الحكمة من خلق الخلق ج2

الحكمة من خلق الخلق ج2 | مرابط

الكاتب: محمد ناصر الدين الألباني

459 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

صحة المسلم

قد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى وجوب محافظة المسلم على نشاطه وقوته في بدنه، حينما بلغه أن رجلًا من أصحابه يبالغ في طاعة الله تبارك وتعالى؛ حيث كان يصلي الليل كله، ويصوم الدهر كله، ولا يأتي نساءه، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاه -وهذه قصة فيها بعض الطول لا مجال الآن لذكرها بتمامها، إنما الغرض الآن أن أذكِّر باهتمام الإسلام بصحة المسلم، وضرورة محافظته على بدنه- فدعاه وقال له عليه السلام: (إن لجسدك عليك حقًا، ولزوجك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولزورك -أي: من يزورك- عليك حقًا)، زاد في حديث آخر أو في قصة أخرى: (فأعط كل ذي حق حقه).

وكان في هذه القصة أن هذا الرجل العابد الزاهد في الدنيا والذي كان من زهده أنه لما زوجه أبوه كأنه لم يتزوج، لم يقرب زوجته لانشغاله واستغراقه في وقته كله على عبادة الله عز وجل..

 

طلب هذا الزاهد العابد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصوم أكثر مما رخص له في أول الأمر، ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزيده في أيامٍ يصومها أكثر مما رخص له في أول الأمر، إلى أن قال له في نهاية المطاف: (صم يومًا وأفطر يومًا، فإنه أفضل الصيام، وهو صوم داود عليه الصلاة والسلام، وكان لا يفر -هنا الشاهد- إذا لاقى)، أي: عدوه، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعظ ذلك الصحابي الزاهد بألا يزيد على الصيام نصف الدهر، يصوم يومًا ويفطر يومًا، وعلل ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله: (فإنه أفضل الصيام، وهو صوم داود عليه السلام) لماذا قال عليه الصلاة والسلام: ( وهو صوم داود )؟

 

لأنه جاء في حديثٍ في صحيح البخاري: (كان داود عليه السلام أعبد البشر) أعبد البشر هو داود نبي الله، وهو والد سليمان، كان أعبد البشر، ومع ذلك كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وما هي الحكمة من هذا الصيام؟ قال: (وكان لا يفر إذا لاقى) أي: كان يجمع بين أن يعطي لنفسه حقها من عبادة ربها من جهة، وبين أن يعطي لجسده قوته من جهة أخرى؛ ليتمكن بهذه القوة من مقاتلة أعداء الله عز وجل، ولذلك جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: "وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ" [البقرة:251] لو كان داود عليه السلام يصوم الدهر كله لما استطاع أن يقضي على ذلك الكافر الجاحد المنكر.

فإذًا: السعي وراء تقوية الجسم لطلب الرزق الحلال هذا أمرٌ مرغوبٌ فيه، واعتبر ذلك الشارع الحكيم -كما سمعتم في قصة الشاب الجلد- جهادًا في سبيل الله عز وجل.


أحكام الشريعة وطلب الرزق

الذي أريد الآن الدندنة حوله: أنه ليس من الجهاد في سبيل الله أن يطلب المسلم الرزق دون أن يلتزم في طلبه أحكام شريعة ربه عز وجل، أي: لا يسأل إن كان السعي الذي يسعاه أو العمل الذي يعمله في سبيل تحصيله لرزقه جائزًا شرعًا أو محرمًا شرعًا، هذا -أولًا ليس مجاهدًا ذلك الجهاد الذي وسَّع رسول الله معناه، فجعل السعي وراء الرزق في سبيل الله، هذا الذي يسعى وراء الرزق ولا يسأل أحرام هو أم حلال؟ فهو ليس فقط مجاهدًا وخارجًا في سبيل الله، بل هو -ثانيًا- عاصٍ لله عز وجل، غير متذكرٍ عملًا قول الله عز وجل المذكور آنفًا: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56] فعلى كل مسلم إذا سعى وراء الرزق ألا يطلبه إلا من طريقٍ أباحه الله عز وجل، وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذلك جاءت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأمر المسلم بأن يطلب الرزق من الطريق الحلال، وتحذره أن يكون مكسبه من طريق حرام..

 

فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا" [المؤمنون:51] ثم ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومأكله حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك) يدعو المسلمون اليوم دعاءً طويلًا عريضًا، ثم لا يستجاب لهم أن ينصرهم الله عز وجل على عدوهم، لماذا؟

 

لأن أكثر المسلمين اليوم لا يسألون الحلال، ولا يبالون من أي طريقٍ جاءهم هذا الكسب، أمن طريقٍ حلال أم حرام، فهذا الحديث يقول: إن الله عز وجل جعل من سنته الشرعية أنه لا يستجيب دعاء من كان طالبًا للرزق بطريقٍ محرم، بل قد أوعده النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيعادًا مخيفًا جدًا، حينما قال عليه الصلاة والسلام: (كل لحمٍ نبت من السحت فالنار أولى به) أي: من الكسب الحرام.

 

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أمته بأن استحلالهم السعي وراء الرزق بالطرق المحرمة يكون سببًا لأن يذلهم الكفار، ويستعبدوهم الكفار، وهذا أمرٌ مشاهد -مع الأسف- في كثيرٍ من الديار الإسلامية، ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) فقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من أسباب تسلط الأعداء على المسلمين وإذلالهم إياهم، إنما هو انكبابهم على الدنيا وانصرافهم -بسبب هذا الانكباب- إلى طلب الرزق بطريق الربا، ومن أنواع الربا ما ذكره عليه الصلاة والسلام في الطرف الأول من هذا الحديث، ألا وهو قوله: ( إذا تبايعتم بالعينة ) نوع من المبايعات الربوية.. (وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).

 

والرجوع إلى الدين معناه واسعٌ جدًا جدًا، ولكن فيما يتعلق بهذه الكلمة يجب على كل مسلم أن يرجع في طلبه للرزق إلى الكسب الحلال، حتى يكون هذا الكسب شفيعًا له فيما إذا دعا ربه أن يستجيب له أو منه دعوته. نسأل الله عز وجل أن يلهمنا التعرف على ديننا، وأن نعمل بأحكامه، ومن ذلك أن يوفقنا للسعي وراء طلب الرزق الحلال، وأن يبعدنا عن الوسائل المحرمة التي كثرت في هذه الأيام، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الألباني #الحكمة-من-الخلق
اقرأ أيضا
الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج4 | مرابط
أبحاث الليبرالية

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج4


المراقب الواعي إذا تجول في مخرجات التيار الليبرالي ووقف على أبرز محطاته وسلط الأضواء على مرتكزاته المعرفية تصيبه الدهشة بسبب ما يراه من الفقر الشديد في مؤهلات النمو الصحي وبسبب ما يلحظه من الهشاشة الكبيرة في مرتكزات شرعية وجوده في الساحة الفكرية وسيكتشف أن الليبرالية السعودية تعاني من أزمة فكرية ومنهجية عميقة أزمة في المصطلح وأزمة في الخلفيات الفلسفية وأزمة في السلوكيات اليومية وأزمة في الالتزام بالقيم وأزمة في الاتساق مع المبادئ وأزمة في الاطراد وأزمة في التوافق بين أسس الليبرالية وبين قطع...

بقلم: سلطان العميري
1534
ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا | مرابط
تفريغات

ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا


الإيمان بالإسلام كتابا وسنة هو الذي يوفق أفق المؤمن وعقله وتفكيره والعكس بالعكس تماما لهذا نحن ندعو دائما وأبدا إلى اتباع الكتاب والسنة ليس على طريقة التأويل -هذه الطريقة التي ابتدعها الخلف- وإنما على طريقة التسليم التي سلكها السلف ولذلك نكرر دائما وأبدا: نحن لا ندعو إلى الكتاب والسنة فقط بل إلى الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
645
هم يسمحون لنا فلنسمح لهم | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

هم يسمحون لنا فلنسمح لهم


هم يسمحون لنا ببناء المساجد فلماذا لا نسمح لهم ببناء الكنائس وهم يسمحون للمسلمين بالدعوة إلى الإسلام فلماذا لا يسمح لهم بمثل ذلك وهم يهنئوننا بأعيادنا الدينية فلماذا لا نقابلهم بالمثل ومقولات أخرى تكرر ذات المعنى: كما أن غير المسلمين يفعلون معنا شيئا معينا فلماذا لا نقابلهم بالمثل فنفعل لهم الشيء نفسه في هذا المقال رد على هذه التساؤلات

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2058
سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الثالث ج2 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الثالث ج2


نحن لا نفهم قيمة العلوم الحياتية حقيقة وبالذات الشباب الملتزم الذي له واجهة إسلامية واضحة فهو لا يعطي هذا الأمر قدرا وقد ساهم في ذلك -وللأسف الشديد- بعض علماء المسلمين فبعض علماء المسلمين قديما وإلى الآن يسير على نهجهم البعض صنفوا العلوم إلى علوم شرعية وحياتية إلى علوم دينية ودنيوية أو علوم أخروية ودنيوية فقالوا: علوم الدين كالفقه والتوحيد والتفسير والحديث وما إلى ذلك وقالوا: علوم الدنيا كالطب والهندسة والفلك وغيرها من العلوم فما الذي نتج عن ذلك نتج أن الإنسان الملتزم بدينه يشعر بحرج شديد أ...

بقلم: د راغب السرجاني
643
المذاهب والفرق المعاصرة: القدرية ج3 | مرابط
تفريغات

المذاهب والفرق المعاصرة: القدرية ج3


أهل السنة والجماعة يؤمنون بالقدر إيمانا كاملا مفصلا وعقيدتهم في الإيمان بالقدر عقيدة واضحة وبينة وهم ينهون ويأمرون بالإمساك عن مسائل القدر إذا كان الخوض فيها بغير منهاج الشرع فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب وقال: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم وهذا حديث صحيح رواه الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح

بقلم: عبد الرحيم السلمي
1158
المهرجانات والراب | مرابط
فكر

المهرجانات والراب


من النتائج المخيفة التي يسببها التساهل في سماع هذه الأغاني وتعود الشباب عليها.. أنها تزكي صراعاتهم النفسية وتؤجج احتقانهم الداخلي واضطراباتهم الاجتماعية وتوغر صدورهم وتشعل غضبهم تجاه الآخرين كل الآخرين مهما كانت قرابتهم وتقوي الإحساس بشجاعة متوهمة وقدرة لا محدودة على التمتع..! فيصبحون تربة خصبة لبذور التفكك الاجتماعي والتمرد على الأسرة والثورة على القيم والتمرد على أحكام الدين وربما المروق منه جملة..

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
275