الركون إلى الدنيا

الركون إلى الدنيا | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

968 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

واحذروا من قاعدة في منتهى الخطورة، وسنة من سنن الله اسمها سنة الاستبدال، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [التوبة:38-39]، فإن تولى المسلمون استبدلهم الله عز وجل، ويكون الاستبدال على مستوى الفرد والجماعة والأمة بكاملها، فلا بد أن ينتصر دين الله عز وجل، قال تعالى: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا" [النور:55]، بشرط: "يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا" [النور:55].

وهذا وعد من الله عز وجل، والذي يشك في هذا الوعد فهو يشك في قدرة رب العالمين سبحانه وتعالى، وهو القائل سبحانه وتعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].

وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، فهذه كلها دلائل على أن نصر الله عز وجل لا بد أن يتحقق لمن يعمل لله عز وجل؟

والله عز وجل مع أنه رفع الهمة وبث الأمل ونشط المسلمين فقد علم المسلمين المنهج الواقعي في معالجة الأمور، فليس معنى رفع الهمة الغفلة عن الأخطاء وعدم ذكر العيوب، لا، فلابد أن نذكر ولكن بصيغة لطيفة، ولنرفع الهمة ونصلح الأوضاع، ولنكن إيجابيين نكتشف الأخطاء ونصلحها ونرفع الهمة عند المسلمين، ولا نقرع الأبدان، ولا نلهب الظهور بالسياط، ولكن بلطف وبرقة وببث الأمل.

يقول الله سبحانه وتعالى: "مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا" [آل عمران:152]، فهو يضع أمام المسلمين السبب الرئيسي للهزائم في الدنيا، "مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا" [آل عمران:152].

وأول آية بعد معركة بدر هي قوله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ" [الأنفال:1].

يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أبو داود رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه وأرضاه واصفًا داء الأمة الخطير: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)، أي: أن أهل الأرض يجتمعون على أمة الإسلام ليأكلوا منها، بل ويدعو بعضهم بعضًا للأكل منها، فلا تكتفي أمة بالأكل من أمة الإسلام ولكن تدعو غيرها للأكل من أمة الإسلام. (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

يقول في عون المعبود شرح سنن أبي داود: الغثاء: هو الوسخ الذي يعلو السيل، إذا شرّق السيل شرّق، وإذا غرّب السيل غرّب، وليس له إرادة، فهو لا يتحرك بإرادته، ولكن يتحرك بإرادة السيل، أينما ذهب السيل فهو معه.

(ولينزعن الله المهابة منكم من قلوب أعدائكم). فالأعداء يرون المسلمين مليارًا وثلث المليار ولا يكترثون بهم. (ولينزعن الله المهابة منكم من قلوب أعدائكم، وليلقين في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟! قال صلى الله عليه وسلم: حب الدنيا وكراهية الموت)، وحب الدنيا: أن يتمسك الإنسان بالدنيا ويحبها ويرتبط بها، ويكره أن يموت، ويكره لقاء الله عز وجل والموت والشهادة في سبيله الله عز وجل، فإذا وصلت الأمة إلى هذه الحالة كانت النكبات والكوارث والمصائب على رأسها، فالدنيا خطيرة، ولما فقه المسلمون قيمة الدنيا وعلموا أنها فانية زائلة، وأن الفائز حقًا هو من انتصر على نفسه وغلب دنياه وعاش لله عز وجل فقط فتح الله عليهم الدنيا بكاملها، وأعطاهم إياها وهم يزهدون فيها.

ولقد فسر لنا خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه كيف كان ينتصر عندما بعث رسالة إلى هرمز يقول له فيها: أسلم تسلم، أو اختر لنفسك ولقومك الجزية، وإلا أتيتك برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة.

فالجيش والشعب الذي يحب الموت في سبيل الله، والأمة التي تحب الموت في سبيل الله هي الأمة التي يكتب لها الله عز وجل النصر، "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ" [الأعراف:34].

وختامًا:

يا من سيناديك الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! بلسان الحال أو المقال -بكليهما نؤمن ونصدق- ارفع رأسك واجبر كسرك واعلم أن الأيام القادمة لك لا عليك، وأن المستقبل لدينك لا لدين غيرك، وأن العاقبة للمتقين، واعلم أن مع الصبر نصرًا، وأن مع العسر يسرًا، وأن أنوار الفجر لا تأتي إلا بعد أحلك ساعات الليل، واعلم أن الله ناصرك ما دمت ناصره، ومعك ما دمت معه، وهاديك إلى سبيله ما دمت مجاهدًا في سبيله، "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" [العنكبوت:69].

"فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" [غافر:44].

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
الإسلام واللغة العربية | مرابط
اقتباسات وقطوف لسانيات

الإسلام واللغة العربية


وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب فإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ثم منها ما هو واجب على الأعيان ومنها ما هو واجب على الكفاية

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
624
مسائل في الحجاب | مرابط
تفريغات المرأة

مسائل في الحجاب


في هذا التفريغ جملة من المسائل مما اتفق عليه العلماء فيما يخص الحجاب مثل الأمر مجملا بالتعفف والاستتار ولون اللباس الذي تلبسه المرأة وأقوال العلماء في كشف شعر المرأة وحكم النقاب وغير ذلك من المسائل الهامة المرتبطة بحجاب المرأة المسلمة.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
409
قواعد السلف في مؤلفاتهم | مرابط
مقالات

قواعد السلف في مؤلفاتهم


أحب أن يعلم من لم يكن يعلم أن أسلافنا -رضي الله عنهم- وغفر لهم منذ ألفوا كتبهم وضعوا لها قواعد يعرفها أهل هذا العلم ويجهلها من جنح عن أصولهم وعمى عليه طريقهم. فهم منذ بدأوا يكتبون أسسوا كتبهم على إسناد الأخبار إلى رواتها وبرئوا من عهدة الرواية بهذا الإسناد ولم يبالوا بعد ذلك أن يكون الخبر صحيحا أو ضعيفا أو زائدا أو ناقصا أو موضوعا مكذوبا لأنهم كانو يعلمون حال الرواة ومنازلهم من الصدق والكذب ومن الورع والاستخفاف ومن الأمانة والهوى.وكأنهم أرادوا بهذا أن يجعلوا كتبهم في التاريخ وغير التاريخ سج...

بقلم: محمود شاكر
277
مأزق المترقب | مرابط
فكر مقالات

مأزق المترقب


واضعا يده على ذقنه يتفرج باهتمام بالغ على مشروعات العلم والدعوة والثقافة والحقوق تتسابق فعالياتها بين ناظريه هو يعرف أسماءها جيدا وفي أيام مضت تواصل مع بعض رجالات الإنتاج في هذه المشروعات بل له الآن علاقات طيبة مع بعضهم وبحوزته أيضا رقم الهاتف الخاص لبعضهم كما أن أحدهم دعاه يوما لمجلس ضم بعض هؤلاء المنتجين بل هو لا يزال يتذكر أنه أرسل لبعضهم رسالة جوال أو بريد إلكتروني ورد عليه لكنه إلى الآن ليس جزءا من أي مشروع ولم يبدأ الخطوة الثانية في أي حلم سبق أن فتح له ملفا في جهازه المحمول

بقلم: إبراهيم السكران
1108
السهر المجهول | مرابط
فكر مقالات

السهر المجهول


في أوائل سورة الذاريات لما ذكر الله أهوال يوم القيامة توقف السياق ثم بدأت الآيات تلوح بذكر فريق حصد السعادة الأبدية واستطاع الوصول إلى جنات وعيون ولكن ما السبب الذي أوصلهم إلى تلك السعادة بين مجاهل تلك الأهوال إنه السهر المجهول تأمل كيف تشرح الآيات سبب وصول ذلك الفريق إلى الجنات والعيون:إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون الذاريات16-17

بقلم: إبراهيم السكران
1769
ظهور العقيدة في الوعي المتيقظ والشعور المتوقد | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

ظهور العقيدة في الوعي المتيقظ والشعور المتوقد


إذا سألنا هنا عن نشأة العقيدة الإلهية فليس سؤالنا منشأ هذه الضرورة الكامنة في العقل الباطن والتي هي من الأوليات التي لا يسأل عن مصدرها وإنما السؤال عن العوامل والملابسات التي تكون قد رفعت هذه الحقيقة إلى مستوى الوعي المتيقظ ثم لم تكتف بإبرازها أمام العقل قضية نظرية بل حولتها إلى فكرة حية ملهبة للمشاعر وطبعت موضوعها بطابع خاص يجعله ذاتا علوية تتوجه إليها القلوب بالرغبة والرهبة والدعاء والخضوع

بقلم: محمد عبد الله دراز
2006