ابن حبك لله على أسس سليمة

ابن حبك لله على أسس سليمة | مرابط

الكاتب: د إياد قنيبي

1710 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ذكرنا في المحطة السابقة أن (الحبشرطي) يشرط محبته لله عز وجل باستمرار النعم الدنيوية
 

أسس الحبشرطي لمحبة الله

إذن؛ هو يؤسس هذا البيت -يعني محبة الله- يؤسسه على أسس.. هذه الأسس هي: المال، الصحة، الحرية، الاستقرار الأسري، المكانة الاجتماعية.
 
لكن، لاحظ معي:
هذه الأسس الدنيوية جميعها.. أليست قابلة للزوال؟
أليس هذا الحبشرطي مهددًا في أي لحظة:
بالفقر = زوال المال
بالمرض = زوال الصحة
بالحبس = زوال الحرية
بالمشاكل = زوال الاستقرار
 
ماذا سيحصل حينئذ إذا ابتلي بفقد أحد هذه الأسس؟
سوف يميل البيت ويسقط وينهار، سوف تنهار محبة الله المشروطة في قلب هذا العبد الحبشرطي! لأنه أسسها على أسس قابلة للزوال في أية لحظة
 

كيف نميز محبتها لله عز وجل؟

إذن؛ كيف أعرف إن كانت محبتي لله عز وجل مهددة بالزوال في أية لحظة؟
كيف أعرف إن كنت قد أسستها على أسس دنيوية؟

حقيقة، البلاء يساعدك في ذلك جدًا، وهذا من نعم الله عليك في البلاء.
 
عندما تُبتلى وتدعو الله عز وجل وتطلب منه أن يرفع عنك البلاء ويعيد لك النعم، قد يقدر الله عليك أن يستمر بلاؤك ويطول ويشتد، وحينئذ سوف تعرف إن كان حبك لله مشروطًا لهذه المصالح الدنيوية.
 
واجهت محنة حُرمت فيها فجأة من: حريتي، أهلي، أولادي، أصدقائي، مالي، وظيفتي.. فجأة!
 
ثم دعوت الله لكنه قدر أنه يستمر بلائي أطول مما ظننت. هذا وضعني حقيقة أمام السؤال المهم:
 
الآن، وبعد حرماني من هذه الأشياء، هل ما زلت أحب الله عز وجل؟
هذا السؤال ساعدني في تشخيص مقدار الحبشرطية في نفسي؛ لأعيد بناء محبة الله على الأسس السليمة الصحيحة.
 
أسألك بالله: هل أنت مستعد أن تشتري بيتًا لتسكنه إذا علمت أن هذا البيت مرتكز على أسس واهية قابلة للانهيار والزوال في أية لحظة؟! فما ظنك بمحبة الله عز وجل التي من أجلها نعيش، بل من أجلها خلقنا؟
 
فربنا خلقنا لنعبده، والعبادة محبة وتعظيم وطاعة. فهل أنت مستعد أن تغامر بمحبة الله عز وجل، وتبنيها على أسس قابلة للزوال في أية لحظة؟
إذًا، لا بد لك أن تبني محبة الله في قلبك على أسس صحيحة..
 

الأسس الصحيحة لمحبة الله عز وجل

ترى ما هي هذه الأسس؟
 
كثيرة.. منها:
 
1- اليقين باستحقاق الله سبحانه للعبادة لذاته العظيمة، والتفكر في أسماء الله وصفاته وتأمل آثارها في الواقع، وهذا هو الأساس الأعظم في بناء المحبة لله
 
2- تعلق القلب بالآخرة ونعيمها
 
3- العرفان لله بنعمة الهداية
 
4- الامتنان لله بما أنعم عليك في الماضي بغض النظر عن الحاضر والمستقبل
 
5- استحضار أن نعم الله عليك لا تُعد ولا تُحصى مهما نزل بك من بلاء ومصيبة ومهما فقدت، فلا زلت مغمورًا في فضله لكنك ألفت نعمه التي أنت فيها الآن حتى لم تعد تحس بها
 
6- تأمل محطات رحمة الله بك، صرفه للشرور عنك، تهيئة أسباب هدايتك، ستره عليك، إحاطته إياك بأناس يحبونك وكل ما كان منهم من خير فمن الله.. تأمل ذلك في محطات حياتك..
-أنا عن نفسي استعرضتها تباعا في جوف بلاء، وتلوت معها سورة (والضحى)، فأحدثت لي لذة وطمأنينة وشعورًا بمعية الله لي وأنه سبحانه يريد بي خيرًا.
 
7- ما ينعم الله به عليك، إن أقبلت عليه، من أعمال القلوب مهما كانت الظروف، كالرضا والشوق إلى الله والأنس بالله وكلامه (القرآن)
 
إذًا، هذه أشياء ثابتة لا تزول: أسماء الله وصفاته، الآخرة المرتقبة، نعم الماضي، حقيقة أنك ستبقى مغمورًا في نعم الله مهما أخذ منك.. هذه الأشياء لا تتغير، ليست مهددة بالزوال، تبنى عليها محبتك لله وأنت واثق مطمئن.
 
أما ما يستجد لك -في الحاضر والمستقبل- من نعم جديدة ورفع بلاء؛ فهذه كلها تزيد محبتك لله عز وجل، ولكنها ليست شرطًا في وجود هذه المحبة.
 

المؤلفة قلوبهم

قد يقال: لكن الله عز وجل شرع تألف قلوب الناس بإعطائهم شيئًا من نعيم الدنيا، فمعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي قسمًا كبيرًا من الغنائم للمؤلفة قلوبهم، لكفار يريد رسول الله أن يستميلهم للإسلام، بل إن مصرفًا من مصارف الزكاة هو (المؤلفة قلوبهم)؟
 
صحيح.. لكن هذا التألف لقلوب الناس بنعيم دنيوي هو مرحلي مؤقت؛ حتى ينهار الحاجز النفسي بين قلب الغافل والإسلام، حتى تُزال الغشاوة عن بصره ليرى حقيقة الدين فتخالط بشاشة الإيمان قلبه، فلا يعود يأبه -من ثم- أُعطي أو مُنع.
 
في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أنس قال "إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها"
 
"إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا": يعني حبشرطي صرف! وإنما يظهر الإسلام لإرادته الدنيا..
 
"فما يسلم": يعني فما يلبث بعد إسلامه إلا قليلا حتى ينشرح صدره بحقيقة الإيمان ويتمكن من قلبه فيكون حينئذ أحب إليه من الدنيا.
 
إذن؛ تحول حبه لله إلى حب حقيقي مبني على أسس سليمة.
أما أن يعيش الإنسان حياته كلها عيشة المؤلفة قلوبهم فهذا وضع خطير غير مقبول! لأن محبته لله مهددة بالزوال في أية لحظة.
 
عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد طوائف من الناس، فما الذي حصل؟
المؤلفة قلوبهم من أهل مكة الذين تألفهم رسول الله، لكنهم بعد ذلك بنوا محبتهم لله على أسس صحيحة، كانوا هم أسود الإسلام الذين نافحوا عنه أيام الردة، وبذلوا في ذلك أرواحهم ودماءهم وأموالهم.
 
بينما ارتد من بقي (حبشرطيًا) متعلقًا بالدنيا عندما تعرض لفتنة وفاة النبي وتمرد الزعماء.
إن استقرار هذا المفهوم في نفوسنا -محبة الله غير المشروط- يمنحنا فهمًا أعمق لكثير من حقائق ديننا.
 

أحب الأعمال إلى الله

فمثلًا: عندما نقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"
 
قد يكون من أسباب ذلك:
أن الطاعة الكثيرة المتقطعة كثيرًا ما تكون مدافعة لبلاء حل أو ابتهاجا مؤقتًا بنعمة جديدة، خاصة إذا تبعها فتور شديد في الطاعة.
 
أما العمل المستمر من الطاعات ما يكون نابعًا من حب مستقر في القلب لا يتأثر بالحوادث السارة أو الحزينة.
 

خاتمة

إذا، أخي وأختي:
إذا وجدت في نفسك هذا الداء الخطير (شرطية محبة الله)، فعليك أن تعترف به وتسعى لعلاجه؛ فهو أخطر من أية مصيبة دنيوية؛ ﻷنه مصيبة في الدين، وخلل فيما نعيش من أجله.
 
خلاصة هذه المحطة:
 

تخلص من مرض (الحبشرطية)
وابن حبك لله على أسس سليمة لا تزول بالمتغيرات

 


 

المصدر:

د. إياد قنيبي، حسن الظن بالله، ص24

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إياد-قنيبي #حسن-الظن-بالله
اقرأ أيضا
ليس هذا زمن اليأس! | مرابط
مقالات

ليس هذا زمن اليأس!


وقد وجد يعقوب ريح يوسف -عليهما السلام- مع ما بينهما من الحجب والمسافات.. وإن لضياء الفجر مقدمات لا يبصرها النائمون وإنما يستأثر برؤيتها القائمون. فيا لطول حسرة اليائسين القاعدين إذا رأوا العاملين وقد قطفوا -في الغد- الثمار ويا لشدة حسرة المنتكسين إذا أبصروا الثابتين وقد حمدوا -عند الوصول- السرى وطول الأسفار.

بقلم: أحمد يوسف السيد
297
ليلة في بيت النبي الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

ليلة في بيت النبي الجزء الثاني


فلابد للرجل -وإن كان سيدا مطاعا أو ملكا متوجا- أن يداري رعيته والمداراة من خلق المسلم الحاذق وكم من مشاكل تحصل في البيوت بسبب أن الرجل لا يداري مع أنه يمكن أن تمر هذه المشاكل بسلام لو أن الرجل تغافل قليلا وقد أوصانا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا التغافل فقال: إن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإذا ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته ظل على عوجه فاقبلوهن على عوج

بقلم: أبو إسحق الحويني
704
الزهد: بين ما نؤمن به وما نعيشه | مرابط
فكر

الزهد: بين ما نؤمن به وما نعيشه


هل تريد أن نستمتع بالدنيا بدرجة من الرفاه والعلو؟ هل تريد أن تمتلك الدنيا بيديك وفي جيبك وتزهو يمنة ويسرة؟ قد لا يكون هذا حراما إذا أخذت حيطتك من الحرام والعلو في الأرض. لكن عليك أن تقر بمنزلة أخرى هي خير من منزلتك فأنت تنكرها. أنت تنكر أن يكون بعض الزهد هو هجر متاع الدنيا وعدم تملكه من الأساس. وبناء عليه تقول لتصرفات بعض الزهاد: إنهم متنطعون.. متشددون.. يحرمون زينة الله التي أخرج لعباده..

بقلم: خالد بهاء الدين
379
لا يقبله العقل | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

لا يقبله العقل


تعد معارضة نصوص الوحي بالعقل واحدة من أعظم أبواب الانحراف وأحد مسببات الضلال الكبرى فإذا ما أورد نص شرعي على بعض الناس ولم يستوعبه عقله بادر قائلا: هذا الكلام لا يقبله العقل قاصدا رد دلالة ذلك النص والطعن فيه وفي المقال رد على هذه الشبهة وتفصيل لأصلها بأسلوب علمي دقيق

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2255
من أخلاق الكبار: زين العابدين | مرابط
تفريغات

من أخلاق الكبار: زين العابدين


إن جاءك إنسان وشتمك وكنت في مجلس مناسبة أو في صالة أفراح فتسلط عليك إنسان وأسمعك قبيح القول فما موقفك من هذا الإنسان إن كنت من أصحاب النفوس الكبيرة فستتجاوز النفس ولهذا كان بعضهم يقول لمن يشتمه ويبالغ في شتمه: يا هذا لا تفرط في شتمنا وأبق للصلح موضعا فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.

بقلم: خالد السبت
276
أخطاء شائعة في تعدي حروف الجر | مرابط
لسانيات

أخطاء شائعة في تعدي حروف الجر


بين يديكم مجموعة من الأخطاء الإملائية الشائعة في حروف الجر مقتبس من كتاب التدقيق اللغوي للكاتبة أسماء رزق توضح لنا الخطأ الشائع وما هو الصواب استنادا إلى قواعد اللغة العربية وتقسم الكلمات إلى عمودين الصواب والخطأ

بقلم: د أسماء رزق
402