لكم دينكم ولي دين

لكم دينكم ولي دين | مرابط

الكاتب: محمد سعيد القحطاني

4503 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

لما رأى المشكرون صلابة المسلمين واستعلاءهم بدينهم، ورفعة نفوسهم فوق كل باطل ولما بدأت خطوط اليأس في نفوسهم من أن المسلمين يستحيل رجوعهم عن دينهم سلكوا مهزلة أخرى من مهازلهم الدالة على طيش أحلامهم ورعونتهم الحمقاء.

 

المفاصلة

 

فقد دعوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون معبوده سنة، فأنزل الله سورة الكافرون:

"قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)"

 

ومثل هذه السورة آيات أخرى تشابهها في إعلان البراء من الكفر وأهله، مثل قوله تعالى "وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ"
وقوله تعالى " قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ۚ قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ ۙ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ"
وقوله تعالى "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وأمرت أن أكون من المؤمنين"

 

بهذه النصاعة وهذا الوضوح جاءت هذه الآيات الكريمات لترسم معالم الطريق بين الصف الإسلامي والصف الكافر المشرك الذي لا يؤمن بالله ورسوله

 

هل كانت سورة الكافرون إقرارًا للكافرين على دينهم؟

 

ومع هذا الوضوح القرآني نجد أن بعض المنتسبين للعلم قد فهم من هذه الآيات -وخاصة سورة الكافرون- إنها إقرار من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للكفار على دينهم الباطل، وهذا زعم باطل.. مخالف لحقيقة الإسلام، ودعوة رسول الإسلام، ومضاد لدعوة الرسل جميعًا.
 

رد ابن القيم


يقول العلامة ابن القيم، رحمه الله:
 
(إن هذه السورة -سورة الكافرون- تشتمل على النفي المحض وهذه خاصية هذه السورة، فإنها سورة براءة من الشرك كما جاء في وصفها  
 
(ومقصودها الاعظم البراءة المطلوبة بين الموحدين والمشركين، ولهذا أتى بالنفي في الجانبين تحقيقًا للبراءة المطلوبة. مع تضمنها للإثبات بأن له معبودًا يعبده وأنتم بريئون من عبادته، وهذا يطابق قول إمام الحنفاء "إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني" فانتظمت حقيقة لا إله إلا الله
 
(ولهذا كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يقرنها بسورة الإخلاص في سنة الفجر وسنة المغرب، حين أخبر الله أن لهم دينهم وله دينه: هل هو إقرار فيكون منسوخًا أو مخصوصًا؟ أو لا نسخ في الآية ولا تخصيص؟
 
(هذه مسألة شريفة من أهم المسائل، وقد غلط في السورة خلائق، وظنوا أنها منسوخة بآية السيف لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم! وظن آخرون: أنها مخصوصة بمن يقرون على دينهم وهم أهل الكتاب
 
وكلا القولين غلط محض، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها، فإن أحكام التوحيد التي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيها.
 
(وهذه السورة أخلصت التوحيد، ولهذا تسمى أيضًا سورة الإخلاص، ومنشأ الغلط: ظنهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم، ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف، فقالوا: منسوخة!
 
وقالت طائقة: زال عن بعض الكفار وهم من لا كتاب لهم فقالوا هذا مخصوص! ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريرًا لهم أو إقرار على دينهم أبدًا.. بل لم يزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه أشد على الإنكار عليهم وعيب دينهم وتقبيحه، والنهي عنه والتهديد والوعيد في كل وقت وفي كل ناد، فكيف يقال إن الآية اقتضت تقريرًا لهم؟ معاذ الله من هذا الزعم الباطل
 
وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة كما تقدم، وما أنتم عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبدًا، فإنه دين باطل، فهو مختص بكم لا نشرككم فيه، ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق
 
فهذه غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار حتى يُدعى النسخ أو التخصيص؟
 
أفترى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال: لكن دينكم ولي دين؟
 
بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يطهر الله منهم عباده وبلاده، وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع الرسول، صلى الله عليه وسلم، أهل سنته وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به، الداعين إلى غير سنته إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته لكم دينكم ولنا ديننا لا يقتضي هذا إقرارهم على  بدعتهم، بل يقولون لهم هذه براءة منها، وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان (1)

 

رد شيخ الإسلام ابن تيمية

 

وزاد الأمر إيضاحًا وبيانًا: شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، فقال:
 
(قوله تعالى "لكم دينكم ولي دين" اللام في لغة العرب يدل على الاختصاص فأنتم مختصون بدينكم لا أشرككم فيه، وأنا مختص بديني، لا تشركونني فيه، كما قال تعالى "لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ".  
 
وليس في هذه الآية أنه رضي بدين المشركين ولا أهل الكتاب، كما يظنه بعض الملحدين، ولا أنه نهى عن جهادهم كما ظنه بعض الغالطين، وجعلوها منسوخة. بل فيها براءته من دينهم، وبراءتهم من دينه، وأنه لا تضره أعمالهم، ولا يجزون بعمله ولا ينفعهم. وهذا أمر محكم لا يقبل النسخ، ولم يرضى الرسول بدين المشركين، ولا أهل الكتاب طرفة عين قط.
 
ومن زعم أنه رضي الله بدين الكفار، واحتج بقوله تعالى "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)"
 
فظن هذا الملحد أن قوله "لكم دينكم ولي دين" معناه أنه رضي بدين الكفار، ثم قال هذه الآية منسوخة فيكون قد رضي بدين الكفار، فهذا من أبين الكذب والافتراء على محمد، صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يرض قط إلا بدين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه.. ونظير هذه الآية قوله تعالى "وإن كذبوك فقل لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ"
 
وقوله تعالى "فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم "
 
وإذا كان الله سبحانه قد قال "واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون"
 
فبرأه من معصية من عصاه من أتباعه المؤمنين فكيف لا يبرئه من كفر الكافرين الذين هم أشد له معصية ومخالفة" (2)
 
ورحم الله عبد الله بن عباس حين قال في شأن هذه السورة "ليس في القرآن أشد غيظًا لإبليس منها، ﻷنها توحيد وبراءة من الشرك"، وقال الأصمعي كان يقال لـ "قل يا أيها الكافرون" و"قل هو الله أحد" المقشقشتان، أي أ،هما تبرئان من النفاق.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. ابن القيم، بدائع الفوائد، ج1، 138
  2. شيخ الإسلام ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ج2، ص30

 

المصدر:

  1. محمد بن سعيد القحطاني، الولاء والبراء في الإسلام، ص179
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
مفاهيم تحتاجها الأمة ج2 | مرابط
تفريغات

مفاهيم تحتاجها الأمة ج2


وأنا سأطرح بعض المفاهيم التي أشعر أن الأمة بحاجة لها وأخاطب بها كل مسلم رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا حاكما كان أو محكوما عربيا كان أو عجميا قريبا كان أو بعيدا يعيش في بلد محتل أو حر

بقلم: د راغب السرجاني
674
تسليع المرأة في الغرب | مرابط
فكر تفريغات المرأة

تسليع المرأة في الغرب


عامة النساء أصبحن يرين أنفسهم كسلع جنسية للرجال وأن الإعلام يكرس هذه النظرة والمجتمع يكرسها وحتى الvideo games تكرسها وأن أجساد النساء تعرض للدعاية وكديكور وأن هذا يؤدي إلى العناية المفرطة من بعض النساء بأشكالهن وإمضاء أوقات طويلة أمام المرآة ويؤدي إلى أمراض نفسية لدى بعضهم بالإصابة بالخزي من أجسادهن

بقلم: د إياد قنيبي
1011
لا تستعجل النتائج | مرابط
اقتباسات وقطوف

لا تستعجل النتائج


إن القرآن يوجه القلوب والعقول ألا تستعجل النتائج فهي لا بد آتية حسب السنة الماضية التي لا تتبدل وأعمار الأفراد ليست هي المقياس والجولة العارضة ليست هي الجولة الأخيرة قد ينتصر الباطل فترة من الوقت ويزدهر ويتمكن ويعلو في الأرض ولكن هذا ليس نهاية القول ولا نهاية المطاف إنه جزء من سنة الله المتشعبة الجوانب

بقلم: محمد قطب
825
معرفة الحق أولا أم الرد على الشبهات؟ | مرابط
فكر

معرفة الحق أولا أم الرد على الشبهات؟


معرفة الحق بدلائله وبراهينه حتى يطمئن إليه القلب وتسكن إليه النفس مقدم على معرفة ما قد يعارضه من الشبهات وكيف يكون الرد عليها إذ لا يمكن دفع الباطل إلا بما تدل براهين الحق على بطلانه ومن عكس الأمر فأشغل نفسه بالشبهات قبل أن يكون قد حصل له التمكن من اليقين بالحق فيخشى عليه أن يضطرب حاله حتى لا يعود يدري ما الحق ولا كيف يدفع ما وقع له من الشبهات.

بقلم: عبد الله القرني
490
دلالة المخلوقات على الخالق | مرابط
تعزيز اليقين

دلالة المخلوقات على الخالق


إن كل شيء يدل على وجود الله تعالى إذ ما من شيء إلا وهو أثر من آثار قدرته سبحانه وما ثم إلا خالق ومخلوق والمخلوق يدل على خالقه فطرة وبداهة إذ ما من أثر إلا وله مؤثر كما اشتهر في قول الأعرابي الذي سئل: كيف عرفت ربك؟ فقال -بفطرته السليمة: البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وجبال وبحار وأنهار أفلا تدل على السميع البصير؟

بقلم: سعود العريفي
381
ذكر الربا وآكله في السنة | مرابط
تفريغات

ذكر الربا وآكله في السنة


الربا من السبع الموبقات ودليل ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين والحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتنبوا السبع الموبقات قيل: وما هي يا رسول الله؟! قال: الشرك بالله والسحر

بقلم: سعيد بن مسفر
381