الأغنياء

الأغنياء | مرابط

الكاتب: محمود شاكر

1711 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

كانتْ ليلة السبت السالفة مِن الأسبوع الماضي، فوقَع في دُنيايَ أمرٌ مُفْزِعٌ كنتُ معه كمن عَمِى دهرًا من عمره ثم أبصر، فأخذتني الحيرة أخذًا شديدًا، وتضرَّبتْ نفسي كما يتضرَّبُ الماءُ في مِرجَله على معركةٍ من النار تشتعلُ من تحته وتتسعَّر، وتقاذفَتْني الهموم كما يتقاذفُ تيَّارُ البحر الأعظم موجةً هائمة من موجِهِ، وتَنَزَّى قلبي بين ضلوعي، كما تَتَنَزَّى الكرَةُ مقْذوفة من علُ، وهاجَ هَيجي واضطرب أمرِي، وتغوَّلَتْني الأفكارُ الخائفة الحزينة المجرحة التي تَدْمَى أبدًا، فلا تحسمُ الدَّم، وانقلبتُ بِهَمِّي أدورُ في نفسي دَوْرة المجنون في دُنيا عقله المريض المشعَّث، وهكذا قَضَّيتُ ليلَ أيامي، وليس لمثل هذه الأيام نهارٌ.
 
ودعوتُ ربي جاهدًا، وكنت من قبل أدعوهُ، إنَّه هو البرُّ الرحيم، وكنتُ أرى الدنيا كلها وكأنما ارتدتْ لعَيْنَيَّ غلالةً من سرابٍ تخفِقُ عليها، وتميدُ وتتريّعُ، وإذا الأرضُ غير الأرض، والناس غيرُ الناسِ، وإذا كلُّ شيء يجيءُ ويذهبُ، ويَبينُ ويَخفى، وفقدتِ الأشياءُ معانيها في نفسي، فما أرى إلاَّ بؤسًا وخَصاصة وجوعًا وعُرْيًا، وإذا كلُّ شيءٍ بائسٌ فقيرٌ جائعٌ عارٍ لا يستره شيءٌ، اللهمَّ إني فوَّضتُ أمري إليك، وألجأتُ ظَهري إليك…. ومضيتُ أنسابُ في أيامِي البائِسَة، حتى إذا كان الليلُ في أَوَّلِه مُذ أمس، أويتُ إلى بيت كتبي آخذُ كتابًا لا ألْبثُ أُلقيه كأنْ بيني وبينه عداوة أو حقدٌ قديمٌ.
 

إغاثة الأمة

فضِقتُ ثم ضقتُ، وخَنقني خانقُ الضَّجر واليأسِ، وغاظَني ما غلبني على عقلي وإرادتي، فأهويتُ بيدي إلى كتاب عزمتُ ألا أدعه، وإذا هو “إِغاثة الأمة بكشف الغُمَّة؛ للمقريزي”، وفتحتُه وانطلقتُ أقرأ، فما أجوز منه حرفًا أوَّلَ إلا وجدتُ الألفاظَ تتهاوى في نفسي وفي عقلي، وكأنَّها تُقذَفُ فيهما من حالقٍ، حتى لوجدتُني أسمع لها فيهما صلصلةً ودويًّا، وهدًّا شديدًا شديدًا، كأن في نفسي وعقلي أبنية تنقضُّ وتتهدمُ في كفِّ زلزلة.
 
وإذا بحر يموجُ لعينيَّ أسمعُ هديرَه وزئيره وزمجرة أمواجِه في الريح العاتية، وإذا هو أحمرُ كالدَّم يَفُورُ ويتوثَّبُ، وإذا صَرْخةٌ تخفت زمجرة الأمواج، وإذا هو هاتف يهتف بي: “قُم إلى صلاتك، فقد أظلَّك الفجر!”.
 
فانتبهت فزعًا، وإذا أنا أقلب الصفحة التَّاسعة والعشرين من هذا الكتاب، وإذا خطوطٌ حمر قد ضربتُها فوق الأسطر: “ودخل فصل الرَّبيع فهبَّ هواء، أعْقَبَه وباء وفناء، وعدم القوت حتَّى أكل النَّاسُ صغارَ بني آدم من الجوع، فكان الأبُ يأكل ولده مشويًّا ومطبوخًا، والمرأة تأكل ولدها… فكان يوجد بيْن ثياب الرَّجُل والمرأة كتف صغير أو فخِذه أو شيء من لحمه، ويدخُل بعضهم إلى جاره فيجِد القِدر على النار فينتظرِها حتَّى تتهيَّأ، فإذا هي لحم طفل، وأكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت”(1).
 
أين يعيش أحدُنا وهو يقرأ؟ هذه تسع ساعات يُخيَّل إليَّ أني قضيت ثماني ساعات منها وأنا أقرأ هذه الأسطر القليلة أُقلِّبها لعيني فتتقلَّب معانيها في نفسي؛ إذ كانت تنزع في معناها إلى الآلام المفتجّرة بدمي في قلبي، فلا يكون الحرفُ منها إلاَّ أفكارًا تتَّسع وتتراحب، وتتداعى وتتوالد، ويَنْسَخ بعضها بعضًا.
 
ولو ذهبتُ أكتب ما قرأته في نفسي منه هذه الأسطر، وما تحدثتْ به النفس من حديث أَكَلَ ثماني ساعات من أوَّل الليل إلى مطلع الفجر، لملأَ ذلك ما يقع في كتاب مفرد، ولكن…
 
لماذا لا تكون هذه القسْوة المتوحِّشة إلاَّ من أعمال القلوب المتحجِّرة في بيوت الأغنياء والأكابر؟ ولماذا يكون أقسى القسْوة في قلْب المرأة الغنيَّة، فتكون هي أعظم استِهانة بجريمة أَكْل ولَدِها الذي ولدَتْه؟ ولماذا يكون الفقيرُ والفقيرة دائمًا هما مِثال الرحمة والحب والعطف والحنان؟ أليس الناس جميعًا – غنيُّهم وفقيرُهم – سواء في هذه الحياة؟ بلى، ولكن…
 

المال..

ألا إنَّ هذا المال نِعمة من نعم الله التي استخلف الإنسان عليها في الأرض، وفي الحياة الدنيا، ألا وإنَّ المالَ عِصامُ هذا الكون الممتلئ بأسراره العجيبة، التي لا يُقضى من أعاجيبها عجب، ألا وإنَّه للنِّظَام الطبيعي الذي يجعل مِن قانونه سر الحياة الإنسانية، التي لا تسمو إلا بالمنافسة والرَّغْبة فيها والإصرار عليها، ألا وإنَّه لأعجب شيء في الحياة إذ يكون هو كل شيء، ثم هو ليس بشيء على الحقيقة، وإذ يكون في وَهْم الفقير القَلِق سِر السعادة، ثم يكون عندَ الغني المسترخي، فلا يعرف به ظاهرَ السعادة.
 
ألا إنَّه العجب والفتنة؛ إذ يكون سرّ الحياة الإنسانية المدنيَّة على الأرض، ومع ذلك فهو إذا مَلأَ الغَنيّ أفرغه من إنسانيته، وإذا فرَغَ الفقير منه امتلأ إنسانيَّة ورحمة وحنانًا، ثم يكون بينهما أشياء في هذا وفي ذاك تختلط وتضطرب، ويرمي بعضها في بعض حتَّى يصبح كلُّ شيء فسادًا لا صلاح له.
 
(أكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت!) و (أكثر ما يفعل ذلك النساء!)، إنَّه ليس عجيبًا، ولكنه مؤلم، إنه ليس بعيدًا ولكنَّه مفزع، إنَّه هو الحقيقة الدائرة مع معاني الثراء والغنى والتَّرف والرفاهية، ولكنَّها الحقيقة الضارية المتوحِّشة، التي انطلقتْ من قيودها حين أزمتها الحاجة والقحط والجوع، ونداء المعدة، التي تتلوَّى أمعاؤُها كما تتلوَّى الحيَّة الجائعة على شهواتها المتجسِّدة في فريستها، ليس هذا هو كلّ شيء، وليس القحط وحدَه هو الَّذي يُضَرِّي عبيد المال، فيأكلون بنيهم وبناتِهم أكْلَ الوحش الطاغي بطغيان حيوانيَّته التي تريد البقاءَ لنفسها، ثمَّ لا تعرف غير نفسها، ولا تعبد إلاَّ نفسها.
 

الأزمات عند الأغنياء

إنَّ كل أزمة تطلق في أعصاب الأغنياء – إلاَّ مَن رحِم ربك – وحشًا آكلاً طاغيًا مستأثرًا لا يرى إلا نفسه، ولا يريد البقاء إلاَّ لنفسه.
 
فإذا وَقَع القحْط بين صديقَين أحدهما غني كان صديقه طعامًا تفترسه الصداقة الغنيَّة! وإذا وقع القحط بين حبيبَين أحدهما ثريٌّ مترف تثاءب عنه يُريد النوم؛ لأنَّه شبع من حبه حتى تملَّأ! وإذا وقع القحط بين أخويْن أحدهما غني، كان حقّ الرحم عليه أن يشربَ ما بقي من دم أخيه يستولغ فيه حتى يَرْوَى!
 
إنَّ الترف والنِّعمة والكفاية، وأحلام الغِنى، وكنوز الثَّراء، إن هي إلاَّ الماحِقات الآكلات، الَّتي تمحق العواطفَ الإنسانيَّة النَّبيلة حين لا ملجأَ إلاَّ إلى الخشونة والشدَّة والصبر وحقيقة الفقر.
 

عن الفقراء..

إنَّ الفقراء هم أكثر النَّاس رغبة في النسل على ضيق رزقِهم، والأغنياء أقلُّ النَّاس إقبالاً عليه على ما يجدون من السَّعة.
 
الفقراء أشدّ حزنًا على مَن فقدوا من أبنائهم وأحبابهم، ولكن أولئِك لا يحزنون إلاَّ ريث يُشعرون النَّاسَ أنهم حزنوا، ولئلا يقول النَّاس: إنَّهم لم يحزنوا على أحبابهم الأغنياء…
 
نعم هي زِينة الحياة الدنيا، ولكن مع الزينة الخداع، ومع الخداع الضعْف، ومع الضعف القسوة حين تجد ما يتليَّن لها أو يتساهل أو يستكين… أو يثق.
 
فمَن صادق غنيًّا فليحذر، ومَن آخى ثريًّا فليتحصَّن، ومَن عامله فليرهب، فإذا بلغ المرأة الغنيَّة فأحبَّها فخيلت له أنَّها أحبته فوثق بها فقد هلك، وإنما هو ملهاةٌ من ملاهي الترف، إذا فقدت لذَّة اللَّهو به نبذتْه لِمَا به.

 


 

المصدر:

جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر، الجزء الأول، 163-166

 

الإشارات المرجعية:

كتاب “إغاثة الأمة يكشف الغمة” هو تاريخ المجاعات التي كانت بمصر، وقد طبع بلجنة التأليف والترجمة والنشر منذ أسابيع، وهذا الَّذي نقلناه من تاريخ المجاعة التي كانت بمصر في الدولة الأيوبية سنة 596 فقيل فيها: “سنة سبع افترست أسباب الحياة (شاكر).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
العقل والشرع والعلاقة بينهما | مرابط
تفريغات

العقل والشرع والعلاقة بينهما


فمن أعظم نعم الله على العبد نعمة العقل وقد أناط الله تبارك وتعالى التكليف جملة وتفصيلا على وجود هذا العقل فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ والصغير حتى يحتلم والمجنون حتى يفيقوالذي يقرأ آيات القرآن الكريم يجد فيها تمجيد العقل وتعظيمه وبين يدينا تفريغ لجزء من محاضرة للشيخ أبو إسحق الحويني يتحدث فيها عن العقل والنقل وعلاقة العقل بالشرع

بقلم: أبو إسحق الحويني
1260
السر في كون البدعة أحب إلى إبليس من المعصية | مرابط
تفريغات

السر في كون البدعة أحب إلى إبليس من المعصية


قالسفيان الثوريوغيره من العلماء: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها ومن أظهر الدلائل على أن إبليس لا يكترث بالمعصية حديثجابرالذي رواه الإماممسلمفي صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إبليس يضع عرشه على الماء فهو يضع عرشه أي: الكرسي ثم يجلس عليه وبعد ذلك يعطي للأبالسة خط سير كل واحد يذهب إلى بني آدم: يرسل سراياه تترى إلى بني آدم تترى: بعضها خلف بعض إنهم لا يكلون ولا ينامون ولا يهدءون فإبليس لا يحاسب رأس كل شهر ولا أسبوع إبليس يحاسب كل يوم ي...

بقلم: أبو إسحق الحويني
915
المسألة فيها خلاف الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات

المسألة فيها خلاف الجزء الأول


كان الناس قبل عقود -بل سنوات- قليلة إذا تباحثوا في مسألة ما قال أحدهم: ما الدليل واليوم وبعد أن سمع فتوى فلان وفلان قال لك: المسألة فيها خلاف فرد التنازع إلى الخلاف لا إلى الدليل من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وبدلا من أن يجعل القرآن والسنة حاكمين عند الاختلاف جعل الاختلاف حاكما عليهما ومرد ذلك إلى الجهل والهوى والتساهل والتهاون في اتباع الشرع والأخذ بالدليل

بقلم: علوي بن عبد القادر السقاف
1816
قاسم أمين وتحرير المرأة | مرابط
تفريغات المرأة

قاسم أمين وتحرير المرأة


إن قضية تحرير المرأة التي تولى كبرها قاسم أمين قضية لها شأن وتستحق أن نقف عندها بعض الوقت لما قرأت مذكرات قاسم أمين ومذكرات سعد زغلول لأن سعد زغلول هو الذي شجع قاسم أمين وقاسم أمين شاب يشع الذكاء من عينيه ذهب إلى فرنسا وأعداؤنا يصطادون المواهب من أمتنا ولا يتصرفون بطريقة تلقائية أو عشوائية كما يظن السذج يعني: مثلا: مسألة الدجاج المذبوح أو المقتول جاء بعض الناس وقال: إنهم يقتلون الدجاج ولا يذبحونها لماذا قال: لأن نسبة من الدم يتجمد في العروق فمع ملايين الدجاج المقتول وتجمد الدم فيها يزداد ال

بقلم: أبو إسحق الحويني
705
دولة الكلام المبطلة الظالمة | مرابط
فكر مقالات

دولة الكلام المبطلة الظالمة


إن المعقول المتبادر من حكمة الله في نعمة النطق ومزية الكلام التي ميز بها الإنسان وفضله من سائر أنواع جنسه الحيواني هو أنها التعبير عما في النفس من العلم ليتعاون الناس بإفضاء كل بما في نفسه إلى غيره على تكميل علومهم وتحسين أعمالهم ولكن الأشرار منهم كفروا هذه النعمة بما أساءوا من استعمالها في الكذب والإفك والخلابة حتى قال بعض الأذكياء: إن حكمة الكلام وفائدته إخفاء ما في النفس وصرف الأذهان عن الحقائق

بقلم: محمد رشيد رضا
933
التسوية بين المرأة والرجل | مرابط
المرأة

التسوية بين المرأة والرجل


إن تسوية الأنثى بالذكر في جميع الأحكام والميادين فيها من الفساد والإخلال بنظام المجتمع الإنساني ما لا يخفى على أحد إلا من أعمى الله بصيرته. وذلك لأن الله جل وعلا جعل الأنثى بصفاتها الخاصة بها صالحة لأنواع من المشاركة في بناء المجتمع الإنساني صلاحا لا يصلحه لها غيرها كالحمل والوضع والإرضاع وتربية الأولاد وخدمة البيت والقيام على شؤونه من طبخ وعجن وكنس ونحو ذلك.

بقلم: محمد الأمين الشنقيطي
399