المذاهب والفرق المعاصرة: العلمانية ج1

المذاهب والفرق المعاصرة: العلمانية ج1 | مرابط

الكاتب: عبد الرحيم السلمي

665 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ظهور المذاهب في الغرب

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

أما بعد:

فتحدثنا في الدرس الماضي عن نشأة المذاهب في الغرب، وقلنا: إن المذاهب بالمعنى الاصطلاحي: هي المذاهب المعاصرة الفكرية التي نشأت في أوروبا، وبينا الدين الذي آمنت به أوروبا وأنه ليس دين الله عز وجل الحق الذي نزل على عيسى بن مريم عليه السلام، وإنما هو دين محرف حرفه بولس اليهودي وقد اعتنقت الدولة الرومانية الدين النصراني في سنة (325) ميلادي، واختارت مذهب التثليث، وبينا بعض البدع وبعض العقائد الضالة المنحرفة التي كانت موجودة في النصرانية التي اختارتها أوروبا عن طريق قسطنطين الحاكم الروماني في تلك الفترة، وبينا أن الكنيسة والأباطرة قد طغوا وبغوا وآذوا الناس إيذاء كبيرًا، وكان من طغيانهم الطغيان الديني والطغيان العلمي والطغيان المالي والسياسي.. ونحو ذلك، وأشرنا إلى نماذج من هذا الطغيان الذي قاموا به، وفي القرن السابع عشر الميلادي تقريبًا بدأ كثير من الأوربيين يجتهدون في عالم الصناعة، وبدءوا يخترعون، وبدأت حركة تحرر عند الغربيين.

فواجهت الكنيسة والأباطرة هذه الحركة بالقمع والإيذاء والتكفير والحرمان، وقلنا: إن الكنيسة أعطت نفسها حق الحرمان، فأحرقت عددًا من هؤلاء وحرمت آخرين، وسجنت بعضهم وأحرقت كتبهم، ونهت نهيًا باتًا عن تحريك العقل في الماديات المعاصرة، وأنه يلزمهم أن يستقوا من الكنيسة، وأن النصوص التي يتكلمون بها من عند أنفسهم هي معصومة يلزمهم جميعًا الإيمان بها، من جراء هذا الطغيان تكونت في فترات متعددة حركة عارمة وكبيرة من هؤلاء المتحررين، الذين يطالبون بالمشاركة في عالم السياسة مع الأباطرة، وبتحريك العقل في فهم الإنجيل وفي فهم الدين، وفي فهم الماديات الموجودة في الكون، وفي الاختراعات والصناعة، وكان من آخرها الثورة الفرنسية التي كانت في القرن الثامن عشر الميلادي في سنة (1789)م.

ولما ظهرت الثورة الفرنسية استغل اليهود هذه الثورة ووجهوها توجيهًا سيئًا، بناء على خططهم السابقة وهي أنه حتى يرتقي اليهود وحتى تكون لهم مكانة فلا بد أن يضل الناس في عقائدهم ويفسدوا في أخلاقهم، فلما قام اليهود بهذا الدور اتجهوا لضرب الكنيسة واتجهوا أيضًا لضرب الأباطرة، فأما ضرب الكنيسة فإنهم لم يقولوا بأن الكنيسة كانت مخطئة، وأن عليها ملاحظات، وأنه بالإمكان أن يبقى العالم الأوروبي على الدين النصراني، وإنما وجهوا الطعن إلى الدين نفسه، فأصبح في حس الأوربيين أن كل من التزم بالدين فهو متخلف، فسموا الدين تخلفًا، واعتبروا الدين رجعية، واعتبروا الدين هو أساس التأخر، وأنك إذا أردت أن تتقدم وإذا أردت أن يكون لك دور في الحياة وأن تتعامل مع سنن الله عز وجل بشكل صحيح فعليك أن تترك الدين أولًا ثم تنطلق، أما إذا بقيت على الدين فإنك لن تنطلق، ولن يكون لك أي تحرك، هذا من جهة، فانتشر الإلحاد، وانتشرت النظريات الخبيثة في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع وفي النفس وفي الآداب وفي مجالات متعددة سيأتي شيء من الحديث عنها بإذن الله تعالى.

واتجهوا أيضًا إلى الطعن في طريقة الحكم التي كان يحكم بها الأباطرة للإقطاعيات، وأنه لا بد من وجود ديمقراطية، والديمقراطية معناها: أن الشعب يملك مصير نفسه في الجوانب النظامية، وفي الجوانب التشريعية، ولهذا يعتبرون أن الشعب هو الذي يحكم نفسه، وسيأتي الحديث عن مذهب الديمقراطية بالتفصيل إن شاء الله، فطالبوا بالمشاركة في السياسة، بغض النظر عن العنصر وعن اللون وعن الدين، فيمكن لأي إنسان أن يشارك إذا كان له عدد كبير من المرشحين حتى لو كان ملحدًا أو يهوديًا أو نصرانيًا، وبهذا استطاع اليهود أن يتسلقوا إلى أعلى المراتب أو الأماكن والولايات في الدول الغربية، هذا تقريبًا ما حصل في أوروبا بشكل مختصر وذكرنا ذلك في الدرس الماضي.

 

نشأة العلمانية

من جراء الثورة الفرنسية وظهور النظريات الإلحادية نشأ عند الغرب مذهب واسع وكبير يبتلع عددًا من المذاهب، وسمي بالعلمانية، والعلمانية معناها: اللادينية أو الدنيوية، فاللادينية أو الدنيوية هي فكرة العلمانية، ومعناها: بناء الحياة على غير الدين، وبعيدًا عن الدين، وفهم الدين على أنه مجرد شعائر تقام في أماكن محدودة بطريقة روحانية فقط، وأما جانب السياسة وجانب الاقتصاد وحياة الناس فلا دخل للدين فيها بأي وجه من الوجوه، هذه الفكرة التي هي فكرة العلمانية كانت نتيجة لهذه الأحداث التي سبق أن أشرنا إليها، وهذه الفكرة التي هي العلمانية هي فكرة فضفاضة وكبيرة وواسعة، تبتلع كل المذاهب الفكرية المعاصرة، فالشيوعية تدخل في العلمانية، والاشتراكية تدخل في العلمانية، والرأسمالية تدخل في العلمانية، والديمقراطية تدخل في العلمانية أيضًا.

والمذاهب الأدبية مثلًا: الحداثة تدخل في العلمانية، وهكذا المذاهب الفنية مثل: الكلاسيكية وغيرها تدخل في العلمانية، وهكذا أيضًا المذاهب الإنسانية مثل: الوجودية، ومثل: الرمزية وغيرها من المذاهب هي داخلة في العلمانية، فالعلمانية باختصار هي أن يبني الإنسان عقله ونفسه وفكرته ويبني المجتمع في واقعه بعيدًا عن الدين، أيًا كان هذا الدين، سواء كان دينًا صحيحًا أو دينًا باطلًا، ولهذا فإن حديثنا عن العلمانية، لن يكون في لقاء واحد، إذا تحدثنا عن الديمقراطية كما قلت فنحن نتحدث عن العلمانية، لكن من الجهة السياسية؛ لأن العلمانية لها عدة جهات، فمن الجهة السياسية تكون أكثر من مذهب، أشهر هذه المذاهب في الجانب السياسي الشيوعية أو الديمقراطية والديكتاتورية الشيوعية، ومذاهب أخرى سيأتي الإشارة إليها، في الجانب الاقتصادي وجد المذهب الرأسمالي والاشتراكي، في الأدب وجدت بعض المذاهب، الأدب يدخل فيه الشعر والفن التشكيلي مثلًا ونحو ذلك، في الاجتماع وجدت مذاهب، في علم النفس وجدت مذاهب، هذه المذاهب جميعًا هي أوجه مختلفة لفكرة العلمانية.

إذًا: فكرة العلمانية التي ظهرت أفرزت كثيرًا من المذاهب وكثيرًا من الأفكار، بعضها صارت مشهورة ومعروفة عند الناس، وبعضها صارت مغمورة، وبعضها أقل من ذلك، وبعضها أكثر، وصارت هناك عشرات النظريات، بل مئات النظريات الغربية التي انطلقت من هذا المنطلق وهو العلمانية وأنه ينبغي لك أن تبحث وأن تفكر بغض النظر عن الدين، ويسمون الدين اللاهوت، ويقولون: اللاهوت هو عبارة عن أشياء روحانية تؤديها في مكانها المخصوص، وهو الكنيسة بالنسبة للغربيين، والعلمانيون المنتسبون للإسلام يقولون: المسجد، وأما بقية الحياة فلها شأن آخر.

 

المذاهب المعاصرة في بلادنا

في اللقاءات القادمة سنتحدث إن شاء الله عن العلمانية في جوانب مختلفة، نأخذ جانبًا ونتحدث عنه، ونذكر المذاهب المشهورة فيه، ثم اللقاء الذي بعده نأخذ جانبًا آخر، ونحن في حديثنا كله سنتحدث عن العلمانية، ولكن أيضًا سنتحدث عن المذاهب الأخرى بشكل مفصل إن شاء الله، أما في هذا اللقاء سنتحدث بإذن الله تعالى عن نشأة المذاهب المعاصرة في العالم الإسلامي، لم يعرف العالم الإسلامي هذه المذاهب إلا بعد سقوط أو في أثناء سقوط الخلافة العثمانية أو قبلها بقليل وبعدها، فبعد أن سقطت الخلافة وصار العالم الإسلامي فرقًا متعددة، أعجب كثير من المسلمين بهذه المذاهب ونقلها إلى العالم الإسلامي، وكان المسلمون في فترة ماضية ينظرون إلى الغرب على أنهم حمير، وعلى أنهم خنازير، وعلى أنهم ليس عندهم من الفكر الحقيقي الصحيح ما يمكن أن يستنار به، وهم يرون أنهم ليس عندهم عقيدة صحيحة حتى يستفاد منهم، وليس عندهم فكر نير حتى يهتدى بهم، ولهذا ذكر في التاريخ أنه عندما حصلت بعض الحروب بين الأوربيين جاء مبعوث من فرنسا إلى الدولة العثمانية، وطلب أن يقابل الخليفة من أجل أن يطلب منه الإعانة على تلك الدولة الأوروبية الأخرى.

فرده من كان دون الخليفة وقال: إن خليفة المسلمين لا يهمه أن يقتتل كلبان ليس له علاقة بهما، فليس هناك داع لأن تلتقي بالخليفة فذهب الرجل، وهكذا كان ينظر العالم الإسلامي للغرب، هكذا كانوا ينظرون له، وهكذا كان واقعه، فإن الغرب وما زال في جاهلية وفي ضلال وانحراف وفي بعد عن الله سبحانه وتعالى، وكان المسلمون في تلك الفترة يعتزون بدينهم، وكانت رايات القتال والجهاد في سبيل الله ماضية، وقد دخلوا من جهة تركيا على أوروبا حتى وصلوا إلى فيينا عاصمة النمسا، وقد دخلوا من قبل من جهة أوروبا الغربية حتى وصلوا إلى مشارف فرنسا، فلما حصل أن اجتاح الأوربيون والصليبيون الأندلس، كان المسلمون في الوقت نفسه يجاهدون في أوروبا الشرقية من جهة تركيا، ولهذا البوسنة والهرسك كيف دخلها الإسلام؟ وكسوفا كيف دخلها الإسلام؟ دخلها الإسلام عن طريق الجهاد الذي كان يتم من الدولة العثمانية في تلك الفترة.

 

لماذا انتشرت المذاهب الغربية في عالمنا الإسلامي

إذا كان هذا هو الحال وهذا هو الواقع فما هو السبب الذي جعل العالم الإسلامي يتقبل المذاهب الغربية الفكرية والعلمانية، وأصبح لها أحزاب ولها أشخاص يدافعون عنها، وسيأتي شيء عن واقعها، أقول: الأمور التي جعلت المذاهب الغربية تنتشر في العالم الإسلامي يعود إلى سببين:
السبب الأول: سبب ذاتي أو داخلي، وهو ذات الأمة نفسها كانت عندها قابلية، هذه القابلية بسبب الانحراف الذي حصل من المسلمين عن منهج الله سبحانه وتعالى.

والسبب الثاني: سبب خارجي وهو التآمر على هذه الأمة من قبل اليهود والنصارى ومن كان معهم.

أما السبب الأول وهو السبب الذاتي: فهو الانحراف الذي حصل عند المسلمين، فإن المسلمين حصل عندهم انحراف عن دين الله عز وجل وعن منهج الله، وأنتم تعلمون أن هذه الأمة منصورة بدين الله عز وجل، فإذا انحرفت عن دين الله فإنها ستغلب، وهذا الذي وقع بالفعل، وهذا يصدق مقالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: (نحن أمة أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العلمانية
اقرأ أيضا
في التحذير من فتن إبليس ومكايده | مرابط
اقتباسات وقطوف

في التحذير من فتن إبليس ومكايده


مقتطف لابن الجوزي من كتاب تلبيس إبليس يحذر فيه أهل الإسلام من مكائد إبليس وفتنته ويشير إلى طبيعة الإنسان منذ خلقه حيث ركب فيه الهوى والشهوة وبيده أن يختار طريق الهدى أو طريق الضلال بيده أن يجلب ما فيه نفعه وصلاحه أو ينساق وراء شهواته وحبائل إبليس

بقلم: ابن الجوزي
1654
أثر الخلوات | مرابط
اقتباسات وقطوف

أثر الخلوات


إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذرا من عقابه أو رجاء لثوابه أو إجلالا له فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عودا هنديا على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو.

بقلم: ابن الجوزي
444
أصلان ثابتان في الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

أصلان ثابتان في الإسلام


ودين الإسلام مبنى على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له وأن نعبده بما شرعه من الدين وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو أمر استحباب فيعبد فى كل زمان بما أمر به فى ذلك الزمان. فلما كانت شريعة التوراة محكمة كان العاملون بها مسلمين وكذلك شريعة الإنجيل.

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
346
النعمة في البرد والحر | مرابط
اقتباسات وقطوف

النعمة في البرد والحر


من النعم التي لا يلتفت إليها كثير من الناس: نعمة الوقاية من البرد والحر وفي هذا المقتطف الماتع لشيخ الإسلام ابن تيمية تعليق سريع حول هذه النعمة من وحي القرآن الكريم حتى يعلم المسلم قدر النعم التي أحاطه الله بها وهي لا تحصى

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
386
معركة الحجاب الجزء الثاني | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين تفريغات المرأة

معركة الحجاب الجزء الثاني


يبدو أن هدم الأسرة المسلمة يأتي ضمن أولويات أعداء الدين فالأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع وهي التي تخرج للأمة الإسلامية أجيال النصر والبناء ولما كان استهداف الأسرة ضمن أهم الأولويات حاول أولياء الشيطان أن يفسدوا المرأة بأي شكل ممكن وقضية الحجاب من ضمن القضايا التي أثيرت في عالمنا العربي بإيعاز داخلي وخارجي أرادوا جميعا نزع الحجاب عن المرأة والحط من شأنه وإجبار النساء على السفور والتبرج والانحلال حتى يفسد ركن هام من أركان الأسرة وفي هذه المحاضرة للشيخ محمد صالح المنجد استعراض للقضية

بقلم: محمد صالح المنجد
2159
المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم ج1 | مرابط
تفريغات المرأة

المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم ج1


يقولون: إن المرأة تتحجب لتخفي عيوبها عن زوجها الذي يريدها فهؤلاء أقوام رأوا في أوروبا الحضارة والمدنية والرقي فظنوا أن المرأة كانت مستعبدة لا تملك من أمرها شيئا فجاءت الحضارة والمدنية الحديثة وأعطت للمرأة شيئا من حقها ولكنهم لم يقفوا عند مرحلة الاعتدال فظنوا أن من الحرية أن تختلط المرأة بالرجل والرجل بالمرأة ومن العدالة أن تتمرد المرأة على تعاليم السماء ومن المساواة أن تعمل المرأة عمل الرجل والرجل عمل المرأة فكانوا بين إفراط وتفريط

بقلم: عمر الأشقر
688