خداع وثبات وانتصار
قطز -رحمه الله- رتب الجيش في سهل عين جالوت الذي يشبه حدوة الحصان، مفتوح من الشمال والشرق والغرب والجنوب كله تلال، واستغل هذا الوضع الجغرافي المميز للمكان، وأخفى جيوشه كلها خلف التلال، ووضع المقدمة عند الشمال حتى تغري التتار بالدخول معها في موقعة، وعليها أن تثبت أمام التتار فترة طويلة من الزمن، ثم تسحب جيش التتار إلى داخل سهل عين جالوت، ثم تنزل الجيوش الإسلامية ككمين وخدعة.. تلك المقدمة كانت بقيادة ركن الدين بيبرس، وتمثل أقوى قطاع في الجيش الإسلامي، معظم المقاتلين فيها من أمهر عساكر وجنود المسلمين.
وفعلًا بعد شروق شمس يوم الجمعة 25 رمضان دخل جيش التتار من بعيد.. شاهد الجيش الإسلامي مقدمات الجيش بسيطة جدًّا، بدأ يقترب، وهنا بدأ قطز يعطي أوامر بنزول المقدمة كلها، ونزلت المقدمة بشكل عجيب جدًّا، يرويها أحد الرواد اسمه (صارم الدين أيبك)، وهو مسلم في جيش التتار يحب المسلمين ويظهر للمسلمين التعاون مع التتار ويرسل رسائل للمسلمين تدل على أخبار التتار.
وصارم هذا أسره التتار، وأظهر لهم التعاون معهم والتتار صدقوه، وقبل المعركة بليلة أرسل رسالة تدل المسلمين على مواضع القوة والضعف في جيش التتار دون سابق معرفة للمسلمين به.. وقطز -رحمه الله- كان ينزل الجيش عن طريق الموسيقى، وكان عنده فرقة عسكرية مملوكية على أعلى مستوى، وكل تحرك للجيش له ضربات موسيقية محددة، هناك ضربات للميمنة والميسرة وللتقدم والانسحاب، كان يدير الجيش من الخلف عن طريق الموسيقى.. وبدأ يضرب الضربات لنزول المقدمة لإغراء كتبغ قائد جيش التتار للهجوم والحرب..
ونزول المقدمة كان له شكل مميز، صوَّره لنا صارم الدين أيبك المسلم في جيش التتار الذي يقف إلى جوار (كتبغ نوين) زعيم التتار، أول ما ضربت الموسيقى نزلت أول فرقة في المقدمة ترتدي لباسًا أحمر في أبيض، وكما يقول صارم أيبك في غاية الأناقة ويرتدون العُدد المليحة، ومعهم أحصنة في منتهى القوة، وكأنهم في عرض عسكري.. وأول ما نزلوا بهذا الشكل كما يقول صارم أيبك بهت كتبغ، وبهت من معه من التتار، ثم قال: يا صارم، رمق من هذا؟ قال له: هذا رمق سنقر الحلبي، هذه فرقة شامية بداخل الجيش المملوكي. بعدها نزلت فرقة ترتدي أصفر في أصفر، وسأل كتبغ رمق من هذا؟ قال له صارم: رمق جلبان الرشيدي أحد أمراء المماليك. وتتابعت الفرقة كل فرقة بلون شكل، ويسأل كتبغ وما رمق هذا ويقول صارم: فصرت أقول له أي اسم يأتي على ذهني؛ لكي يرعبه.
وفي النهاية كلها مجموعة قليلة، لكن ألقى الله عز وجل الرعب في قلب كتبغ من هذه المجموعة القليلة، وعندما اكتمل نزول المقدمة وقفت في السهل تنتظر القتال، فوجدهم كتبغ مجموعة قليلة وجيشه وراءه ضخم هائل، فأسرع لقتال المسلمين وثبت المسلمون لا يتحركون، وتردد التتار في الهجوم، وهنا أمر قطز المقدمة بالهجوم على جيش التتار، ودارت الموقعة من شروق الشمس إلى الظهيرة بالمقدمة فقط، والغرض إرهاق التتار لأكبر درجة ممكنة والثبات في مقدمة سهل عين جالوت عند الفتحة الشمالية.
بعد منتصف النهار، بدأ جيش التتار يتعب وجيش المسلمين يتعب، وهنا قطز يراقب الموقف عن بُعد، وأمر الموسيقى تدق دقات لبداية الجزء الثاني من الخطة الإسلامية، وهي عبارة عن سحب جيش التتار داخل سهل عين جالوت، وهذا يحتاج من بيبرس وجيش المقدمة إلى تقاتل قتال المنهزم، ولكن بشكل متوازن حتى لا يشعر كتبغ بدخوله لسهل عين جالوت.. وبدأ بيبرس في تنفيذ الخطة وبدأ ينسحب، وانخدع جيش التتار وسار خلفه.. ثم ارتكب كتبغ نوين خطأ فادحًا أشبه ما يكون بخطأ أبي جهل عندما دفع الكفار لحرب المسلمين، وهو أنه دفع بجيشه كله داخل السهل دون أن يترك أي حماية خارجه؛ طمعًا في إنهاء الموقعة في أسرع وقت.
وفعلًا سحب بيبرس جيش التتار كله داخل السهل، وهنا أعطى قطز الأوامر بالجزء الثالث من الخطة، وهي إغلاق فتحة السهل الشمالي لقطع خط الرجعة على التتار، ونزول باقي الجيش لأرض المعركة، وتحيط بالتتار من كل جانب.. وجيش التتار أكبر من جيش المسلمين، وكادت الميسرة تسقط ولم يجد قطز إلا حلاًّ واحدًا، وهو أن ينزل بنفسه إلى ميسرة المسلمين لمواجهة ميمنة التتار القوية، وصاح صيحته المشهورة "واإسلاماه.. واإسلاماه".
ثم نزل في وسط الجيوش، فوجئ الجيش بأن القائد الأعلى للجيش ولمصر كلها وسط المعركة بسيفه ودرعه، وأعطى حماسة شديدة للجنود، وبعد لحظات من نزول قطز للمعركة أصيب فرسه بسهم وقاتل ماشيًا، وجاءه أحد القواد بفرسه فقال له: "ما كنت أحرم المسلمين نفعك"! وقاتل ماشيًا إلى أن أحضروا له فرسًا من الاحتياطي، ولامه أحد الأمراء الآخرين على هذا، وقال له: لماذا لم تأخذ الفرس؟ لو قُتلت لهلك الإسلام بسببك. فقال له قطز: أما أنا لو قتلت لكنت أذهب إلى الجنة، وأما الإسلام فيقيم الله له من يحفظه إلى يوم الدين.
وأثناء المعركة استطاع جمال الدين أعكوش الشمسي أحد أمراء الشام الذين انضموا إلى المسلمين، الوصول إلى كتبغ نوين وقتله، وبسقوط رأس كتبغ نوين انهارت معنويات التتار تمامًا، وبدءوا يفرون من أرض المعركة، واستطاعوا بالفعل فتح جزء من الفتحة الشمالية وهرب منها التتار في اتجاه بيسان على بعد 20 كيلو مترًا شمال شرق عين جالوت، ولم يتركهم المسلمون.
وفي بيسان تمت موقعة أخرى في نفس اليوم، وكان القتال هناك أعنف وأشد من عين جالوت في الصباح، وأقصى طاقات التتار خرجت في هذه الموقعة، وكادت الغلبة تكون للتتار، وصاح قطز من جديد الصيحة الخالدة: (واإسلاماه) ثلاث مرات، ثم رفع يده للسماء وقال: يا الله! انصر عبدك قطز على التتار. وهو يقول: لست أنا الملك المظفر، لست حاكم مصر، ولا أنا السلطان، إنما أنا العبد، انصر عبدك قطز على التتار.
كان هذا الخشوع منه في الدعاء من قلبه بمنزلة الجبل الذي سقط على جيش التتار فأهلكه تمامًا، خارت قوى التتار بعد هذه الكلمات، واستطاع المسلمون أن يحيطوهم من كل جانب، وأهلكوهم تمامًا.
وبعد هذه الموقعة يكفي أن نذكر أن جيش التتار قُتل وفني كله، ولم يبق منه جندي واحد.. وانتهت أسطورة التتار في موقعة عين جالوت موقعة اليوم الواحد.. كل تلك القصة حدثت وقطز صعد إلى العرش في 24 ذي القعدة سنة 657هـ، والموقعة حدثت في 25 من رمضان سنة 658هـ، يعني كل القصة عشرة أشهر منذ صعوده إلى العرش إلى أن حقق النصر في عين جالوت.
شيء إعجاز بكل المقاييس، ولا نستطيع أن نقول إلا قوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]. وهذا النصر تحقق بالنيات الصالحة والصدق والعودة إلى الله U، فأيدهم بنصره، وهرب التتار، وأمنت هذه المنطقة، وبعد بيسان دخل دمشق فلم يجد فيها تتاريًّا واحدًا؛ فأهل دمشق عندما وصلتهم أنباء النصر قتلوا الحامية التتارية هناك، وكذلك أهل حلب، وبدأت الصحوة في كل مكان.
وبعد عين جالوت اختفى ذكر التتار من التاريخ في هذه المنطقة، وولدت دولة المماليك التي حملت راية الإسلام قرابة ثلاثة قرون متصلة، وهي التي خلصت المسلمين -بعد التتار- من الصليبيين الذين كانوا موجودين في الشام وفلسطين.
المصدر:
- راغب السرجاني، بين التاريخ والواقع، ج1، ص107