الحكمة من خلق الخلق ج2

الحكمة من خلق الخلق ج2 | مرابط

الكاتب: محمد ناصر الدين الألباني

502 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

صحة المسلم

قد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى وجوب محافظة المسلم على نشاطه وقوته في بدنه، حينما بلغه أن رجلًا من أصحابه يبالغ في طاعة الله تبارك وتعالى؛ حيث كان يصلي الليل كله، ويصوم الدهر كله، ولا يأتي نساءه، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاه -وهذه قصة فيها بعض الطول لا مجال الآن لذكرها بتمامها، إنما الغرض الآن أن أذكِّر باهتمام الإسلام بصحة المسلم، وضرورة محافظته على بدنه- فدعاه وقال له عليه السلام: (إن لجسدك عليك حقًا، ولزوجك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولزورك -أي: من يزورك- عليك حقًا)، زاد في حديث آخر أو في قصة أخرى: (فأعط كل ذي حق حقه).

وكان في هذه القصة أن هذا الرجل العابد الزاهد في الدنيا والذي كان من زهده أنه لما زوجه أبوه كأنه لم يتزوج، لم يقرب زوجته لانشغاله واستغراقه في وقته كله على عبادة الله عز وجل..

 

طلب هذا الزاهد العابد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصوم أكثر مما رخص له في أول الأمر، ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزيده في أيامٍ يصومها أكثر مما رخص له في أول الأمر، إلى أن قال له في نهاية المطاف: (صم يومًا وأفطر يومًا، فإنه أفضل الصيام، وهو صوم داود عليه الصلاة والسلام، وكان لا يفر -هنا الشاهد- إذا لاقى)، أي: عدوه، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعظ ذلك الصحابي الزاهد بألا يزيد على الصيام نصف الدهر، يصوم يومًا ويفطر يومًا، وعلل ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله: (فإنه أفضل الصيام، وهو صوم داود عليه السلام) لماذا قال عليه الصلاة والسلام: ( وهو صوم داود )؟

 

لأنه جاء في حديثٍ في صحيح البخاري: (كان داود عليه السلام أعبد البشر) أعبد البشر هو داود نبي الله، وهو والد سليمان، كان أعبد البشر، ومع ذلك كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وما هي الحكمة من هذا الصيام؟ قال: (وكان لا يفر إذا لاقى) أي: كان يجمع بين أن يعطي لنفسه حقها من عبادة ربها من جهة، وبين أن يعطي لجسده قوته من جهة أخرى؛ ليتمكن بهذه القوة من مقاتلة أعداء الله عز وجل، ولذلك جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: "وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ" [البقرة:251] لو كان داود عليه السلام يصوم الدهر كله لما استطاع أن يقضي على ذلك الكافر الجاحد المنكر.

فإذًا: السعي وراء تقوية الجسم لطلب الرزق الحلال هذا أمرٌ مرغوبٌ فيه، واعتبر ذلك الشارع الحكيم -كما سمعتم في قصة الشاب الجلد- جهادًا في سبيل الله عز وجل.


أحكام الشريعة وطلب الرزق

الذي أريد الآن الدندنة حوله: أنه ليس من الجهاد في سبيل الله أن يطلب المسلم الرزق دون أن يلتزم في طلبه أحكام شريعة ربه عز وجل، أي: لا يسأل إن كان السعي الذي يسعاه أو العمل الذي يعمله في سبيل تحصيله لرزقه جائزًا شرعًا أو محرمًا شرعًا، هذا -أولًا ليس مجاهدًا ذلك الجهاد الذي وسَّع رسول الله معناه، فجعل السعي وراء الرزق في سبيل الله، هذا الذي يسعى وراء الرزق ولا يسأل أحرام هو أم حلال؟ فهو ليس فقط مجاهدًا وخارجًا في سبيل الله، بل هو -ثانيًا- عاصٍ لله عز وجل، غير متذكرٍ عملًا قول الله عز وجل المذكور آنفًا: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56] فعلى كل مسلم إذا سعى وراء الرزق ألا يطلبه إلا من طريقٍ أباحه الله عز وجل، وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذلك جاءت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأمر المسلم بأن يطلب الرزق من الطريق الحلال، وتحذره أن يكون مكسبه من طريق حرام..

 

فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا" [المؤمنون:51] ثم ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومأكله حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك) يدعو المسلمون اليوم دعاءً طويلًا عريضًا، ثم لا يستجاب لهم أن ينصرهم الله عز وجل على عدوهم، لماذا؟

 

لأن أكثر المسلمين اليوم لا يسألون الحلال، ولا يبالون من أي طريقٍ جاءهم هذا الكسب، أمن طريقٍ حلال أم حرام، فهذا الحديث يقول: إن الله عز وجل جعل من سنته الشرعية أنه لا يستجيب دعاء من كان طالبًا للرزق بطريقٍ محرم، بل قد أوعده النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيعادًا مخيفًا جدًا، حينما قال عليه الصلاة والسلام: (كل لحمٍ نبت من السحت فالنار أولى به) أي: من الكسب الحرام.

 

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أمته بأن استحلالهم السعي وراء الرزق بالطرق المحرمة يكون سببًا لأن يذلهم الكفار، ويستعبدوهم الكفار، وهذا أمرٌ مشاهد -مع الأسف- في كثيرٍ من الديار الإسلامية، ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) فقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من أسباب تسلط الأعداء على المسلمين وإذلالهم إياهم، إنما هو انكبابهم على الدنيا وانصرافهم -بسبب هذا الانكباب- إلى طلب الرزق بطريق الربا، ومن أنواع الربا ما ذكره عليه الصلاة والسلام في الطرف الأول من هذا الحديث، ألا وهو قوله: ( إذا تبايعتم بالعينة ) نوع من المبايعات الربوية.. (وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).

 

والرجوع إلى الدين معناه واسعٌ جدًا جدًا، ولكن فيما يتعلق بهذه الكلمة يجب على كل مسلم أن يرجع في طلبه للرزق إلى الكسب الحلال، حتى يكون هذا الكسب شفيعًا له فيما إذا دعا ربه أن يستجيب له أو منه دعوته. نسأل الله عز وجل أن يلهمنا التعرف على ديننا، وأن نعمل بأحكامه، ومن ذلك أن يوفقنا للسعي وراء طلب الرزق الحلال، وأن يبعدنا عن الوسائل المحرمة التي كثرت في هذه الأيام، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الألباني #الحكمة-من-الخلق
اقرأ أيضا
صورة الفتح الإسلامي في العلم والثقافة | مرابط
اقتباسات وقطوف

صورة الفتح الإسلامي في العلم والثقافة


كان الفتح الإسلامي أكبر حادث علمي لأنه حمل إلى البلاد التي فتحها علم السماء والأرض فحرر عقولها بالتوحيد وأعتقها من عبودية الأحجار والأشجار والنيران والأخشاب والقسس والأشراف ثم وضع في أيديها القرآن الذي يأمر بالتفكر في خلق السموات والأرض

بقلم: علي الطنطاوي
707
قوة العرب المعطلة | مرابط
فكر مقالات

قوة العرب المعطلة


بالإسلام يلم الشرق شعثه ويستعيد قوته وتنمو فيه أخلاق الرجولة ويتأهل لمشاركة الأمم في حمل عبء الحضارة واحتلال المحل الشريف من صف القيادة وإذا دبت في الإسلام روح الحياة فعاد إلى ما كان عليه من صفاء وبهاء وصراحة في عصر السعادة وفي أيام التابعين- فستجد فيه الإنسانية دواءها من أوصابها وسيتقي به البشر طغيان القوميات الذي يتمخض بمذبحة جهنمية تحترق بها الأرض

بقلم: محب الدين الخطيب
1712
المذاهب والفرق المعاصرة: العلمانية ج1 | مرابط
تفريغات العالمانية

المذاهب والفرق المعاصرة: العلمانية ج1


فكرة العلمانية التي ظهرت أفرزت كثيرا من المذاهب وكثيرا من الأفكار بعضها صارت مشهورة ومعروفة عند الناس وبعضها صارت مغمورة وبعضها أقل من ذلك وبعضها أكثر وصارت هناك عشرات النظريات بل مئات النظريات الغربية التي انطلقت من هذا المنطلق وهو العلمانية وأنه ينبغي لك أن تبحث وأن تفكر بغض النظر عن الدين ويسمون الدين اللاهوت ويقولون: اللاهوت هو عبارة عن أشياء روحانية تؤديها في مكانها المخصوص وهو الكنيسة بالنسبة للغربيين والعلمانيون المنتسبون للإسلام يقولون: المسجد وأما بقية الحياة فلها شأن آخر

بقلم: عبد الرحيم السلمي
828
العلمانية الجزء الثاني | مرابط
العالمانية

العلمانية الجزء الثاني


مدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع وإبقاءه حبيسا في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما وقد ظهرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر

بقلم: الندوة العالمية للشباب الإسلامي
2146
الليبرالية في ميزان الإسلام | مرابط
الليبرالية

الليبرالية في ميزان الإسلام


الليبرالية هي وجه آخر من وجوه العلمانية وهي تعني في الأصل الحرية غير أن معتنقيها يقصدون بها أن يكون الإنسان حرا في أن يفعل ما يشاء ويقول ما يشاء ويعتقد ما يشاء ويحكم بما يشاء فالإنسان عند الليبراليين إله نفسه وعابد هواه غير محكوم بشريعة من الله تعالى

بقلم: مجموعة كتاب
781
تسويف التوبة | مرابط
اقتباسات وقطوف

تسويف التوبة


وما مثال المسوف إلا مثاله من احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة فقال أؤخرها سنة ثم أعود إليها وهو يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه فلا حماقة في الدنيا أعظم من حماقته إذ عجز مع قوته عن مقاومة ضعيف فأخذ ينتظر الغلبة عليه إذا ضعف هو في نفسه وقوي الضعيف

بقلم: أبو حامد الغزالي
289