سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الثالث ج3

سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الثالث ج3 | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

654 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

هناك أمثلة على أن العلوم الحياتية علوم أخروية شرعية، سنذكر ذلك من واقع حياة حبيبنا صلى الله عليه وسلم، ومن واقع تاريخنا، هناك أدلة شرعية كثيرة نذكر عشرة أدلة:

 

الحكمة من خلق الإنسان في الأرض وجعله فيها

الدليل الأول: يقول الله سبحانه وتعالى عند بداية خلقه لنا للملائكة: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً" [البقرة:30]والله سبحانه وتعالى خلقنا في الأرض، قال عز وجل: هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود:61] فإذا كان خلق الإنسان وعلم الإنسان وعبادة الإنسان كخلق وعبادة الملائكة فأي فائدة من خلقه؟ ولماذا يوضع على الأرض؟ نقول: إنما وضع الإنسان على الأرض وجُعل فيها خليفة؛ ليتدبر في علوم الأرض، ويُبدع ويستعمر الأرض، وينشأ في الأرض الإنشاءات والعلوم والمخترعات، وليعرف ربه أكثر وأكثر كما سيأتي.

إذًا: الله سبحانه وتعالى جعلنا خلفاء في الأرض وليس في السماء، ولا بد أن نعرف علوم الأرض ونبدع فيها؛ لنكون خلفاء حق الخلافة في الأرض.

وقال سبحانه وتعالى للملائكة: "وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا" [البقرة:31] ما هي هذه الأسماء؟ هل هذه الأسماء هي الصلاة والزكاة والذكر والتسبيح والقيام، وما أعظم هذه الأمور؟ هل هذه الأسماء هي أسماء العبادات المختلفة؟ أبدًا، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا" [البقرة:31] أي قال له: هذا جبل، وهذا سهل، وهذا بحر، وهذه نخلة، وهذه وهذه.. علمه علوم الأرض، وبذلك أصبح أهلًا ليكون خليفة في الأرض، الملائكة لا تعرف هذه الأسماء؛ لأنها لا تحتاجها، أما الذي يحتاج هذه العلوم فهو الإنسان الذي يعيش على الأرض، ويعبد الله عز وجل على الأرض، وأُمر أن يستعمر الأرض، فهذا من أبلغ الأدلة على أن العلوم الحياتية هي مستندات أو مؤهلات الخلافة في الأرض، فإن فقدت الأمة مؤهلات الخلافة في الأرض فلا بد أن تكون في ذيل الأمم، تظل فترة من الزمان في ذيل الأمم ثم تُستبدل، نسأل الله عز وجل العفو والعافية، فلو أن الناس أهملت علوم الحياة وتركت الغرب والشرق واليهود والمجوس وعباد البقر يقودون العالم ويقودون المسلمين، فالله عز وجل سيستبدل هؤلاء ثم "يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ" [المائدة:54].

إذًا: من مصلحتنا أن نقف على الثغرة في هذا الوقت قبل أن يستبدل بنا رب العالمين سبحانه وتعالى.

 

استمرار التجدد في العلوم الحياتية على مر العصور

الدليل الثاني: قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في شأن العلوم الشرعية: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا" [المائدة:3] العلوم الشرعية بفضل الله تمت، فقبل وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام تمت العلوم الشرعية، فكل شيء نحتاجه من العلوم الشرعية ذُكر في كتاب الله وفي سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] وهذه الآية واضحة الدلالة جدًا في تمام العلوم الشرعية، ومع أن هناك اجتهادًا جديدًا لتغير الزمان والمكان والبيئة، لكن الأصول ثابتة، لا يُنكر ذلك أحد، الأصول ثابتة بفضل الله عز وجل، وهذا نعمة كبيرة على المسلمين، لكن هل تمت العلوم الحياتية؟

وانظروا إلى ما قاله رب العالمين سبحانه وتعالى في شأن العلوم الحياتية، قال بصيغة المستقبل: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" [فصلت:53]سنريهم في الآفاق وفي الأنفس علوم الكون بصفة عامة وعلوم الإنسان بصفة خاصة، كل هذا سيرينا الله عز وجل إياه مع تقدم الزمن، وتظل هذه الآية تُقرأ إلى يوم القيامة بصيغة المستقبل، فالعلم الحياتي متجدد، ما كنا نعتقد أنه يقين في قضية من قضايا العلم منذ ألف سنة، وفي هذا الوقت قلنا: لا، فهذا الكلام لم يكن صحيحًا، فالصحيح هو كذا وكذا..! فالذي كنا نعتقده منذ سنتين أو ثلاث سنوات نعتقد حاليًا غيره، فالعلم الذي كان حجمه عشرة قراريط أصبح حجمه ألف قيراط، وسوف يصبح مليون قيراط، وسيصبح أكثر وأكثر.

إذًا: العلوم الحياتية دائمة التطور، فإن بقيت أمة الإسلام سنة أو سنتين أو ثلاثًا راكدة والعلم فيها راكدًا لا يتحرك، اتسعت الفجوة بشكل هائل بينها وبين الأمم، فلا بد من حركة سريعة، وكما ذكرت بالأمس لا داعي للتسويف، فتبدأ من اليوم، والأخ الذي أخبرتكم عنه الذي ذهب ليتعلم الإنجليزية، في نفس الليلة ذهب للتعلم، وهذه أمثلة طيبة جدًا.

وهناك مثل طيب ذُكر لي قبل المحاضرة بقليل، والحمد لله أنه يبعث شيئًا من الأمل في نفوس المسلمين، فأحد الإخوة اطّلع على تقرير جامعة جياوتونج في شنغهاي التي عملت التقرير الذي ذكرناه في الدرس السابق على ترتيب الجامعات في العالم (500) جامعة، فوجد أنه بفضل الله في تقرير سنة (2006م) دخلت مصر في التصنيف جامعة القاهرة بترتيب (403) على العالم، وهذا شيء مبهر وجيد جدًا، أي عندما نذكر هذا أيضًا نذكر هذا، فالحمد لله أن هناك حركة، وعندما نتحدث عن براءات الاختراع في العالم، فمصر تطورت أيضًا، صحيح أنه تطور بطيء غير متوافق أبدًا مع إمكانيات هذا البلد العظيم، ومع ذلك فالحمد لله أنا بدأنا نتطور، لكن دورنا نحن الملتزمين الذين يحبون دينهم وأمتهم ويريدون أن يضحوا من أجلها أن يدفعوا هذه العجلة أسرع وأسرع. إذًا: العلوم الحياتية لم تتم وتحتاج إلى جهود كبيرة من علماء المسلمين.

 

حاجة الفقهاء وعلماء الشريعة إلى علماء العلوم الحياتية

الدليل الثالث: ألا يحتاج الفقهاء وعلماء الشريعة إلى فقهاء وعلماء في العلوم الحياتية لفقه الدين؟

نحن نريد أن نفقه بعض الأمور في الفقه، فإذا كنت أنا أفقه علومًا شرعية، وتخرجت من كلية أصول الدين، أو كلية الشريعة، أو كلية الدعوة، ولا أعرف دقائق الطب، ولا دقائق الاقتصاد، ولا دقائق الهندسة، ولا دقائق كذا وكذا.. فلا أستطيع أن أقول للمسلمين: هذا حلال أو حرام، فأحتاج إلى أحد أهل التخصص الفاهمين لهذا التخصص فهمًا جيدًا والمحب لدينه أن يأتي ويعرض الصورة علي حتى أخرج بالحكم الشرعي المناسب، فمثلًا في مجال الطب: هات فقيهًا درس أربع سنوات في كلية أصول الدين أو في كلية الشريعة، وكمّل بعدها الماجستير ثم الدكتوراه في نفس العلوم، وقل له: ما تقول في الاستنساخ؟ إذا كان لم يعرف هذه القضية خلال دراسته فهو بحاجة إلى معرفة الاستنساخ، فيحتاج إلى دكتور يفهم في دينه ويعرف القواعد الشرعية إجمالًا الخاصة بالطب، وفي نفس الوقت هو فاهم جدًا لتخصصه، وفاهم للقضية بكامل أبعادها، فيذهب للفقيه ويقول له: الوضع كذا وكذا، فالفقيه عندما يطّلع على هذا الأمر يستطيع أن يقول: هذا حلال وهذا حرام.

كذلك نقل الدم وزرع القرنية والتخصيب بالأنابيب.. مليون مشكلة يمكن أن تكون موجودة، وهناك من يسأل: أحلال هي أم حرام؟ إذًا: الفقيه يحتاج إلى عالم مسلم متخصص في العلوم الحياتية يخبره، ويحتاج إلى عالم اقتصاد إسلامي متخصص خريج تجارة أو خريج اقتصاد أو علوم سياسية يخبره كيف يبني مشروعًا إسلاميًا موافقًا للشرع، وأنا كعالم في الدين ورجل أصول في الدين أو الشريعة سأعطيك أطرًا عامة، لكن لا أستطيع أن أقول لك: كيف تعمل بنكًا، البنك ضرورة؛ لأن البنوك كما ترون لوثت بالربا هنا وهناك، فنحن بحاجة إلى بنك إسلامي خالص موافق للشرع، من الذي سيبنيه؟ هل يبنيه يهودي أو أمريكي؟ لا، ولكن لا بد أن يكون عالم اقتصاد مسلم يجلس مع فقيه مسلم يشرح له الموضوع، وهذا الفقيه يقول له: هذا حلال وهذا حرام، ويعرض عليه المعاملات، مثل: نظام الأسهم، ونظام السندات والبنوك، كيف أتعامل مع البنك الدولي؟ كيف أتعامل مع أمريكا؟ كيف أتعامل مع أوروبا؟ كيف أتعامل مع هؤلاء الناس، وأنا أريد أن يكون كياني إسلاميًا؟ هل لو بقيت إسلاميًا فهل معنى ذلك أن أنقطع كليًا عن التعامل الاقتصادي مع أي دولة في العالم؟ لا، هناك ضوابط وأطر، والرسول صلى الله عليه وسلم تعامل مع هذا وذاك بضوابط إسلامية.

إذًا: أنا أحتاج إلى فقيه في كذا وفقيه في كذا، فقيه في العلوم الشرعية، وفقيه في العلوم الحياتية في التخصص، فلكي أفقه ديني أحتاج إلى متخصص في العلوم الحياتية في كل مجال. هذا مثال أو مثالان وقس جميع هذه الأمثلة في العلوم الحياتية.

 

نتائج عدم الاهتمام بالعلوم الحياتية

الدليل الرابع: ما البديل إذا فشلنا في العلوم الحياتية؟

لو لم يهتم المسلم بالقضية وبقي معتكفًا ليل نهار قائمًا وصائمًا، وترك الكلية ولم يشتغل، ما هي النتيجة الأخيرة؟

النتيجة الأخيرة أن نعتمد اعتمادًا كليًا على غيرنا في كل شيء، وغيرنا من الممكن أن يكون عدونا الذي يحتلنا، ومن البلوى أن يعتمد المسلمون على عدوهم في حياتهم، وهذه معضلة، فهل من الممكن أن يقول أحدنا: إن هذا وضع شرعي، وإن المسلمين لهم أن يتخلفوا في صناعاتهم وفي علومهم ويعتمدوا اعتمادًا شبه أساسي على أعدائهم، أو على غيرهم بصفة عامة؟!

على سبيل المثال والأمثلة كثيرة جدًا: السلاح، فأمريكا هي الدولة الأولى في تصنيع السلاح، وهي الدولة الأولى المصدرة للسلاح في العالم، (39 %) من السلاح الأمريكي يتجه إلى البلاد العربية والإسلامية، يعني: (39 %) من حصيلة الخزائن الأمريكية من مليارات الدولارات التي تدخل من السلاح أتت من البلاد الإسلامية.

هل هذا يُعقل؟ أمريكا محتلة لأفغانستان ومحتلة للعراق وتساعد إسرائيل في احتلال فلسطين الحبيبة، نسأل الله أن يحرر كل هذه البلاد وغيرها من بلاد المسلمين كاملة، هل يُعقل أن أستورد السلاح من البلد المحتل لي؟ هذا لا يقبله عقل ولا شرع، هل من المعقول أن يقول الشرع ذلك؟ هل من المعقول إذا كان بيننا عالم شرعي أو إنسان مسلم متحمس لدينه أن يقبل بهذا الوضع؟

و(70 %) من صادرات بريطانيا من السلاح للعالم العربي.

و (40 %) من صادرات فرنسا من السلاح للعالم العربي.

و(15 %) من صادرات روسيا للعالم العربي.

و(18 %) من صادرات الصين للعالم العربي من السلاح.

أي: أننا اعتمدنا شبه اعتماد كلي على البلاد الغربية والشرقية في التسليح، وافرض جرى بيننا وبينهم في يوم من الأيام حرب، ألا يشعر المسلمون بغضاضة لهذا الأمر؟ ألا يشعر المهندسون والكيميائيون وعلماء الذرة في بلاد المسلمين بغضاضة في أنهم يخرجون من الكلية ليس له إلا الشهادة؟ وليس لأحد منهم طموح بأنه في يوم من الأيام يصبح مصنّع سلاح؟ نعم، السلاح قرار إستراتيجي أو سياسي، لكن افرض أخذت الحكومة القرار السياسي بتصنيع السلاح، لكن العلماء غير موجودين فهل تستطيع تصنيع السلاح؟ لا، إذًا: لابد أن أكون مستعدًا، على الأقل أُعذر إلى الله عز وجل، أقول: يا رب أنا فعلت وتعلمت وهم أصروا على استيراد السلاح وعلى قتل المواهب الموجودة في البلد، لكني بذلت ما بوسعي، وهذا الفشل في مجال العلوم الحياتية غير مقبول من المسلمين.

وإسرائيل في السلاح هي الدولة الرابعة في العالم في التصدير، فهي الدولة الرابعة بعد أمريكا وروسيا وبريطانيا.. تأتي إسرائيل وتسبق فرنسا والصين وصربيا والتشيك وأوكرانيا ودولًا أخرى لها تاريخ في السلاح، فهي الرابعة على مستوى العالم، والدولة الأولى في تلقي صادرات السلاح من إسرائيل الهند، وهي العدو اللدود لباكستان المسلمة، وهذا الكلام ليس عشوائيًا.

فأعلى دولة في العالم نسبة لإنتاج السلاح بالنسبة للصادرات إجمالًا هي إسرائيل، يعني: لو أن إسرائيل تصدر مائة وحدة فـ(40 %) من هذه الوحدات من السلاح، فإسرائيل أعلى نسبة في العالم من الصادرات عندها نسبة السلاح إلى بقية الصادرات، وهذا يعني: أن الدولة مجيشة لتصنيع السلاح، وإسرائيل على بعد خطوات منا، والفاصل بيننا وبين إسرائيل خط شائك بسيط جدًا في رفح، وإن شعر المسلمون بالأمان في هذا الوضع فهذا -والله- هو الغرور بعينه، من الغرور والغفلة أن ينام المسلمون مطمئنين في هذا الوضع وبهذه الصورة، وهذه كارثة.

إذًا: لا بد أن يتحرك المسلمون، وليس شرطًا أن يتحرك أولًا السياسيون، بل من الممكن أن يتحرك الشعب، ومن الممكن أن يبدع الشعب في العلوم وينتج، فالله سبحانه وتعالى إذا اطّلع على هذه الأمة فوجد فيها الإخلاص فسيرزقها من يأخذ بيدها إلى القرار الصائب، إن وجد الله عز وجل في الأمة صلاحًا فسيرسل إليها صلاحًا إن شاء الله، أي: أن صلاح الدين لا يظهر هكذا، وإنما يظهر في أناس هيئت وجُهّزت، وراجعوا قصة صلاح الدين رحمه الله، فالإعداد كان قبل صلاح الدين بستين أو سبعين سنة ليظهر بعد ذلك صلاح الدين ، هناك جهد كبير قام به علماء الأمة ومن قادتها وساستها ومن شعبها، وممن نعرف وممن لا نعرف، وفي الأخير أين ولد صلاح الدين رحمه الله؟!

وهنا عندي إحصائيات خاصة بالاستيراد في العالم العربي والإسلامي، وفي الحقيقة إنها إحصائيات مفجعة، فقد يصل الأمر أحيانًا إلى استيراد أشياء مستفزة، فمثلًا: مصر تستورد (32) نوعًا من الجبن من الخارج، مع أن مصر فيها الكثير من الحيوانات والحمد لله، واستوردنا في السنة الماضية بخمسة ملايين دولار (آيسكريم)، وفي ستة أشهر صرفنا اثنين مليون جنيه لاستيراد أغذيه للقطط والكلاب.

وهناك شيء اسمه: براءات الاختراع، وهناك شيء اسمه: المنظمة العالمية لبراءات الاختراع، فأي إنسان في العالم يخترع شيئًا يذهب ليسجل فيها؛ ليبقى حقه فيها محفوظًا، وهذه المنظمة تعمل كل سنة إحصائية بعدد الاختراعات التي سجلت فيها، واسم بلد المخترع، واختراعات الشركات التي قدمت... وهكذا.

ففي عام (2001م) قدمت مصر اختراعًا واحدًا، وفي (2002م) قدمت اختراعًا واحدًا أيضًا، وفي (2003م) زدنا وصارت حوالي (12) اختراعًا بفضل الله، وهذا تقدم، وفي (2004م) (78) اختراعًا، وهذا شيء طيب والحمد لله ويدل على أن هناك تطورًا، وأقولها صادقًا: التطور في غاية البطء، لكن هو تطور والحمد لله، وكل هذا لتعرف ما هو المقصود بكلمة اختراع ولتعرف وضع الأمة الإسلامية، فمصر هي الدولة الثانية إسلاميًا في هذا الترتيب بعد تركيا في الاختراعات، فتركيا اخترعت (104) اختراعات عام (2004م)، ومصر اخترعت (78) اختراعًا، وأما إسرائيل فقد اخترعت (1222) اختراعًا، وأما أمريكا فقد اخترعت (41870) اختراعًا، وليس الاختراع أن نخترع تلفازًا أو كمبيوترًا أو أي جهاز من البداية، لا، وإنما هو تطوير في شيء لرفع الكفاءة أو لتقليل المضاعفات الجانبية أو لتقليل السعر أو أي إضافة ولو صغيرة فهذه تُصبح اختراعًا، وتُصبح من حق هذا المخترع له ويسجله باسمه، فهو يضيف للإنسانية شيئًا، فمثلًا في مجال الطب: عندنا دواء يستخدم في اليوم ثلاث مرات أو أربع مرات، يسبب عطشًا شديدًا، فعندما يأتي طبيب من الأطباء فيضيف مادة من المواد على هذا الدواء فيجعل المريض لا يحتاج إلا إلى قرص في اليوم فقط بدلًا من ثلاثة أو أربعة، فهذا اختراع فعلًا موجود فيضاف ويسجل باسمه.

كذلك اختراع في مجال الصيدلة، كأن يأتي آخر فيضيف مادة أخرى تقلل من العطش الذي ينتج عن العلاج السابق فهذا أيضًا اختراع.. وهكذا وهكذا، ويأتي آخر فيضيف إليه مادة فيجعله رخيص الثمن، ويقلل من المادة الفعّالة الغالية الثمن، ويضع مكانها مادة رخيصة وتؤدي نفس المفعول.. هذا في الطب، ومثله في الهندسة، وفي الكيمياء، وفي الكمبيوتر، وفي كذا وكذا، فعند جمع هذه الاختراعات جميعًا نجد أن أمريكا سنويًا تقدم (41870) اختراعًا، واليابان تقدم (19982) اختراعًا، وخلفها فرنسا وإنجلترا وهولندا وهكذا..، وبعد اليابان ألمانيا.

إذًا: بالترتيب يكون أمريكا، ثم اليابان، ثم ألمانيا، ثم فرنسا، ثم إنجلترا، ثم هولندا.. وإسرائيل ترتيبها الخامس عشر على العالم في هذه الترتيبة، رقم (15) في عدد براءات الاختراع المسجلة سنويًا، لكن عندما تأتي لتدقق أكثر وأكثر تجد أن إسرائيل كم تضم من اليهود؟ فكل إسرائيل جميعًا خمسة ملايين، وأمريكا (350) مليونًا، وفرنسا (80) مليونًا، وألمانيا (80) أو (100) مليون، فعملوا طريقة جديدة للحساب وقالوا: نقيس عدد براءات الاختراع بالقياس إلى عدد السكان، فسكان أمريكا كثير واختراعاتها كثيرة، ولكن إسرائيل أعدادهم محدودة، وهناك دول فيها سكان أقل من إسرائيل أو أكثر من إسرائيل أو غير ذلك، فعملوا هذه النسبة، فأصبحت إسرائيل الدولة الثامنة على مستوى العالم في الاختراع، وتسبق في ذلك أمريكا وفرنسا، وتسبق إنجلترا ودولًا أخرى كثيرة في العالم، فهذا أمر لا بد له من وقفة.

أيضًا قسموا الشركات في العالم من حيث الاختراع، فالشركة الأولى من حيث الاختراع في تقديم براءة الاختراع شركة (فيليبس)، وهذه شركة هولندية، فأكثر شركة تقدم براءات اختراع في العالم سنويًا هي شركة (فيليبس) وللسنة الثانية على التوالي، ثم شركة (ماتسوشيتا) اليابانية التي منها (باناسونيك)، ثم (سيمنس) الألمانية، ثم (نوكيا) الفنلندية، ثم شركة (بوش) الألمانية، ثم (إنتل) الأمريكية، ثم (ثري إم) الأمريكية، ثم (موترولا) الأمريكية، ثم (سوني) اليابانية.. مئات من الشركات وليس في هذه الشركات التي تقدم براءات اختراع شركة مسلمة واحدة، فعندنا براءات الاختراع معظمها أو كلها أفراد، لكن كمؤسسات لا توجد لدينا، العمل الجماعي أو فريق العمل لا يوجد لدينا للأسف الشديد، وهذا يحتاج إلى تكاتف خبرات وجهود، وسوف نتحدث عليها إن شاء الله في الدروس التي تقول: كيف تُصبح عالمًا؟ كيف نخرج من هذه الكبوة؟ وكيف نرفع هذه الأغلال من أعناقنا، وكيف نتحرك إلى الأمام؟

هذا موضوع هو محاضرتنا القادمة إن شاء الله رب العالمين.

ونسبة اختراع إسرائيل بالنسبة إلى عدد الأفراد هو لكل (5000) آلاف فرد يقدمون اختراعًا، والنسبة لأمريكا اختراع لكل (6700)، والنسبة في اليابان اختراع لكل (6300)، والنسبة لمصر اختراع لكل تسعمائة ألف، فهذا الكلام يهز من الداخل، ويشعر بحزن، نعم احزن، ولكن الحزن الذي يدفع إلى عمل، الحزن الذي يجعلك تخرج من هنا وتتحرك وتقتل كتابك قراءة ومذاكرة وبحثًا، وتذهب للدراسة وتبدع في دراستك، وتقرأ أكثر وأكثر، ولا تظل منقطعًا عن العلم بانتهاء كليتك.

 

العلوم الحياتية طريق لمعرفة الله عز وجل

الدليل الخامس: أن العلوم الحياتية طريق لمعرفة الله عز وجل.

ما أكثر الآيات التي جاءت في القرآن الكريم لتدعو إلى التفكر والتدبر في الكون، وهذه آيات كثيرة جدًا في كتاب الله عز وجل، وكلما تفكّرت أكثر وأكثر قلت: سبحان الله! وعرفت الله عز وجل أكثر وأكثر، ومن أكثر الأشياء التي تزرع الإخلاص في قلوب المسلمين القراءة في كتاب الله عز وجل المقروء، وكتاب الله عز وجل المنظور، وكتاب الله عز وجل المقروء هو المصحف أو القرآن الكريم، والكتاب المنظور هو الكون الفسيح، وأمرنا ربنا سبحانه وتعالى مئات المرات بالسير في الأرض، والتفكر في خلق السماوات والأرض، وفي خلق الحيوان، وفي خلق النبات، وفي خلق الإنسان، وفي كذا وكذا..

فعندما تكون معلوماتي هي معلومات ألف سنة مضت أهذا تدبر وتفكر؟ أين التفكر والتدبر؟ التفكر والتدبر أن تنظر إلى الشيء بإمعان، وتنظر فيه مرة وثانية وثالثة فتخرج في كل مرة أمرًا جديدًا، هذا هو التفكر، وانظروا إلى قول الله عز وجل: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" [فاطر:28] في أي سياق جاءت؟ هل جاءت في سياق الحديث عن العلوم الشرعية، أم جاءت في سياق الحديث عن العلوم الحياتية؟ فقبلها يقول الله عز وجل: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ" [فاطر:27-28] فالعلماء الذين يخشون الله عز وجل المذكورون في هذه الآية هم الذين نظروا إلى النبات، وإلى علوم الأرض، وإلى علوم الحيوان، وإلى علوم الإنسان، فبرعوا فيها وتدبروا وتفكروا، فشعروا بالخشية من الله عز وجل.

وهذا أينشتاين الذي عمل النظرية النسبية نظر إلى الكون الفسيح ورأى السرعات الهائلة الموجودة في الكون وفي الفلك، ثم قال -وهو ليس من المسلمين ولا يعرف القرآن ولا السنة- قال: وراء هذا الكون قوة خارقة، وأنا لا أعرفها. فمن المستحيل أن يكون هذا الكلام عشوائيًا، ونحن ربنا سبحانه وتعالى عرفنا به، وهذه نعمة كبيرة جدًا، ألا نتقي الله عز وجل في هذه النعمة؟ وهل نترك هذه المجالات لـنيوتين وأينشتاين وغيرهما من الكفار؟

فالتفكر في هذا الكون طريق لمعرفة الله عز وجل، وكلما عرفت أكثر وأكثر عرفت الله عز وجل، وإن أردت أن تخشع في صلاتك وأن تتدبر في قرآنك، وأن تطيع ربك حق الطاعة فاعرفه، وطريق المعرفة التدبر والتفكر في خلقه وفي كونه، ويسبق ذلك القراءة في كتابه المقروء وهو القرآن، وكذلك القراءة في السنة النبوية، وليس هناك تعارض أبدًا، بل بالعكس فالقرآن يحض على العلوم الحياتية، وأنا على يقين أن معظم كلمات العلم التي جاءت في كتاب الله عز وجل جاءت لتشمل العلم بنوعيه: العلم الشرعي، والعلم الحياتي، العلم النافع بكل صوره، أليس الذي يصنّع سلاحًا للمسلمين يعمل بعمل نافع؟! أليس الذي يصنّع كمبيوترًا خاصًا بالمسلمين يعلم علمًا نافعًا ويعمل به؟! أليس الذي يصنع كذا وكذا يكفي الأمة مؤنة مد يدها لغيرها لشحذ العلم أو لاستيراد حتى لعب الأطفال والأغذية والقمح.. وغير ذلك؟ أليس هذا الذي يُبدع في مجاله يعمل ويعلم علمًا شرعيًا يجازى عليه من رب العالمين خير الجزاء إن أخلص فيه النية لله عز وجل؟ بلى وربي.

إذًا: هذه من العلوم الأخروية حقًا، بشرط إخلاص النية لله عز وجل، فإذا سعيت إلى إصلاح أمتك وأن تكون أمتك أمة رائدة قائدة وفعلت ذلك ابتغاء المثوبة من الله عز وجل وابتغاء وجه الله فأنت بإذن الله من الصالحين المجازين خيرًا من رب العالمين سبحانه وتعالى.

كانت هذه خمسة أدلة، وفي المرة القادمة سأحدثكم بخمسة أخرى وهي في غاية الأهمية، وهي أيضًا تؤكد على هذا المعنى وتقويه، ومنها بإذن الله ننطلق إلى ماذا نعمل؟ وكيف نتحرك بأمتنا لتكون في الصدارة؟ وليس هذا على الله عز وجل بمعجز.

ونسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، "فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" [غافر:44].

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#راغب-السرجاني #كيف-تصبح-عالما
اقرأ أيضا
شخصية القدوة | مرابط
فكر

شخصية القدوة


وأعلى الناس مقاما من حيث المطالب والوسائل والصبر والسعي هم أولو العزم من الرسل ومن بعدهم سائر الأنبياء وأتباعهم وهم درجات عند الله. وأحسن الناس اتباعا لهم ذلك الذي يطلب الطريق الذي سلوكها كلها فيعرف واقع كل منهم وحال قومه وإلى ماذا دعاهم وكيف ومن أين بدأ وكيف تلقوا دعوته وماذا لاقاه من المحن والابتلاءات وكيف تصرف فيها وبماذا كان يتصبر وبماذا كان يدعو الله ويسأله إياه وحاله في السراء والضراء..

بقلم: حسين عبد الرازق
294
الشخصية الغربية وعداء الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

الشخصية الغربية وعداء الإسلام


يبدو أن العداء الصريح للإسلام كان هو السمة التي ترسخت في الشخصية الجمعية الغربية وجاء ذلك نتاج الحروب الصليبية التي لم تتوقف على الصدام العسكري المسلح فقط وإنما نتج عنها الكثير من التشوهات الفكرية والثقافية التي ظلت باقية في المخيلة والعقلية الأوروبية فيما بعد

بقلم: محمد أسد
2064
كيف تقرأ كتابا ج2 | مرابط
تفريغات

كيف تقرأ كتابا ج2


لا بد أن تكون قراءتنا -أيها الإخوة- قراءة واعية المنهج الجاهلي يقول: القراءة للقراءة الفن للفن أي أنهم يجعلون القراءة غاية وليست وسيلة ولذلك فهم يقرءون ما هب ودب دون تمحيص ولا تمييز أما المسلم فإن القراءة عنده وسيلة لتحقيق الهدف وهو أشياء متعددة وعلى رأسها طلب العلم الذي يعرف به المسلم كيف يعبد ربه هذا الهدف الوسيلة: القراءة

بقلم: محمد صالح المنجد
433
ذكر الربا وآكله في السنة | مرابط
تفريغات

ذكر الربا وآكله في السنة


الربا من السبع الموبقات ودليل ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين والحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتنبوا السبع الموبقات قيل: وما هي يا رسول الله؟! قال: الشرك بالله والسحر

بقلم: سعيد بن مسفر
312
العمارة في الحضارة الإسلامية ج1 | مرابط
تاريخ

العمارة في الحضارة الإسلامية ج1


أمر الإسلام بتعمير الأرض بالبناء عليها وحث عليه لحماية الإنسان من حر الشمس وبرد الشتاء وأمطاره وجعل اتخاذ المساكن نعمة من الله لمخلوقاته ولذلك وضع الإسلام لبناء المساكن والمدن والقرى الكثير من الآداب وشهدت بلادنا الإسلامية ازدهار العمران والبناء الذي تميز بطابع إسلامي خالص وفي هذه المقالات سيقف بنا الكاتب على ملامح العمران في كل العصور الإسلامية

بقلم: موقع قصة الإسلام
1478
التوبة والندم | مرابط
اقتباسات وقطوف

التوبة والندم


مقتطف من كتاب التوبة لابن أبي الدنيا يعرض لنا بعض الأحاديث والآثار أو الأخبار فيما يخص التوبة وهل الندم يدخل في معنى التوبة أم لا وهل التوبة تخلص العبد من عقوبة الله عز وجل أم لا وهل التوبة تكفي للتخلص من آثار الذنوب

بقلم: ابن أبي الدنيا
632