرك أحوالهم، فبيّن النبي عليه الصلاة والسلام حال تلك الأمة وأنهم يختلفون عن بيئة أهل الإسلام كما في المدينة المشتركة بالوثنية والدين الكتابي، وأن الخطاب في ذلك ينفك عن غيرهم، فجاء ما يسمى بالاستشراق، وهو الدخول إلى بلدان المسلمين والنظر في أحوالهم وعقائدهم ودينهم، ثم لما كانوا من أهل الخبرة في ذلك خاطبوا المسلمين بما يريدون، وجاء في ذلك ما يسمى بالتغريب، وهو مصاحب وقوي بعد التشريق جاء بعده وظهرت آثاره في مجتمعات المسلمين، وهو من جهة الأصل التغريب، إنما نشأ بقوة بعد انقلاب الغرب على دينه وظهور علم المادة والعقل.

 

التغريب الاعتقادي والطرق المستخدمة في ذلك

 

وينبغي أن يعلم أن الغرب لما كان على دينه المحرف لم يكن يلتفت إلى الدعوة إلى دينه، وكما انتكس عن دينه ثم رجع إلى المادة، ثم رجع إلى العقل، وكذلك المادة المحضة، فإنه جاءه شيء من حمى الدعوة إلى نهجه وطريقته لم يكن قد سبق إليها، وذلك لسبب أن الغرب من جهة عقيدته ودينه قد بقي على ذلك الدين المحرف، ولما انسلخ من دينه كان ذلك الانسلاخ إلى غير دين، وهو ما يدعون إليه مما يسمى بحرية الأفراد في ذاتهم، وحريتهم في أموالهم، وحريتهم في سياستهم واجتماعهم وغير ذلك، دخلت أبواب الحريات وأنه لا يؤثر الإنسان على غيره، والإسلام سياج قوي يدعو غيره، وهو لا يدعو إلى الثبوت، وإنما يدعو إلى التنقل.

فلما كان الغرب يدعو انتقل من دين ثابت محرف، وانتقل إلى عقل ثابت لا يدعو إلى غيره؛ فاحتاجوا إلى مواجهة الإسلام والدعوة إلى تلك الثقافة، والفكر الليبرالي، وكذلك الفكر الغربي على سبيل العموم هو فكر يهتم بالفرد ولا يهتم بغيره، ويدعو إلى أن الفرد لا يؤثر على غيره على الإطلاق، فإذا كان كذلك فإن مصيره ومآله إلى الزوال، وذلك أنه يواجه فكرًا وعقيدة تدعو غيرها، بل إن من صلب عقيدتها أن تهتم بغيرها، وأن يهتم المسلم بعقيدة غيره، وأنه يدعوه إلى الحق، ولهذا جاءت النصوص الكثيرة في كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الحق، ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة ولو بالقليل، كما جاء في الصحيحين وغيرهما، قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عبد الله بن عمرو وعلي بن أبي طالب وغيرهما، قال: ( بلغوا عني ولو آية ).

وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يبلغ الدين ولو بشيء يسير، مما يدل على أن الإسلام ينمو، ولا يمكن أن يكون ثابتًا قاصرًا على الشخص، فإن الشخص يسعى إلى تصحيح غيره، بخلاف الفكر الذي تحول إليه الغرب، لما تحولوا أدركوا أنه لا يمكن أن يبقى هذا الفكر على ما هو عليه؛ لأنه فكر يهتم بالأفراد، ولا يدعو إلى الاهتمام بالغير، بل يحرم ويجرم أن يؤثر الإنسان على غيره، فينبغي أن يحكم الإنسان عقله مجردًا، وهذا ما وصل إليه الغرب في غاية مداركهم العقلية، أنه ينبغي للإنسان أن يكون حاكمه في حياته الدنيا هو العقل، وأن عقل الإنسان بجواره لا يؤثر على عقله، وإن أثر عقل غيره عليه فإن هذا من التعدي والجناية، وينبغي للإنسان أن يحكم عقله في تصرفه، فإن أجاز له فعلًا أو قولًا فإن هذا من السائغ والجائز، وإذا منعه من ذلك فإنه لا يجوز له أن يفعل ذلك الفعل أو يقول ذلك القول.

 

صورة التغريب الاعتقادي

 

ولما كان على هذا النحو وأدركوا أن الإسلام ينمو ويدعو غيره إليه ولا يقبل بمشارك يزاحمه في أبواب الاعتقاد والأقوال والأعمال، كانت تلك الدعوة الغربية إلى تغريب المجتمعات المسلمة على أنحاء متنوعة، تغريب فيما يتعلق بأبواب العقائد وإذابتها، وليس المراد بذلك الدعوة إلى النصرانية، لأنهم لم يكن لديهم ثقة في دينهم وعقيدتهم، وقد تجردوا من دينهم، وأنه لا يصلح لإدارة شأنهم السياسي أو شأنهم الاجتماعي، كما أطلقوا على ذلك في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، وذلك في زمن قد فصلوا فيه دينهم المحرف عن السياسة، وأنه لا يمكن أن تصلح فيه المجتمعات.
 
وفي هذا يصلح أن نشير إلى مسألة مهمة وهي: أن شريعة الإسلام لما جعلها الله جل وعلا باقية خالدة إلى قيام الساعة، وخصها الله جل وعلا بهذه الخصيصة وهي الديمومة، وخصها بخصيصة أخرى وهي أنها مستوعبة وشاملة لسائر الأمم، سواءً كانت عربية أو غير عربية، وسواءً كانت قريبة أو بعيدة، فهذه الدعوة لا بد أن تصل إليهم، ولهذا خاطب الله جل وعلا سائر الأمم والشعوب بالدخول في ملة الإسلام، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة : ( والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار ).
 
ولما كان الإسلام كذلك فإن هذا يقتضي سعة الإسلام واتساعه، وأن مظلة الإسلام عريضة، والخلط في هذا الأمر بين أنه ينبغي لأهل العلم والعقل أن يدخلوا سائر الأفراد تحت مظلة الإسلام العريضة، وبين الذين يريدون أن تتسع تلك المظلة حتى تظل الأفراد وتتبع الأفراد أينما كانوا فتظلهم، وهذا من الخلط.
 
فينبغي أن يُعلم أن مظلة الإسلام عريضة تستوعب سائر الناس، فيجب على الناس أن يأتوا إليها لا أن تأتي تلك المظلة فتتبع الأفراد أينما كانوا وعلى أي قول كانوا، وهذا ما يتعلق بمسائل الاعتقاد والتغريب فيها.
 
شريعة الإسلام لما كانت واضحة بينة في علاقتها مع العقائد الأخرى، والأدلة في ذلك محكمة، جاء بما يسمى بالتغريب في أبواب العقائد، وذلك بإلغاء الفوارق بين دين الإسلام وغيره من اليهودية والنصرانية، ونشر ما يسمى بالتسامح وغير ذلك.
 
وهذه الدعوات من جهة أصلها هي ألفاظ تدل على معان صحيحة، ولكن كما جاءت في سياقات يراد بها الباطل، وذلك أن المؤمن تضعف حميته لدينه حتى ينغمس في ثقافة غيره، حتى يصل إلى ما وصل إليه الغرب، وذلك هو القناعة بالمدارك العقلية، والانطلاق إليها بمعرفة الخير والشر، وهذا من الأمور المهمة التي ينبغي للإنسان أن يدركها، ولهذا سعى الغرب إلى دعوة الإسلام بدعوة متنوعة، سواءً عن طريق الاستبداد، وهو ما يسمى بالاستعمار وغيره، دعوة الإسلام قسرًا أو طواعية ترغيبًا وترهيبًا إلى العقل الغربي، وليس إلى الديانة الغربية؛ لأن الديانة الغربية وهي النصرانية قد تخلى عنها الغرب، ولم يكن لديهم حمية في ذلك، وهذا أمر معلوم، ولما تخلوا عنها لم يكن مجديًا الدعوة إلى الديانة الغربية، وإنما كان المجدي في ذلك هو الدعوة إلى العقل..

فجاءت الدعوة إلى العقل متنوعة، وذلك بحسب تنوع الإسلام، وكان الاستشراق مسهلًا لما يسمى بالتغريب، بمعرفة النصوص الشرعية ومداركها، وكذلك وجوه الاستدلال منها والاستنباط، مما يتوافق مع تلك الأصول الغربية، فدخل التغريب إلى بلدان المسلمين فيما يسمى بأبواب الاعتقاد وأبواب العبادة، وأبواب الاجتماع، وكذلك ما يسمى بأبواب الاقتصاد، ويأتي الكلام عليها كلًا على حدة بإذن الله تعالى.
 
كان ثمة جمل من الأساليب والطرق بدعوة الإسلام وأهله إلى الانغماس في الطريقة الغربية، ولهذا جاءت الطريقة الغربية ليس تشكيكًا في الإسلام بسائر الطرق، وإنما بالدعوة إلى ما يسمى بالحضارة المدنية، والانغماس فيما يسمى بالعيش الرغيد وغير ذلك، والمراد من ذلك من جهة الحقيقة هو أن يصل العالم إلى تنمية الغرب، وتنمية المادة الغربية، وليس المراد أن تنمى مجتمعات المسلمين، والدليل على ذلك أن الغرب في نشره لثقافته وعقيدته في بلدان المسلمين سعى بذلك على طريقين:

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الطريفي #التغريب
اقرأ أيضا
حقيقة الإخلاص | مرابط
اقتباسات وقطوف

حقيقة الإخلاص


مقتطف هام من محاضرة للشيخ سفر الحوالي بعنوان من أعمال القلوب الإخلاص يتحدث فيها عن حقيقة الإخلاص في دين الإسلام ويستدل بعدد من الآيات والسور التي تتناول هذه المسألة بشكل مفصل حيث نجد بعض السور القرآنية العظمى التي تتحدث عن التوحيد تشترط ذلك وإن لم تنص عليه نصا كما في سورة الأنعام فإن أكثر معانيها وموضوعاتها تتعلق بتوحيد الله وتجريد العبادة له ونفي الشرك عنه

بقلم: سفر الحوالي
432
الانقطاع سمة العصر | مرابط
اقتباسات وقطوف

الانقطاع سمة العصر


يبدو أن الانقطاع سمة أساسية لحضارتنا وربما لعصرنا هناك شيء اسمه العلم يزعم أنه يتعامل مع التفاصيل ومع البيئة الشاملة للعالم ويحاول أن يفسر: كيف أتت المادة إلى الوجود وكيف نشأت الحياة ومتى وبأي أسلوب وصلت الكائنات البشرية إلى الأرض ويبدو أن العلم يتعلق بكل شيء ولكن العلم في الواقع قاصر جدا

بقلم: بول فييرابند
582
محاولة لاستثارة النخوة لدى عديمي النخوة | مرابط
فكر مقالات

محاولة لاستثارة النخوة لدى عديمي النخوة


لم يعد يجدي مع بعض طبقات مجتمعاتنا أن تذكر لهم نصوصا من الكتاب والسنةفهم يرونها جزءا من تراث لا يحبونه ولا يعتزون به هم أنفسهم يدعون إلى إحياء التراث غير الإسلامي كدعوات إحياء الفخر بالحقب الفرعونية وعروبة ما قبل الإسلام

بقلم: د إياد قنيبي
860
شبهة حول الأمر بضرب الزوجة | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

شبهة حول الأمر بضرب الزوجة


قالوا: القرآن ظلم المرأة حين أجاز لزوجها أن يضربها: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا النساء: ٣٤ وبين يديكم رد مفصل للشيخ الدكتور منقذ بن محمود السقار على هذه الشبهة وتوضيح للخطأ الذي يقع فيه المشككون وتوضيح لحقيقة إباحة ضرب الزوجة في الإسلام

بقلم: د منقذ السقار
660
حتى لا تكون فتنة | مرابط
اقتباسات وقطوف

حتى لا تكون فتنة


مقتطف من تفسير ابن كثير رحمه الله لسورة الأنفال الآية وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ۚ فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير وهنا ندرك معنى الفتنة وكيف فهمها الصحابة وكيف نظروا إلى القتال في حالة الفتنة وفي غير الفتنة

بقلم: ابن كثير
2317
رسالة إلى كل مبتلى ومصاب ومهموم | مرابط
مقالات

رسالة إلى كل مبتلى ومصاب ومهموم


هذه رسالة جامعة من الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السحيم يوجهها إلى كل مسلم مبتلى أو مهموم أو سقط في دوامات الحزن ولم يقدر على الخروج منها هنا تجد معالم الطريق وتتنبه إلى معاني الابتلاء وطبيعة الحياة الدنيا وتجد تعزية وتسلية على حالك وإعانة لك على الخروج

بقلم: عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
1903