التقدمية والرجعية

التقدمية والرجعية | مرابط

الكاتب: علي الطنطاوي

1434 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أعرف أن لكل عصر كلمات تمشي فيه على الألسن، يقبل عليها الشباب ويفتنون بها من غير بحث عن حقيقة معناها، كما يتلقف النساء (أعني بعض النساء) الموضات في الثياب، ويقلدنها، ويحرصن عليها من غير أن يدركن الفائدة منها! ولقد كانت الموضة السائرة ونحن صغار كلمة (عصري)، وكانوا يتهمون كل متمسك بالدين بأنه متعصب، وغير عصري. وقبلها كانت الموضة كلمة (منوَّر)، فالذي يخالف ما عليه الشباب يتهمونه بأنه غير منور. وكان كثيرون من ضعاف الإيمان يتظاهرون بترك الدين (وهم متدينون في الواقع) خوفًا من أن يقال إنهم غير منوَّرين، أو إنهم متعصبون غير عصريين!
 

تعريف التقدمية وحقيقة الرجعية

وقد بطلت اليوم هذه الكلمات، وحلت محلها كلمات جديدة، صارت هي موضة العصر، وهي كلمات (التقدمي) و(التقدمية) و(الرجعي) و(الرجعية). ولقد كنت أكتب من تسع عشرة سنة كلمات قصارًا في جريدة شامية بعنوان (كل يوم كلمة غيرة)، فكتبت يومًا أسأل أهل التقدمية عن تعريفها الذي يبين حقيقتها وعن تعريف الرجعية الذي يوضح حدودها، وانتظرت طويلًا فلم أجد عندهم الجواب الشافي.
 
الذي أعرفه أن التقدمية مشتقة من التقدم، وأن العرب قالوا (التقدمية) في مثل هذا المعنى. وتستطيعون أن تراجعوا معناها في (أساس البلاغة) وفي المعاجم. وأعرف أن الرجعية من الرجوع. فإذا وقفت في جدة ووجهك إلى البحر وتقدمت فأنت بهذا المعنى تقدمي، تزداد (تقدمية) كلما اقتربت من الشاطئ، وإذا جعلت ظهرك إلى البحر وتقدمت فأنت تقدمي أيضًا، تزداد (تقدمية) كلما ابتعدت عن البحر. فكلاهما تقدمي، فمن منكما التقدمي الحقيقي؟
 

ماذا يريدون بالتقدمية والرجعية؟

فأنت لا تعرف (التقدمية) إذن إلا إذا حددت الوجهة التي تتوجه إليها. هذا هو التفريق المادي بالنسبة إلى الرجل الذي يمشي، فما هو التفريق المعنوي بين (التقدمية) التي يدعون إليها، و(الرجعية) التي يخوفون الناس بها؟
 
هل يريدون بالتقدمي الرجل الذي يدعو إلى الجديد، إلى عصر الذرة والصاروخ، وبالرجعي الرجل الذي يتمسك بالقديم، ويريد أن نعود إلى عهد الجمل والسراج؟ إن كان هذا هو الذي تريدون، فليس بشيء؛ لأن الأمور لا تقسم إلى جديد وقديم، بل إلى حقٍّ وباطل، وخير وشر. وإذا كان كل قديم- على رأي هؤلاء- عتيقًا باليًا، واجبًا تركه، فإنَّ العقل أقدم من الدين، فإذا تركتم الدين لقدمه، فاتركوا العقل؛ لأنه أقدم منه، وعودوا مجانين، هاربين من مستشقى المجاذيب! والحب قديم، فاتركوا الحب. والزواج قديم، فأبطلوا الزواج. وآباؤكم وأجدادكم صاروا من أهل القديم، فتبرؤوا من آبائكم وأجدادكم... أفهذا كلام يا ناس؟!
 
كلا، ما هذا هو المقياس الصحيح. وإذا كان في هذا العصر تقدم العلم وازدهار الحضارة، فإن فيه الحروب المدمرة، والقنابل المبيدة، والتهتك والفساد، وفي هذا العصر تركنا اليهود يسلبوننا قطعة من قلب بلادنا، ويستأثرون بها دوننا، ويشردون أبناءها حتى يتفرقوا فوق كل أرض، وتحت كل نجم، وقبل ألف سنة كان أسلافنا يركبون الإبل، لا يعرفون السيارات، ولا الطيارات، ويعيشون على السُّرج، ومصابيح الزيت، ولكنهم كانوا سادة الدنيا، وكانوا أعزَّ الأمم.
 

هل نحن رجعيون؟

فإذا قلتم: إننا رجعيون. فنحن معكم، ونفتخر بأننا من الرجعيين. لكننا لا نريد الرجعة إلى عهود الاستعمار، ولا إلى أيام الانحطاط والتأخر، بل نريد الرجوع إلى العهد الذي كنا فيه ملوك الأرض، وكنا أساتذة العالم، وكان في أيدينا صولجان الحكم، وكان في أيدينا منار العلم. إلى عهد الصدر الأول، العهد الذي خرجت فيه الجيوش العربية المسلمة من هذا البلد تحمل راية محمد صلى الله عليه وسلم، فركزتها على كل جبل، وفوق كل قلعة، ومن قلب فرنسا إلى قلب الصين.
 
على أننا إذا تلفتنا إلى الماضي، فلا نلتفت إليه لنرجع القَهْقَرى، ونمشي إلى الوراء، بل لنستمد منه القوة على السير سعيًا إلى الأمام، إلى الأمام لنربط بين الماضي المجيد، والمستقبل المجيد، إلى الأمام لنصل مجدنا الجديد بمجدنا التليد.
 
إننا نعلم أن الاستغراق في الماضي وحده نوم أو جمود، والاستغراق في المستقبل وحده هوس وجنون، والاستغراق في الحاضر وحده عجز وقعود. ونحن نريد أن نستمدَّ من الماضي دافعًا وحافزًا، ومن المستقبل موجهًا ومرشدًا، ومن الحاضر عمادًا وسنادًا.
 
إننا ندعو إلى العودة إلى الماضي، ولكن ما معنى هذا؟ هل معناه أن نعود القرون الماضية، ونرجع الكرة الأرضية في دورانها، ونسقط من حساب الزمان هذه القرون الطويلة، حتى نعيش في القرن الأول الهجري مرة أخرى؟ هذا مستحيل.
 
هل معناه أن نعود إلى حياة القرن الأول؛ فنركب الإبل، وندع السيارة، ونسكن الخيام، ونترك البيوت، ونعود إلى طبِّ الحارث ابن كلدة، أو أبي بكر الرازي، ونترك الطب الحديث؟ هذا ما لا يقول به أحد؛ بل نريد العودة إلى مثل ما كان عليه أجدادنا؛ من العلم، والمجد، والقوة، والسلطان.
 
ونحن نعلم أنَّ هذا المجد لا يعود بالأحاديث والخطب، ونعلم أنَّ السجين المصفَّد بالأغلال لا يطلقه تذكر الحرية، والتغني بلذاتها، وأن الجائع لا يشبعه تذكر موائد الماضي، واستعراض ألوانها، وأن الفقير لا يغنيه تذكر زمان غناه، والزهو بما صنع فيه، وأن الذلة لا تُدفع عن الذليل بنظم قصائد الفخر بعزة جده وأبيه.
 
ولكننا نعلم أيضًا أن السجين الذي ينسى أيام الحرية يستريح إلى القيد، ولا يجد حافزًا إلى الانطلاق، وأن الفقير الذي ينسى زمان الغني يطمئن إلى الفقر، ولا يجد دافعًا إلى الاستغناء، وأن الذليل الذي ينسى عزة أبيه يألف الذلَّ، ولا يجد قوة على دفعه.
 
إذا اطمأننا إلى جلال ماضينا، وحسبنا أن خطبة بتمجيده، ومقالة بالإشادة به، تغنينا وتكفينا، فلن يعود لنا هذا الجلال أبدًا، وإن نسينا أننا أبناء سادة الأرض، وأساتذة الدنيا، لم يحرك أعصابنا شيء إلى استعادة هذا المجد.
 
فلنأخذ من الماضي بقَدْر، نأخذ منه ما يدفع ويرفع وينفع، وندع منه ما يُثبِّط ويُقعد ويُنيم. وإننا لا نريد أن نعود إلى الزمان الماضي، فالزمان يمشي أبدًا لا يقف ولا يعود، ولا نعود إلى مثل معيشة الزمان الماضي، ونترك ثمرات الحضارة، ولكن نعود إلى المثل العليا، وإلى الفضائل التي لا تفقد قيمتها بمرور الزمن؛ فكما أن الذهب والألماس لا يضره القدم، ولا يصدأ كما يصدأ الحديد، فإن في المعاني ما هو كالألماس والذهب في المعادن.
 

ما هي تقدميتكم؟

نحن نريد أن نعود إلى هذه الحياة؛ هذه هي رجعيتنا التي لا ننكرها بل نفتخر بها، قد عرفناها ووضَّحناها، فما هي تقدميكم يا أيها السادة التقدميون؟
 
هل معناها التقدم من أهل الغرب وتقليدهم في كل شيء، بل تقليدهم في الشرِّ الذي يشكون منه، ويتمنون الابتعاد عنه؟ وأن نهمل عقولنا، ونترك شرع ربنا، ونتبرأ من آبائنا وأجدادنا، ونمشي وراء الغربيين فنقول بمقالهم، ونفعل فعلهم، فإن كشفوا العورات كان سترها رجعية، وإن أعلنوا الزنا كان إعلانه تقدمية، وإن لبسوا السراويل في أذرعهم، والمعاطف في أرجلهم، أو قعدوا على الأرض، وأجلسوا الكراسي فوقهم، أو أكلوا الحساء (الشوربة) بالشوكة، والبطيخ بالملعقة،، فقد وجب في شرعة التقدمية أن نفعل فعلهم وإلا كنا رجعيين؟!
 
إذا كان هو المراد بالتقدمية فتشجعوا وقولوه، ولا تدعونا نطالعه من خلال السطور ومن بين الكلمات.

 


 

المصدر:

فصول في الدعوة والإصلاح للشيخ علي الطنطاوي، جمع وترتيب مجاهد مأمون ديرانية - دار المنارة، السعودية، ط1، 2008هـ (ص 9)

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#التقدمية #الرجعية
اقرأ أيضا
كن طبيبا لنفسك | مرابط
اقتباسات وقطوف

كن طبيبا لنفسك


اعلموا أنه من لم يحسن أن يكون طبيبا لنفسه لم يصلح أن يكون طبيبا لنفس غيره ومن لم يحسن أن يؤدب نفسه لم يحسن أن يؤدب نفس غيره. واعلموا أن من لم يعرف ما لله عزوجل عليه في نفسه مما أمر به ونهاه عنه ولم يأخذ نفسه بعلم ذلك كيف يصلح أن يؤدب زوجته وولده وقد أخذ الله عزوجل عليه تعليمهم ما جهلوه؟! وما أسوأ حال من توانى عن تأديب نفسه ورياضتها بالعلم وما أحسن حال من عني بتأديب نفسه وعلم ما أمره الله عزوجل به وما نهاه عنه وصبر على مخالفة نفسه واستعان بالله العلي العظيم.

بقلم: الآجري
185
معنى جوامع الكلم | مرابط
اقتباسات وقطوف

معنى جوامع الكلم


وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة وغشاه بالقبول وجمع له بين المهابة والحلاوة وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام مع استغنائه عن إعادته وقلة حاجة السامع إلى معاودته لم تسقط له كلمة ولا زلت به قدم ولا بارت له حجة ولم يقم له خصم ولا أفحمه خطيب

بقلم: الجاحظ
347
بيان سنن الله في الكون | مرابط
تاريخ تفريغات

بيان سنن الله في الكون


هذا البيان الذي جاء من عند الله تعالى ببيان سننه وببيان المعادلة الواضحة بين الحق والباطل وبيان الفرق الشاسع بين أهل الجنة وأهل النار بيان أي: إيضاح يحتاج الناس إليه فهو علم من علم الله تعالى وهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك هذا بيان للناس.

بقلم: محمد الحسن الددو الشنقيطي
304
شبهة شرب معاوية رضي الله عنه الخمر: رد على عدنان إبراهيم | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة شرب معاوية رضي الله عنه الخمر: رد على عدنان إبراهيم


يستهدف الطاعنون والمشككون في الإسلام سيدنا معاوية بن أبي سفيان بكثير من الشبهات والحملات التشويهية التي ترمي في النهاية إلى إسقاط قيمة ورمزية الصحابة من قلوب المسلمين ورويدا يصلون إلى الطعن في دين الإسلام نفسه بعد تشويه رجاله وحملته وفي هذا المقال يفند الكاتب شبهة سخيفة نسمعها ويرددها الكثيرون ومفادها أن سيدنا معاوية كان يشرب الخمر وإليكم تفصيلها والرد عليها

بقلم: أبو عمر الباحث
2386
وما نرسل بالآيات إلا تخويفا | مرابط
مقالات

وما نرسل بالآيات إلا تخويفا


من أسوأ ما ابتلي به إنسان العصر الحديث تبلد حسه تجاه ما يحدث من ظواهر كونية: مثل الرياح العاصفة والأمطار الشديدة والكسوف والخسوف والزلازل وما أشبه ذلك حيث تحولت إلى أخبار معتادة تمر دون كثير اعتبار أو تفكر ولعل التنبؤ المسبق بها مع كثرة المشوشات وقلة النظر في السماوات والأرض والتأمل فيهما وقسوة القلوب بسبب التعرض المستمر للشهوات والشبهات وطبيعة الحياة المعاصرة اللاهثة كل ذلك أسهم في هذا التبلد!

بقلم: أحمد قوشتي
341
فن أصول التفسير ج2 | مرابط
تفريغات

فن أصول التفسير ج2


فالموضوع الذي بين يدي: هو أصول التفسير وكما يقال الآن من المصطلحات المعاصرة لفظة التوظيف لأني سأجتهد في توظيف أصول التفسير وهي مادة نوع ما ممكن تكون متخصصة لكن سأجتهد قدر استطاعتي أن أنزل بالمعلومات إلى ما يمكن أن تستوعبه شرائح متعددة الذي علمه قليل والذي علمه كثير والذي يستوعب استيعابا سريعا والذي يكون استيعابه بطيئا

بقلم: مساعد الطيار
618