
يعرف المتابعون اليوم أن الدراسات الحداثية في إعادة قراءة التراث الإسلامي سكبت من الإشادات والتنويهات بالإمام (الشاطبي) ما يملأ مكتبة الإسكندر!
وتذكر هذه الدراسات أنها تسير على طريقة الشاطبي وأنها هي التي فهمته وأن مدارس أهل السنة السلفية والتقليدية هجرت فكر الشاطبي وإبداعه (1)
ثم يعرض الحداثيون آراءهم الفقهية في مسائل الحرية وأحكام المرأة والجهاد والعلاقة بغير المسلم وأهل الذمة والحدود الجنائية إلخ، ويزعمون أن هذا كله بناءً على تفطنهم واستعمالهم لمقاصد الشريعة التي بشَّر بها الشاطبي وقعّدها وأصّلها في موافقاته، ويُعيدون ويُبدؤون بإطراء الشاطبي.
ويعرف أهل الخبرة بالفقه وأصوله أن الشاطبي لا علاقة له البتة بهذه الآراء التغريبية في مسائل الحرية والمرأة والجهاد والحدود الخ، لأن الشاطبي أصلًا من صقور المحافظة المذهبية في الفقه الإسلامي، وكلامه الكثير المنتشر في التعظيم البالغ لأئمة السلف وأتباعهم، وتعظيم قاعدة (سد الذرائع)، وكلامه في التغليظ على جعل الخلاف حجة، والتشديد في منع تتبع رخص المذاهب، والفتيا بمشهور المذهب فقط، والتأكيد على اعتبار الجزئيات الشرعية وعدم إهمالها باسم الكليات، وتقديم المصالح الأخروية على الدنيوية، وتقديم النقل على العقل، وأن كل الأحكام تغطيها النصوص الشرعية، وتعظيم الشاطبي لمرجعية العالم وأن (المفتي قائم في الأمة مقام النبي) عنده، وتحذيره من الاعتراض على الكبار من أهل العلم، وتحقيره للفلسفة، الخ. حتى أنه نُسِب إلى التشدد والتعسير في الفتيا الفقهية وروى بنفسه هذه التهمة (2)
إذن لماذا يُظهِر الحداثيون هذه الإشادات بالشاطبي؟
الواقع أن الشاطبي وموافقاته ومقاصده لم يكن هو الحافز الحقيقي المحرك لهم لهذه التأويلات الفقهية لأحكام الشريعة التي ينشرونها، وإنما هي آراء تلقّوها من الفكر الغربي الحديث ولهم فيها هوى عظيم، ثم بحثوا في التراث الإسلامي عن تأصيل لها، فرأوا الشاطبي يؤكد على المقاصد العامة والضرورات الكبرى، فصارت لهم شبهة تركبت مع هواهم، فصاروا يذكرون الشاطبي وينوهون به ويشيدون بعبقريته، وحذاقهم يعلمون جيدًا التناقض بين موافقات الشاطبي والتغريب الفقهي، وأما عوام من دخل في هذه القراءات الحداثية فقد يقع عند كثير منهم التوهم فعلًا أن مقاصد الشاطبي تساند الآراء الفقهية المستغربة المحببة لهم، فيكون قد جمع بين اتباع الظن وما تهوى الأنفس، ويكون حاله مركبة من شبهة وشهوة.
والمراد هنا أن كثرة استشهاد الحداثيين بالشاطبي لا يعني صحة كونهم امتداد له، بل استشهادهم به دائر بين الغلط في العلم والهوى في التأويل، بما يعني أنه ليس دقيقًا أن كثرة الاستشهاد دليل على الامتداد. ومن وجه آخر فلو جاء شخص وقال: (إلى متى الصمت؟! يجب نقد الشاطبي وأنه سبب التغريب الفقهي!)
فهذا القائل في الحقيقة لا يزعج الحداثيين البتة، وليس هذا نقدًا لهم ولا مناقشة لفكرهم، بل هو من أعظم ما يدخل السرور عليهم، حيث يؤكد لهم صحة مسارهم وشرعيتهم التراثية التاريخية.
الإشارات المرجعية:
- (انظر مثلًا: الجابري، بنية العقل العربي، ص: [547]).
- (انظر: الاعتصام، [1/28]).