أصل دين الأنبياء واحد وإنما تنوعت الشرائع

أصل دين الأنبياء واحد وإنما تنوعت الشرائع | مرابط

الكاتب: شيخ الإسلام ابن تيمية

787 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ديننا واحد

ولما كان أصل الدين الذي هو دين الإسلام واحدا، وإنما تنوعت الشرائع؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد»، «الأنبياء إخوة لعلات» «وأنا أولى الناس بابن مريم، فإنه ليس بيني وبينه نبي».

فدينهم واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو يعبد في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت، وذلك هو دين الإسلام في ذلك الوقت.

 

تنوع الشرائع

وتنوع الشرائع في الناسخ والمنسوخ من المشروع كتنوع الشريعة الواحدة، فكما أن دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم هو دين واحد، مع أنه قد كان في وقت يجب استقبال بيت المقدس في الصلاة، كما أمر المسلمون بذلك بعد الهجرة ببضعة عشر شهرا، وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة، ويحرم استقبال الصخرة فالدين واحد وإن تنوعت القبلة في وقتين من أوقاته، فهكذا شرع الله تعالى لبني إسرائيل السبت، ثم نسخ ذلك وشرع الجمعة، فكان الاجتماع يوم السبت واجبا إذ ذاك، ثم صار الواجب هو الاجتماع يوم الجمعة، وحرم الاجتماع يوم السبت.

فمن خرج عن شريعة موسى قبل النسخ، لم يكن مسلما ومن لم يدخل في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد النسخ لم يكن مسلما، ولم يشرع الله لنبي من الأنبياء أن يعبد غير الله البتة، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13]. فأمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ - وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51 - 52].

وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31 - 32].

فأهل الإشراك متفرقون، وأهل الإخلاص متفقون، وقد قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119] فأهل الرحمة متفقون مجتمعون، والمشركون فرقوا دينهم وكانوا شيعا.

 

ما أحدث من الشرك والبدع

ولهذا تجد ما أحدث من الشرك والبدع، يفترق أهله؛ فكان لكل قوم من مشركي العرب طاغوت، يتخذونه ندا من دون الله، فيقربون له ويستشفعون به ويشركون به. وهؤلاء ينفرون عن طاغوت هؤلاء، وهؤلاء وهؤلاء ينفرون عن طاغوت هؤلاء، بل قد يكون لأهل هذا الطاغوت شريعة ليست للآخرين، كما كان أهل المدينة الذين يهلون لمناة الثالثة الأخرى، ويتحرجون من الطواف بين الصفا والمروة، حتى أنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] الآية.

وهكذا تجد من يتخذ شيئا من نحو الشرك، كالذين يتخذون القبور وآثار الأنبياء والصالحين مساجد، تجد كل قوم يقصدون بالدعاء والاستعانة والتوجه من لا تعظمه الطائفة الأخرى.

 

أهل التوحيد

بخلاف أهل التوحيد، فإنهم يعبدون الله لا يشركون به، في بيوته التي قد أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، مع أنه قد جعلت لهم الأرض مسجدا وطهورا. وإن حصل بينهم تنازع في شيء مما يسوغ فيه الاجتهاد، لم يوجب ذلك تفرقا ولا اختلافا، بل هم يعلمون أن المصيب منهم له أجران، وأن المجتهد المخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور له.

والله هو معبودهم إياه يعبدون وعليه يتوكلون، وله يخشون ويرجون، وبه يستعينون ويستغيثون، وله يدعون ويسألون، فإن خرجوا إلى الصلاة في المساجد، كانوا مبتغين فضلا منه ورضوانا، كما قال تعالى في نعتهم: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29].

وكذلك إذا سافروا إلى أحد المساجد الثلاثة، لا سيما المسجد الحرام، الذي أمروا بالحج إليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة: 2] فهم يؤمون بيته ويبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، لا يرغبون إلى غيره، ولا يرجون سواه، ولا يخافون إلا إياه.

وقد زين الشيطان لكثير من الناس سوء عملهم واستزلهم عن إخلاص الدين لله إلى أنواع من الشرك، فيقصدون بالسفر والزيارة: الرجاء لغير الله، والرغبة إليه ويشدون الرحال: إما إلى قبر نبي أو صاحب أو صالح، أو من يظن أنه نبي، أو صاحب أو صالح، داعين له راغبين إليه.

ومنهم: من يظن أن المقصود من الحج هو هذا، فلا يستشعر إلا قصد المخلوق المقبور، ومنه من يرى أن ذلك أنفع له من حج البيت، ومن شيوخهم: من يحج، فإذا دخل المدينة، رجع وظن أن هذا أبلغ.

ومن جهالهم: من يتوهم أن زيارة القبور واجبة، ومنهم من يسأل المقبور الميت، كما يسأل الحي الذي لا يموت! يقول يا سيدي فلان، اغفر لي وارحمني وتب علي. أو يقول: اقض عني الدين، وانصرني على فلان، وأنا في حسبك أو جوارك.

وقد ينذرون أولادهم للمقبور، ويسيبون له السوائب، من البقر وغيرها، كما كان المشركون يسيبون السوائب لطواغيتهم، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103] وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136].

ومن السدنة: من يضل الجهال، فيقول: أنا أذكر حاجتك لصاحب الضريح، وهو يذكرها للنبي صلى الله عليه وسلم، والنبي يذكرها لله، ومنهم: من يعلق على القبر المكذوب أو غير المكذوب، من الستور والثياب، ويضع عنده من مصوغ الذهب والفضة، ما قد أجمع المسلمون على أنه ليس من دين الإسلام. هذا والمسجد الجامع معطل خراب صورة ومعنى!

وما أكثر من يرى من هؤلاء: أن صلاته عند هذا القبر المضاف إلى بعض المعظمين - مع أنه كذب في نفس الأمر - أعظم من صلاته في المساجد بيوت الله فيزدحمون للصلاة في مواضع الإشراك المبتدعة، التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذها مساجد، وإن كانت على قبور الأنبياء، ويهجرون الصلاة في البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، التي قال الله فيها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].

 


 

المصدر:

شيخ الإسلام ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، ص378

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#ابن-تيمية
اقرأ أيضا
إذا تدبرت القرآن.. | مرابط
مقالات

إذا تدبرت القرآن..


فإذا تدبرت القرآن.. وجدت فيه التحذير من الاغترار بظاهر الأحوال والكشف عن حقائقها وبواطنها فأنت تسير على صراط مستقيم وهدى من الله وتأييد وأهل الباطل يتنكبون ويتشتتون وتتخبطهم الشياطين ويألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون فتعتدل نظرتك لإيمانك بخبر الغيب.. ولبصيرتك التي ترى بها ما وراء سطور الواقع من بعض حقائق التدبير..

بقلم: د. طارق عنقاوي
250
أخوك أم الذئب؟ | مرابط
مقالات

أخوك أم الذئب؟


إن الشرق إذا خلص من شر النفايات الطافية على سطحه وإذا وثق بسلطان الروح السامية التي لا تذل وإذا نهج النهج لا يتهيب فما بد من أن يحوز من القوة ما يضارع قوة المدنية الأوربية المتهالكة وأن يجعل في هذه القوة من النظام الروحي النبيل ما يرد كل غائلة ويمنعها كل عدوان ويرفع الإنسانية درجات في طريقها إلى السماء. وهذه أيام فيها عبر كثيرة لمن يعتبر فإن حقائق المدنية الأوربية تستعلن كلها في هذه الرجة العظيمة التي ترجف بالعالم ساعة بعد ساعة.

بقلم: محمود شاكر
319
الحذر من إطلاق البصر | مرابط
اقتباسات وقطوف

الحذر من إطلاق البصر


وليحذر العاقل إطلاق البصر فإن العين ترى غير المقدور عليه على غير ما هو عليه وربما وقع من ذلك العشق فيهلك البدن والدين فمن ابتلي بشيء منه فليتفكر في عيوب النساء. قال ابن مسعود: إذا أعجبت أحدكم امرأة فليذكر مثانتها وما عيب نساء الدنيا بأعجب من قوله عز وجل ولهم فيها أزواج مطهرة وإياك والاستكثار من النساء فإنه يشتت الشمل ويكثر الهم. ومن التغفيل أن يتزوج الشيخ صبية وأصلح ما يفعله الرجل أن يمنع المرأة من المخالطة للنساء فإنهن يفسدنها عليه وأن لا يدخل بيته مراهق ولا يأذن لها في الخروج.

بقلم: ابن مفلح
253
الإسلام واللغة العربية | مرابط
اقتباسات وقطوف لسانيات

الإسلام واللغة العربية


وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب فإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ثم منها ما هو واجب على الأعيان ومنها ما هو واجب على الكفاية

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
529
علمانية الحكم الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات العالمانية

علمانية الحكم الجزء الأول


امتدت العلمانية إلى كل مجالات الحياة تقريبا بداية من الحكم مرورا بالاقتصاد وصولا إلى الأخلاق والشعور بل وحتى عالم الفن والأدب والكتابة اجتاحته العلمانية كذلك وفي هذا المقال يفصل لنا الكاتب سفر الحوالي علمانية الحكم وبداياتها في القرون الوسطى في ظل تمتع الكنيسة بسلطاتها الكبيرة رغم ذلك كان الحكم علمانيا حتى لو كان ظاهريا تحت مظلة الكنيسة

بقلم: د سفر عبد الرحمن الحوالي
2103
وظن أنه الفراق | مرابط
مقالات

وظن أنه الفراق


يمكننا تلخيص فكرة الموت بأنها خروج الروح من الجسد وانفصالها عنه بعد التحام وامتزاج دام طوال العمر حيث ابتدأت العلاقة في طور الجنين قبل الإدراك حينما جاء الملك بالروح من عالم الذر ونفخها في تلك المضغة اللحمية في رحم الأم فالإنسان الحي لا يعي حالة الروح المجردة عن الجسد ولا يذكرها البتة.

بقلم: د. جمال الباشا
340