فباطلٌ كلَّ البطلان أن يكون في هذه الدنيا، على ما هي عليه، «ثقافة» يمكن أن تكون «ثقافة عالمية»، أي ثقافةٌ واحدةٌ يشترك فيها البشر جميعا، ويمتزجون على اختلاف لغاتهم ومِلَلهم ونِحَلهم وأجناسهم وأوطانهم. فهذا تَدلِيسٌ كبيرٌ، وإنما يُراد بشيوع هذه المقولة بين الناس والأمم؛ هدفٌ آخرُ يتعلّق بفرض سيطرة أمّةٍ غالبة على أمم مغلوبة، لتبقى تبعًا لها. فالثقافات متعددة بتعدد «المِلل»، ومتميزة بتميُّز «الملل»، ولكل ثقافة أسلوب في التفكير والنظر والاستدلال مُنتَّزَعٌ من «الدين» الذي تدين به لا محالة.
فالثقافات المتباينة تتحاور، وتتناظر، وتتناقش؛ ولكن لا تتداخل تداخلًا يُفضـي إلى الامتزاج البتَّةَ، ولا يأخذ بعضها عن بعض شيئًا، إلا بعد عرضِهِ على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال، فإن استجاب للأسلوب أخذَتْهُ وعَدَّلَتْهُ وخلَّصَتْهُ من الشوائب، وإن استعصى نبذَتْهُ واطَّرحَتْهُ.
وهذا باب واسع جدًا، ليس هذا مكان بيانه، ولكني لا أفارقه حتَّى أُنبِّهَكَ لشيء مهم جدًا، هو أنْ تفصل فصْلًا حاسمًا بين ما يُسمَّى «ثقافة» وبين ما يسمّى «علمًا» -أعني: العلوم البحتة- لأن لكل منهما طبيعة مباينة للآخر، فالثقافة مقصورةٌ على أمةٍ واحدةٍ تدين بدين واحد؛ والعلم مُشاعٌ بين خلق الله جميعًا، يشتركون فيه اشتراكا واحدا مهما اختلفت الملل والعقائد
المصدر:
محمود شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ص74