التقعر في الكتابة

التقعر في الكتابة | مرابط

الكاتب: د جمال الباشا

485 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الكتابة هي إحدى وسائل التعبير عما يعتلج في النفس من أفكار، وهي كالكلام من هذه الناحية، وكل منهما قد يتسم بالبلاغة واستعمال البديع وقد يتسم بالركاكة والحشو والتقعر.

وقد جاء في السنة المطهرة نهي صريح عن بعض صفات التكلم كالتشدق والتنطع والتفيهق، وهي كلمات تدور حول معنى التكلف والتصنع وإخراج الكلام عن حده الطبيعي الذي يتحدث به الناس عادة، واختيار المفردات الغريبة والتراكيب العويصة في طرح أي موضوع يتناوله سواء أكان لفظيا أم كتابيا.

والذي حملني على التعرض لهذا الموضوع رصدي لبعض المبرَّزين من الخطباء أو الكتاب الذين أغرقوا في الأسلوب الأدبي إلى حدِّ الغلو فلم يعودوا قادرين على تناول أي موضوع بشكل عفوي وبلغة بسيطة يفهمها عامة الناس، حتى لو كانت الفئة المستفيدة من عموم الناس وليسوا من طلبة العلم ولا الأدباء، ولا يخفى كم في هذا المنحى من حظوظ النفس والتفات القلب إلى مدح الناس وإطرائهم أكثر من التفاته إلى نفعهم والنصح لهم.

تجد بعض الكُتاب يذهب بك بعيدًا فيُشرِّقُ ويُغرِّب وربما سحرك بجمال صياغاته وتراكيبه ثم إذا أنهيت المقال لا تكاد تُمسك بأصل الموضوع ولا تستطيع حصرَ الفكرة التي تناولها ولا مراده منها، ولو سألت المعجبين الذين ينهالون عليه بعبارات الثناء والتبجيل ما هي خلاصة المقال؟ هل لكم أن توجزوا الفكرة ببساطة ووضوح؟!
سوف يجيبونك بالعجز عن ذلك!!

ومعلوم أنَّ الكتابة الأدبية كتابة خاصة تتضمن صورًا من التشبيه كالمجاز والكنايات، ويراعى فيها البديع كالسجع والطباق والجناس، مما يجعله مناسبا في مقامه الخاص كالمنتديات الشعرية والصالونات الأدبية التي يرتادها المثقفون ذوو الذائقة الخاصة فيستمتعون بها ويحلقون معها، وهذا ما درج عليه بعض من كتب قديما كالحريري في مقاماته، وابن الجوزي في مدهشه، وحديثا كالرافعي ومحمود شاكر والمنفلوطي وغيرهم، وهذا الأسلوب لن يكون محبذا في كل مقام ولا مع كل أحد، فخطبة الجمعة أو المقالة العلمية أو الفقهية أو الموعظة المركزة كل هذا يجب أن يكون الهدف الأساس منه إيصال المعاني والمضامين إلى السامعين وليس إمتاعهم وإبهارهم بقوة البلاغة وبراعة العرض وسعة الإحاطة بالغريب.

وربما يتوهَّم بعض الناس أنَّ البلاغة والفصاحة هي تلك اللغة المعقدة المُلغِزة التي لا يفهمها أكثر الناس، ولم يعلموا أنَّ البلاغة تفيد معنى بلوغ مراد المتكلم إلى السامع، والفصاحة تفيد كذلك معنى الإفصاح والبيان الجلي، وقدرة المتكلم عن التعبير بسلاسة عما في نفسه، فيتطابق اللفظ مع المعنى من غير حشو ولا إطناب.

لقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المتنطعين بالهلاك فقال: (هلك المتنطعون. قالها ثلاثا).
وقد كان هديه صلى الله عليه وسلم أحسن الهدي وأكمله في الكلام دعوةً وتعليمًا وخطابةً وتحاورًا، وفي الأمور كلها.
وكان من هديه في الكلام ما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فصلاً يفهمه كل من يسمعه".

يعجبني في هذا المقام ما قاله الجاحظ: "ومتى كان اللفظ كريمًا في نفسه، متخيرًا في جنسه، وكان سليمًا من الفضول بريئًا من التعقيد، حُبِّب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحَم بالعقول، وهشت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب... ولم أجد في خطب السلف الطيب، والأعراب الأقحاح ألفاظًا مسخوطة، ولا معانيَ مدخولة، ولا طبعا رديًا، ولا قولاً مستكرهًا".

وأخيرًا أقول:

إنَّ المحسنات البديعية والصور المجازية في اللغة هي بمثابة الملح والتوابل التي تضفي نكهة طيبة على الطعام، فإذا كانت هي البديل عن الطعام ذاته أو زادت عن حد الاعتدال فقدت قيمتها وكرهها الطبع السليم والمزاج المعتدل

 


 

المصدر:

قناة تيليجرام الخاصة بالدكتور جمال الباشا

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الكتابة
اقرأ أيضا
إياك نعبد وإياك نستعين | مرابط
تفريغات

إياك نعبد وإياك نستعين


العبودية في قوله: إياك نعبد الفاتحة:5 العبودية هي التذلل والخضوع ولهذا تقول العرب: طريق معبد أي: مذلل إذا ذلل الناس الطريق بشيء من توطينه وتهيئته للسير يقول: طريق معبد كذلك العبد يسمى عبدا إذا كان متذللا بين يدي سيده. وهنا قال: إياك نعبد الفاتحة:5 لا نتذلل إلا لك سبحانك وتعاليت في هذا التذلل إلا لله جل وعلا والعبادة في ذلك مختلفة: ظاهرة وباطنة فالباطنة هي أعمال القلب من المحبة والخوف والرجاء والتوكل على الله سبحانه وتعالى والاستعانة والخشية وغير ذلك من أمور العبادة.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
844
أصل دين الأنبياء واحد وإنما تنوعت الشرائع | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

أصل دين الأنبياء واحد وإنما تنوعت الشرائع


وتنوع الشرائع في الناسخ والمنسوخ من المشروع كتنوع الشريعة الواحدة فكما أن دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم هو دين واحد مع أنه قد كان في وقت يجب استقبال بيت المقدس في الصلاة كما أمر المسلمون بذلك بعد الهجرة ببضعة عشر شهرا وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة ويحرم استقبال الصخرة فالدين واحد وإن تنوعت القبلة في وقتين من أوقاته فهكذا شرع الله تعالى لبني إسرائيل السبت ثم نسخ ذلك وشرع الجمعة فكان الاجتماع يوم السبت واجبا إذ ذاك ثم صار الواجب هو الاجتماع يوم الجمعة وحرم الاجتماع يوم ا...

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
872
ليلة في بيت النبي الجزء الثالث | مرابط
تفريغات

ليلة في بيت النبي الجزء الثالث


إن الله سبحانه وتعالى لم يشرع الضرب إلا للإصلاح والرسول عليه الصلاة والسلام قيد الضرب الذي جاء مطلقا في كتاب الله في قوله تعالى: واضربوهن النساء:34 فالضرب هذا يحتمل أن يكون ضربا شديدا وأن يكون ضربا خفيفا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اضربوهن ضربا غير مبرح أي: غير شديد فهذا الضرب مطلق في كتاب الله وقيد بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام فعلى الزوج أن يضرب ضرب المحب لا ضرب المنتقم إذ المقصود بالضرب هو الإصلاح

بقلم: أبو إسحق الحويني
979
مصدر تفسير القرآن | مرابط
تعزيز اليقين

مصدر تفسير القرآن


وكل ما استقر عليه فهم الصدر الأول من القرآن فهو مراد الله فيه لأن الله أنزله بلسانهم ليفهموه ولا يسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- معنى باطل استقر في نفوسهم فهذا يخالف مقتضى الرسالة والله مطلع على ما في نفوسهم من فهم.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
364
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا | مرابط
اقتباسات وقطوف

ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا


ما أكثر الأوقات التي تضيع على من غفل عن ذكر الله تضيع بلا فائدة وأنت إذا رأيت من نفسك أن أوقاتك ضائعة بلا فائدة فيجب عليك أن تلاحظ قلبك فإن هذا لا يكون إلا من غفلة القلب عن ذكر الله ولو رأيت أو لو نظرت فيما سبق من التاريخ كيف أنتج العلماء ما أنتجوا من المؤلفات

بقلم: ابن عثيمين
632
الأغنياء | مرابط
فكر مقالات

الأغنياء


ألا إن هذا المال نعمة من نعم الله التي استخلف الإنسان عليها في الأرض وفي الحياة الدنيا ألا وإن المال عصام هذا الكون الممتلئ بأسراره العجيبة التي لا يقضى من أعاجيبها عجب ألا وإنه للنظام الطبيعي الذي يجعل من قانونه سر الحياة الإنسانية التي لا تسمو إلا بالمنافسة والرغبة فيها والإصرار عليها ألا وإنه لأعجب شيء في الحياة إذ يكون هو كل شيء ثم هو ليس بشيء على الحقيقة وإذ يكون في وهم الفقير القلق سر السعادة ثم يكون عند الغني المسترخي فلا يعرف به ظاهر السعادة

بقلم: محمود شاكر
1712