النسبوية، وإن كانت فلسفة قائمة بذاتها، إلا أنها أيضًا عماد نظريات ما بعد الحداثة، وأثرها عارم في مئات الأفكار الغربية والعالمية، وفي اليسار الليبرالي خاصة. وسنتخيّر الحديث عما يوضّحها لنا كموثّر على المسار الفلسفي اللوطي، موضّحين كيف كانت تلك الفلسفة أحد أسس التكوين
مرتكزات الفلسفة النسبوية
ترتكز الفلسفة النسبوية على فكرة أن الحق لا يمكن أن يتم حصره في فكر أو أيديولوجيا أو دين -فالحق نسبي، وما تراه اليوم محرمًا، ربما يصبح حِلًّا في الغد، أو هو حِلٌّ حاضر في ثقافة أخرى- Ree and Urmson 2005 كما أن تلك الرؤية قد تمتزج مع الفلسفة التطورية الباقية في حقل الأيديولوجيات، فتنتج الزعم بأن التطور المجتمعي المستمر وتقدمه الذي لا ينتهي هو الأقدر على تحديد الصواب المناسب لكل مرحلة تاريخية.
أما تحديد معيار للصواب والخطأ، تاريخي أبدي، مصدره دين أو فكر -فخرافة ودجل، فمن الذي يحدد الشرائع والمعايير؟ أليس الإنسان؟ لقد قال السوفسطائي الإغريقي بروتاغوراس، عميد النسبوية، أن الإنسان هو مقياس كل شيء، وقد كان يعني بذلك، أن كل منظور ورأي لشخص، هو جيد وصحيح كأي منظور ورأي لشخص آخر (Ree and Urmson) وقد عمِد بروتاغوراس في ذلك إلى تحدي المعارف والقيم المفروضة من مصدر خارجي غير إنساني، خاصة الإله (Thiselton 2002).
مراحل النسبوية
وقد مرت الفلسفة الغربية بثلاث مراحل مع النسبوية، السوفسطائية الأولى، التي بدأت في القرن الخامس قبل الميلاد، ثم الفكر النافي للنسبوية المطلقة، وهو يمتد من عصر الفلسفة الأفلاطونية والأرسطية إلى القرن العشرين، أي خلال العصر الفلسفي الوثني ثم الفلسفي المسيحي ثم الفلسفي الإنسانوي الحداثي ثم أخيرًا الإحياء بالفلسفة ما بعد الحداثية؛ التي أعادت السوفسطائية ومزاعم نسبويتها المعرفية والأخلاقية إلى الوجود مرة أخرى، وفيه أعطى الإنسان حق تحديد كافة المعارفة من جديد، دون مصدر أعلى، ولو كان المجتمع أو الأيديولوجيات أو العلماء أو المفكرين.
فلسفة ما بعد الحداثة في حقيقتها هي سوفسطائية جديدة.
التنوع الثقافي والديني
الزعم، هو أن الإنسان قد قام باختراع الآلهة والأديان ليخلع على مخترعاته الفكرية والثقافية صفة القداسة ويكسبها الخلود، وقد كان في اكتشاف التنوع الثقافي والمعرفي، بعلوم الأنثروبولوجيا وغيرها، توهين لادعاءات امتلاك الحق المطلق، فما هو خطأ في ثقافة، صواب في أخرى، ولا مزية لمجتمع دون آخر، تدفعنا لتصديقه والإيمان بامتلاكه وحده المعيار الأصواب.
إن التنوع الثقافي والديني دليل على أن كل مجتمع بشري قد اخترع ما يناسبه من المعايير والمقدسات، واحترام الإنسان يفرض علينا احترام ذلك التنوع الثقافي والفكري، والإيمان بأن لا فضل لمعيار على آخر، ولا رفعة لثقافة على أخرى، ولا أحد يملك الحق المطلق، لا في هيئة الأفكار ولا في هيئة المعيار.
والأصولي الديني المتطرف، هو المؤمن بغير ذلك، الكافر بالتعددية الدينية والثقافية والنسبوية والمعارض للإنسانوية العلمانية (macionis 2008)
فلسفة ما بعد الحداثة
أما فلسفة ما بعد الحداثة، فتُعرَّف بأنها رؤية تزعم استحالة وجود مقولات ونصوص عالمية مطلقة تتعلق بالقيم والتقدم والسببية التاريخية = والاستحالة حادثة لأن كافة المعارف مشكلة بتصور صاحبها لا أكثر؛ فكل معرفة تكونت لدينا متأثرة بالظرف الذي تلقينا فيه الحدث وفسّرناه، مثل الظرف الثقافي وغيره، وعليه لا يمكن أن تكون المعرفة عالمية أو مطلقة، وإنما كل معرفة لا تكون إلا جزئية متعلقة بالموقف والحدث لا أكثر (callicott and frodeman2009).
جسور الجندرية وفلسفة ما بعد الحداثة
وقد كان من آثار ذلك، التأكيد على أن دلالات الألفاظ ليست عامة، بل هي مجرد موروث مجتمعي وثقافي يمكن تغييره، وعليه كان الحضّ على النظر إلى دلالة الذكر ودلالة الأنثى بصورة جديدة، التقوا فيها مع النسوية ومفهوم الجندر = فأصبح لفظ الذكر لا يرتبط في دلالته بالرجل حتمًا، وكذا الأنثى، كيف والدلالات ملك الإنسان والمعرّف لذاته وهويته ونوعه الاجتماعي الذي يرغب في عيشه؟ وكما لا يحق لأحد ادعاء احتكار ملكية المعيار الوحيد للصواب والخطأ، كذلك لا يحق لأحد أن يفرض مفهومه للألفاظ والدلالة التي يريدها على شخص آخر.
ماذا يعني ذلك في حياتك اليومية؟
يعني أن اعتقادك كون الفعل كذا حلال أو حرام، صواب أو خطأ = ناتج من ثقافتك وبيئتك الاجتماعية التي نشأت فيها، وواجبك أن تعترف بهذا وتحتفظ باعتقادك ذلك لنفسك أما إن حاولت فرض معيارك هذا على غيرك، أو حتى محاكمة أفعاله إلى ما تؤمن به من قواعد وقوانين = فبغي وافتراء وتعد على إنسانيته ومعتقداته، وهذا ليس من حقك أولًا، وغطرسة دوغمائية أصولية متطفرفة منك ثانيًا؛ ﻷنك لا تؤمن بنسبية الحق ولا تعترف بأن الحق لا معيار له.
والمثال العملي، هو في حكمك على الخنث، فأنت تصر على توصيفه بمعيار يُلزِم الارتباط بين الذكورة والرجولة = وهذا هو معيارك أنت، وهو، فوق أنه معياره متخلف قديم من بقايا عصور ما قبل التاريخ، لا يؤمن بانفصال دلالات الألفاظ وبحقّ الإنسان في أن يفسر اللفظ ويحمّله ما شاء من معنى
فالخنث يسمي نفسه امرأة ويريد من المجتمع أن يعامله كامرأة ولا يناديه إلا بأدوات التأنيث، والخنثة تسمي نفسها رجلا وترفض من المجتمع نداءها بغير أدوات التذكير، وهم أحرار فيما يريدون وعلينا احترام حرية اختيارهم ووضع معاييرنا في منزلنا، وعلينا الإيمان بمعايير مجتمع المستقبل، التي تعزز نسبوية الحق ونسبوية المعاني والألفاظ، وتفتح الأبواب واسعة للتعددية الثقافية والفكرية والجندرية.
هذا هو مختصر أثر ما بعد الحداثة والنسبوية
المصدر:
- عمرو عبد العزيز، دين المؤتفكات، ص33