العقل والشرع والعلاقة بينهما

العقل والشرع والعلاقة بينهما | مرابط

الكاتب: أبو إسحق الحويني

1187 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد..

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فمن أعظم نعم الله على العبد نعمة العقل، وقد أناط الله تبارك وتعالى التكليف جملةً وتفصيلًا على وجود هذا العقل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق).

ومعنى رفع القلم: أي: رفع قلم التكليف والمؤاخذة عن هؤلاء الثلاثة.

والنائم والصغير فيهما نوع جنون، إذ أن النائم ذاهب العقل مؤقتًا.. والصغير لا عقل له.

إذًا صار عندنا: مجنون لا يفيق، ونائم زائل العقل مؤقتًا حتى يستيقظ، والصغير الذي لا عقل له، فهؤلاء الثلاثة زال التكليف عنهم لزوال العقل إما كليةً وإما مؤقتًا.

 

تمجيد القرآن الكريم للعقل

والذي يقرأ آيات القرآن الكريم يجد فيها تمجيد العقل وتعظيمه، قال الله تبارك وتعالى: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:5] أي: لذي عقل، وسمي العقل حجرًا لأنه يحجر على صاحبه، فلا يقع في القبائح، ولا في خوارم المروءة، وقال تبارك وتعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وقال تبارك وتعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
إذًا للعقل قيمة عظيمة جسيمة؛ لكن أين موقعه؟

وبمعرفة ذلك نهدم الصنم الذي نصبه المبتدعة أمام نصوص الوعد..

إن العقل صار صنمًا يعبد، ووثنًا يجب تكسيره؛ لأنهم وضعوه في مكانٍ ليس له.

وأنا قدمت بهذه المقدمة حتى لا يقال: إننا معشر أهل السنة والجماعة لا نعظم العقل ولا نحترمه، ولا نضعه في حسباننا، حاشا وكلا! لكن نضعه في مكانه.

المبتدعة لهم أوثان.. ومن أعظم أوثانهم وثن العقل.. جعلوا العقل قاضيًا على كلام الأنبياء، فالعقل عندهم رقم (1)، وكلام الرسول رقم (2) فإذا خالف كلام النبي صلى الله عليه وسلم عقولهم ردوه.

والفخر الرازي، والجويني أبو المعالي هؤلاء ضلوا زمانًا طويلًا بسبب عقولهم.. وتداركتهم عناية الله في آخر حياتهم وهم على فراش الموت، قال أبو المعالي : لقد خضت البحر الخضم، وخضت الذي نهاني عنه أهل الإسلام، وهأنذا أموت على فراشي كما تموت عجائز نيسابور، والويل لـابن الجويني إن لم يغفر الله لك..

وكان ابن الجويني من أذكياء العالم؛ لكن هذا الأمر زلت فيه أعظم العقول.

قلت في الجمعة الماضية: إنهم يحرفون كلام الوحي لصالحهم، قال قائلهم:

إن إبراهيم عليه السلام ما اهتدى إلى ربه إلا بالعقل.. وكذب! فقصة إبراهيم عليه السلام تنادي بغير ذلك.. وهي معروفة في سورة الأنعام: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:76-79].

أين - في هذه الآيات- ما يدل على أنه اهتدى بالعقل؟!

يكذب هذه الدعوة قوله تبارك وتعالى :وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51].

(آتيناه رشده من قبل): من قبل أن يفكر في هذه القضية أساسًا، فالهداية نعمة من الله، ومنحةٌ إلهية ليس للعقل فيها دور أبدًا.

ولذلك يخطئ الناس عندما يقولون: إن الله عرفوه بالعقل.

لا والله..! لا يعرف ربنا بالعقل استقلالًا أبدًا، لأن العقل قاصر على ما دخل تحت الحواس؛ ولذلك ما خرج عن الحواس لا يتخيله العقل.. ولا يستطيع وصفه ولا توصيفه، والعقل لا يستطيع وصف الجنة ولا وصف النار، ولا وصف الملائكة ولا الشياطين.

فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن في الجنة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) كيف يصفه العقل إذًا؟!

وقال ابن عباس : (ليس في الجنة من الدنيا إلا الأسماء) فيها نخلٌ ورمان، هل هي كنخلنا ورماننا؟ لا.

فيها خمر لذة للشاربين.. هل هي كخمرتنا؟ لا.

فيها لبنٌ لا يتغير طعمه، هل هو كلبننا؟ لا.

فيها ماء غير آسنٍ، هل هو كمائنا؟ لا.

نعم فيها الاسم، لكن الجنس.. الوصف.. الطعم.. مختلف تمامًا..

ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.. فكيف يعقله المرء إذًا؟!

نوافذ العقل على الدنيا هي الحواس.. والله تبارك وتعالى لا يقع تحت حاسة بشر، فكيف يمكن أن يهتدي العبد إلى ربه بعقله؟! أبدًا.

الهداية منحة من الله ثم يأتي دور العقل ثانيًا ليثبت هذه المنحة.

إذًا دور العقل أن يكون رقم: (2)، ولا يكون قبل النقل أبدًا.

وإنما ضل أهل البدع بسبب أصلهم الفاسد، وهو تقديم العقل على النقل..

 

لا عقل مع النقل

إن علماء أهل السنة عندما يقولون: لا عقل مع النقل، لا يقصدون منه: أن تأخذ النقل بلا عقل.. وما قدمنا يدل على أن العقل ضرورةٌ وأساس للتكليف.. فكيف يفهم كلام ربنا وكلام النبي صلى الله عليه وسلم بلا عقل؟!
فقولهم: (لا عقل مع النقل) أي: لا تقدم عقلك على النقل.. لا تجعل عقلك قاضيًا على كلام النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك قولهم: (لا اجتهاد مع النص) ليس معناه أن تأخذ النص بلا اجتهاد ولا تفكير…، وإنما معناه: لكن لا تجتهد اجتهادًا مضادًا للنص.

فمثلًا لو قرأت قوله صلى الله عليه وسلم: (الوضوء ثلاثًا، فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم) فالواضح من هذا الحديث: أنه لا يجوز الزيادة على ثلاث مراتٍ في الوضوء، فمن زاد على ثلاثٍ، فقد أساء وتعدى وظلم، فإذا جاء آتٍ وقد قرأ مثلًا حديث علي بن أبي طالب : (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثًا) فقال: على الإنسان أن يتوضأ ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا.. حتى يعلم أنه قد أسبغ الوضوء! هذا اجتهاد.. مراده في هذا الكلام أن تسبغ الوضوء في النهاية، ولو أدى إلى تكثير مرات الغسل، فحينئذٍ نقول له: لا اجتهاد مع النص.. بمعنى لا اجتهاد مضاد للنص، وليس المعنى: خذ النص بلا اجتهاد.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة | مرابط
اقتباسات وقطوف

التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة


ثم الدعاء والتضرع يفتح له من أبواب الإيمان بالله عز وجل ومعرفته ومحبته والتنعم بذكره ودعائه ما يكون هو أحب إليه وأعظم قدرا عنده من تلك الحاجة التي همته. وهذا من رحمة الله بعباده يسوقهم بالحاجات الدنيوية إلى المقاصد العلية الدينية

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
398
بين مسالك الحق والباطل | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين مسالك الحق والباطل


ويوجد من الناس من يؤمن بالحق ظاهرا ﻷنه أول شيء معلوم وارد إليه أو ﻷنه أقوى ظهورا وصوتا من الباطل فإذا أصبح الباطل أقوى صولة وظهورا ينقلب وينتكس إلى الباطل فيظن أنه انتقل من باطل باطن إلى حق باطن والصواب أنه اغتر بالصور المحسنة والمقبحة فانتقل من ظاهر ضعيف إلى ظاهر قوي ولم يهتم بالحقائق ويدقق فيها

بقلم: عبد العزيز الطريفي
284
حيثما كان العدل فثم شرع الله | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

حيثما كان العدل فثم شرع الله


وليس للمسلم أن يطرح حكم الشريعة طلبا للعدل استقلالا عنها فإن هذا فاسد من جهة الدين والذي يلزم المسلم بالاحتكام للشرع وليكن على ثقة أنه متى التزم حكم الشريعة فسيؤول به الأمر إلى تحقيق العدل وأنه متى خالفها فسيقع في مناقضة العدل إذ اطراح الحكم والحالة هذه اطراح للعدل أيضا

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2359
الدنيا تغيرت الجزء الثاني | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

الدنيا تغيرت الجزء الثاني


الدنيا تغيرت توظف هذه المقولة للاعتراض على بعض المقررات الشرعية بذريعة أن النصوص الشرعية ثابتة والواقع متغير ولذا لا يمكن أن نجمد على الثابت وقد يسعى بعضهم إلى مقاربة تظهره بمظهر المعظم للشريعة فهو يتحدث عن حجم استجابة الشريعة لمتغيرات الواقع وتقلباته فهي ليست مجرد نصوص جامدة صلبة لا تقبل الزحزحة أو التطوير بل هي تتطور مع تتطور الواقع للتفاعل معه والذي يؤول في الحقيقة إلى جعل الواقع حكما على الوحي وفي المقال فحص لهذه الشبهة ورد عليها

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
1158
الغناء بريد الشيطان | مرابط
تفريغات

الغناء بريد الشيطان


هذا كان يقوله ابن مسعود لما كان الغناء يقع من الجواري والإماء المملوكات يوم أن كان الغناء بالدف والشعر الفصيح يقول: هو رقية الزنا فماذا يقول ابن مسعود لو رأى زماننا هذا وقد تنوعت الألحان وكثر أعوان الشيطان؟! لقد أصبحت الأغاني تسمع -والعياذ بالله- في كل مكان والأغاني طريق لنشر الفاحشة فما يكاد يذكر فيها إلا الحب والغرام بالله عليك هل سمعت مغنيا غنى يوما في التحذير من الزنا أو أكل الربا أو حتى عن صوم النهار وبكاء الأسحار وتعظيم الواحد القهار؟!

بقلم: محمد العريفي
416
نسف شبهات عدنان إبراهيم حول الصحابي بسر بن أبي أرطأة ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات

نسف شبهات عدنان إبراهيم حول الصحابي بسر بن أبي أرطأة ج2


أثار عدنان إبراهيم في إحدى حلقاته الكثير من الشبهات حول الصحابي بسر بن أبي أرطأة وزعم أنه قتل طفلين ثم جنت أمهما من هول المنظر ثم ادعى بأنه باع نساء المسلمين سبايا في أسواق النخاسة فكانت المسلمة العفيفة تكشف عن ساقها ليرى ليستطيع الناظرون تثمينها وكل ذلك لأنهن كن في معسكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فما حقيقة هذه الشبهات هذا ما يناقشه المقال

بقلم: أبو عمر الباحث
1728