التقعر في الكتابة

التقعر في الكتابة | مرابط

الكاتب: د جمال الباشا

215 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

الكتابة هي إحدى وسائل التعبير عما يعتلج في النفس من أفكار، وهي كالكلام من هذه الناحية، وكل منهما قد يتسم بالبلاغة واستعمال البديع وقد يتسم بالركاكة والحشو والتقعر.

وقد جاء في السنة المطهرة نهي صريح عن بعض صفات التكلم كالتشدق والتنطع والتفيهق، وهي كلمات تدور حول معنى التكلف والتصنع وإخراج الكلام عن حده الطبيعي الذي يتحدث به الناس عادة، واختيار المفردات الغريبة والتراكيب العويصة في طرح أي موضوع يتناوله سواء أكان لفظيا أم كتابيا.

والذي حملني على التعرض لهذا الموضوع رصدي لبعض المبرَّزين من الخطباء أو الكتاب الذين أغرقوا في الأسلوب الأدبي إلى حدِّ الغلو فلم يعودوا قادرين على تناول أي موضوع بشكل عفوي وبلغة بسيطة يفهمها عامة الناس، حتى لو كانت الفئة المستفيدة من عموم الناس وليسوا من طلبة العلم ولا الأدباء، ولا يخفى كم في هذا المنحى من حظوظ النفس والتفات القلب إلى مدح الناس وإطرائهم أكثر من التفاته إلى نفعهم والنصح لهم.

تجد بعض الكُتاب يذهب بك بعيدًا فيُشرِّقُ ويُغرِّب وربما سحرك بجمال صياغاته وتراكيبه ثم إذا أنهيت المقال لا تكاد تُمسك بأصل الموضوع ولا تستطيع حصرَ الفكرة التي تناولها ولا مراده منها، ولو سألت المعجبين الذين ينهالون عليه بعبارات الثناء والتبجيل ما هي خلاصة المقال؟ هل لكم أن توجزوا الفكرة ببساطة ووضوح؟!
سوف يجيبونك بالعجز عن ذلك!!

ومعلوم أنَّ الكتابة الأدبية كتابة خاصة تتضمن صورًا من التشبيه كالمجاز والكنايات، ويراعى فيها البديع كالسجع والطباق والجناس، مما يجعله مناسبا في مقامه الخاص كالمنتديات الشعرية والصالونات الأدبية التي يرتادها المثقفون ذوو الذائقة الخاصة فيستمتعون بها ويحلقون معها، وهذا ما درج عليه بعض من كتب قديما كالحريري في مقاماته، وابن الجوزي في مدهشه، وحديثا كالرافعي ومحمود شاكر والمنفلوطي وغيرهم، وهذا الأسلوب لن يكون محبذا في كل مقام ولا مع كل أحد، فخطبة الجمعة أو المقالة العلمية أو الفقهية أو الموعظة المركزة كل هذا يجب أن يكون الهدف الأساس منه إيصال المعاني والمضامين إلى السامعين وليس إمتاعهم وإبهارهم بقوة البلاغة وبراعة العرض وسعة الإحاطة بالغريب.

وربما يتوهَّم بعض الناس أنَّ البلاغة والفصاحة هي تلك اللغة المعقدة المُلغِزة التي لا يفهمها أكثر الناس، ولم يعلموا أنَّ البلاغة تفيد معنى بلوغ مراد المتكلم إلى السامع، والفصاحة تفيد كذلك معنى الإفصاح والبيان الجلي، وقدرة المتكلم عن التعبير بسلاسة عما في نفسه، فيتطابق اللفظ مع المعنى من غير حشو ولا إطناب.

لقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المتنطعين بالهلاك فقال: (هلك المتنطعون. قالها ثلاثا).
وقد كان هديه صلى الله عليه وسلم أحسن الهدي وأكمله في الكلام دعوةً وتعليمًا وخطابةً وتحاورًا، وفي الأمور كلها.
وكان من هديه في الكلام ما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فصلاً يفهمه كل من يسمعه".

يعجبني في هذا المقام ما قاله الجاحظ: "ومتى كان اللفظ كريمًا في نفسه، متخيرًا في جنسه، وكان سليمًا من الفضول بريئًا من التعقيد، حُبِّب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحَم بالعقول، وهشت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب... ولم أجد في خطب السلف الطيب، والأعراب الأقحاح ألفاظًا مسخوطة، ولا معانيَ مدخولة، ولا طبعا رديًا، ولا قولاً مستكرهًا".

وأخيرًا أقول:

إنَّ المحسنات البديعية والصور المجازية في اللغة هي بمثابة الملح والتوابل التي تضفي نكهة طيبة على الطعام، فإذا كانت هي البديل عن الطعام ذاته أو زادت عن حد الاعتدال فقدت قيمتها وكرهها الطبع السليم والمزاج المعتدل

 


 

المصدر:

قناة تيليجرام الخاصة بالدكتور جمال الباشا

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الكتابة
اقرأ أيضا
التقعر في الكتابة | مرابط
فكر

التقعر في الكتابة


الكتابة هي إحدى وسائل التعبير عما يعتلج في النفس من أفكار وهي كالكلام من هذه الناحية وكل منهما قد يتسم بالبلاغة واستعمال البديع وقد يتسم بالركاكة والحشو والتقعر وقد جاء في السنة المطهرة نهي صريح عن بعض صفات التكلم كالتشدق والتنطع والتفيهق وهي كلمات تدور حول معنى التكلف والتصنع وإخراج الكلام عن حده الطبيعي

بقلم: د جمال الباشا
214
نساؤنا ونساء الإفرنج | مرابط
مقالات

نساؤنا ونساء الإفرنج


لقد فقدت المرأة الغربية الزوج ففقدت المعيل فاقتحمت كل عمل لتعيش فصارت تعمل في المصنع وتشتغل في الحقل وتكنس الطريق من الأقذار! وقد خبرنا من رأى في أوربا البنات موظفات في المراحيض العامة ينظفنها لمن يريد الدخول

بقلم: علي الطنطاوي
90
ثقلاء على شفير البرزخ | مرابط
فكر مقالات

ثقلاء على شفير البرزخ


من المظاهر الأليمة التي بدت ملحوظة بعض الشيء هذه الأيام أن ترى الشخص يتبع الجنازة من أقاربه أو معارفه ويقف في زحام الناس في المقبرة أو متجافيا على مرمى خطوات يطل عليهم ثم يتجاذب مع صاحب له تعليقات الدعابة والهزل بل ربما استدعى من ذاكرته نوادر يتفكه بها طبع كلما رأيت هذا المشهد السمج انهمر على ذاكرتي حديث علي بن أبي طالب أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم- في جنازة فقعد وقعدوا حوله ونكس النبي صلى الله عليه وسلم- وقال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار أو من الجنة

بقلم: إبراهيم السكران
501
أسلمة العلمانية | مرابط
مقالات العالمانية

أسلمة العلمانية


ظاهرة الأسلمة شملت حتى الفكرة العلمانية ذاتها فالفكر العلماني الذي نشأ منابذا للخيار الإسلامي تحديدا ما دار عليه الزمان حتى صار العلمانيون يقدمون أنفسهم مجتهدين في فهم النص الشرعي ومستمسكين بتفسير من تفسيراته ومعتمدين على أقوال المذاهب وفتاوى العلماء يعني هذا: أن جمال هذه الأسلمة يجب أن لا يخدع العين عن إبصار أشكال التحريف التي تأتي على الأحكام الشرعية في ثناياها بغض النظر عن الدوافع النبيلة التي قد تحركها

بقلم: د فهد بن صالح العجلان
2013
المؤامرة على المرأة المسلمة ج5 | مرابط
تفريغات المرأة

المؤامرة على المرأة المسلمة ج5


يجب على الأخت المسلمة أن تعلم أن إقامتها في بيتها ليس تسلطا من أحد نعمة من الله عز وجل فضل وتكريم من الله عز وجل لها فعليها أن تحمد الله أنها لم تضطر أن تخرج لتعمل أو لتبتذل نفسها أمام الناس فبقاؤها في البيت هو الأصل وإن كان الزوج ممن يرضى أن تخرج فلا تخرجي إلا لما يستدعي الخروج فهذا شيء يجب أن تعلمه الأخت المسلمة ولا تعترض على من يأمرها به

بقلم: سفر الحوالي
398
فرية ضرب عثمان بن عفان لعمار بن ياسر: رد على عدنان إبراهيم ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات

فرية ضرب عثمان بن عفان لعمار بن ياسر: رد على عدنان إبراهيم ج2


ادعى الدكتور عدنان أن عثمان بن عفان رضي الله عنه ضرب عمار بن ياسر رضي الله عنه بقدمه في محاشه أي عورته حتى كان عمار لا يحتبس بوله واستدل على ذلك بما رواه ابن شيبة في تاريخ المدينة الجزء الثالث وطبعا نعلم جميعا ما لدى الدكتور عدنان من خلط وحقد يمرره بشكل ناعم في حلقاته وفي هذا المقال يناقش أبو عمر الباحث هذه الشبهة ويرد عليها

بقلم: أبو عمر الباحث
1310