أصل الشبهة
الغلو هو نبتة سلفية، أو ظاهرة سلفية، أو منتج سلفي، أو غيرها من عبارات تصاغ للتعبير عن فكرة واحدة وهي: أن السلفية سبب لظهور الغلو، وهي التي تتحمل تبعاته وآثاره، وذلك أن الغلاة ينتسبون إلى السلفية، ويستدلون بأصول السلفية، ويستندون إلى رموزها ومقولاتها، وهذا يعني أن المشكلة في السلفية نفسها.
هذه المقولة كما ترى تستند إلى وجود علاقة بين (الغلو) وبين (السلفية). وهذه العلاقة تتجلى في انتساب غلاة إلى السلفية، واستدلالهم بأدبيات سلفية.
ربط الإسلام بالغلو
حسنًا، دعونا نحدث تغييرًا يسيرًا في هذه المقارنة، فنضع الإسلام هنا بدلًا من السلفية، ونتأمل في طبيعة النتائج:
إن الغلاة ينتسبون إلى الإسلام، ويستدلون بأصوله لغلوهم، فيبرهنون على صحة أفعالهم بأدلة الكتاب والسنة، وينسبون هذا كله إلى تراث المسلمين، وأقاويل الصحابة، فالغلو بناء على هذا نبتة إسلامية!
والربط بين الإسلام والغلو ليس ربطًا حجاجيًا إلزاميا فقط، بل له حضور كبير في الأوساط الإعلامية والثقافية المعاصرة، فكثير من وسائل الإعلام الغربية هي بين مصرح بهذا الربط، أو مضمر له، وهي تنطلق من التسليم بأن هناك علاقة بين الغلو والإسلام بناءً على ما يرونه من انتساب بعض الغلاة إلى الإسلام، واستنادهم إلى نصوصه وأحكامه.
فحقيقة الأمر: أن من يجعل انتساب الغلاة إلى السلفية، واستدلالهم بها وبأدبياتها دليل على أن الغلو نبتة سلفية هو يمارس ذات الدور الذي يقوم به من ينسب الغلو إلى الإسلام، ويقع في ذات الخلل العلمي والغلط المنهجي وتجاوز العدل والإنصاف الذي يقع من ينسب الغلو إلى الإسلام.
ولهذا لو جرب من يربط بين الغلو والسلفية أن يرد على من يربط بين الإسلام والغلو فسيجد أنه يقدم أدلة ترد على مقارنته الساذجة والسطحية بين الغلو والسلفية.
فهو يقول: وجود غلاة ينتمون إلى الإسلام، لا يعني أن الغلو متعلق بالإسلام نفسه.
وأن استدلال الغلاة بالإسلام لا يعني أن هذه الأفعال يقرها الإسلام فعلًا.
فهذه الردود تسير كما ترى على طريقة موضوعية صحيحة في بيان فساد ربط الغلو بالإسلام، وأنه ربط جاهل ساذج قاصر، مبني على تحيز وظلم وبغي، لكنها في الحقيقة تمثل ذات الطريقة التي تكشف أن ربط الغلو بالسلفية هو كذلك ربط جاهل وساذج ومبني على تحيز وظلم وبغي.
الرد على الشبهة
إذن، فربط الغلو بالسلفية بناءً على وجود غلاة ينتمون إلى السلفية، ويستدلون بمقولاتها، ويقرؤون كتبها، ويثنون على علمائها = طريقة ساذجة سطحية هزيلة، لا يليق بمن يحترم البحث الموضوعي ويعظم الحكم العلمي العادل أن يتفوه بها، لأن فسادها ظاهر بأدنى نظر عقلي.
فمشكلة من يربط بين الغلو والسلفية أنه عاجز عن التمييز بين المقولات والأفكار والأشخاص، فإذا رأى أن الغلاة يستدلون بمنهج سلفي، ويكررون مقولات ابن تيمية، ويستندون إلى قواعد سلفية معروفة، قال مباشرة: إذن هذه فكرة سلفية، ويجب أن نعيد تصحيح السلفية حتى لا تنتج الغلو!
فمنشأ الخلل دخل عليهم من عدم قدرتهم على التمييز بين الأصول نفسها، وحدود عملها، وبين توظيف الغلاة لها، وكان الواجب عليهم أن يرجعوا لأهل العلم حتى يميزوا لهم الحد الشرعي المعتبر، والتجاوز الغالي الذي وقع، لكنهم بدلًا من ذلك استندوا إلى قصورهم العلمي، فانطلقوا منه في الطعن في السلفية ذاتها.
ولهذا، فإذا أردت أن تثبت أن الغلو نبتة سلفية فالطريقة الصحيحة أن تثبت وجود مقولات سلفية صحيحة هي من الغلو نفسه، فإن كانت محل إجماع فيكون دليلًا على وجود غلو متفق عليه، وإن كانت محل خلاف فتنسب المقولة الغالية إلى أصحابها، ثم ينظر في هذه المقولة: هل هو غلو قطعي، أم مخالفة اجتهادية، وهل هي من قبيل الزلة والغلط الفردي، أم هي تمثل منهجًا عامًا؟ ثم تنظر فيما يمكن أن يساء فهمه من مقولات ومدى حضورها عندهم، وهل وجدت عندهم ضمانات تدفع هذا الوهم الفاسد.
هذه هي الطريقة الصحيحة لإثبات وجود غلو في المنهج السلفي أو في أي جماعة معينة، فهل من يقول إن الغلو نبتة سلفية قدم شيئًا من ذلك؟
نعم، بعض القائلين بهذا قدموا شيئًا من ذلك، فحكموا -ولو بلا وعي- على بعض النصوص الشرعية بأنها من قبيل الغلو، كما حاربوا جملة من الأحكام الشرعية بذريعة الغلو، وحكموا على اجتهادات فقهية معتبرة بالغلو، وهكذا وقعوا في مصادمة لأحكام ونصوص لإثبات وجود الغلو، ففي سبيل إثبات وجود غلو في المنهج السلفي أظهروا أن مشكلتهم ليست مع الغلو، بل مع النصوص ذاتها!
وأما أكثر القائلين فإنهم لا يقدمون شيئًا من ذلك أصلًا، وإنما يكتفون بذكر العلاقة الساذجة بين الغلاة والسلفية.
وثم قلة من الناقدين تذكر بعض المقولات وتستشكل بعض العبارات التي تراها دليلًا على الغلو، وليس المقام في بيانها ومناقشتها، وإنما نقرر هنا أن هذه طريقة صحيحة في إثبات العلاقة، وهي أن تذكر المقولات التي ترى أنها تتضمن غلوًا معينًا –عند مذهب أو مدرسة أو عالم معين- وتضع نقدك عليها بحسب حجم المخالفة التي وقعت فيها، ويكون بيان ذلك بعلم وعدل، هذا المستوى من الخطاب هو الذي يستحق أن يجاب عنه، لأنه يتحدث بطريقة قد تظهر وجود علاقة، فلا بد أن يناقش بعلم وعدل فيما يذكر.
وأنت إذا تدبرت كثيرًا مما تُتهم به السلفية، ويجعل أمارةً ودلالة على غلوها، وجدته أمرًا شائعًا عند عامة فقهاء الإسلام في القديم والحديث، فإن كثيرًا مما ينقم على السلفية هو مقرر في المذاهب الفقهية، فالحكم على الأقوال السلفية في حد الردة، وتحريم الاختلاط، وتكفير النصارى، وغير ذلك، بأنها أدلة على وجود غلو عندهم ينجر على غيرهم مما يتوهم المخاصم أنهم خارجون عن هذا الحكم، فإن القول بهذه الأمور مثلًا ليست خصيصة سلفية كما يتوهمه المخالف، بل هو أمر شائع جدًا في التراث الإسلامي، وهو يمثل في عامة موارده مناطق إجماع، أو مذهبًا للجمهور.
فمن المهم أن يلاحظ أن كثيرًا من الانتقادات على السلفية بسبب الغلو تنسبهم إلى الغلو بأفعالٍ ليست مختصة بهم، بل هي موجودة في التراث الشرعي والفقهي نفسه، ولذلك تجد أن النقد العلماني كان أكثر اتساقًا في هذا، فهم لا يخصون نقدهم لفصيل فقهي معين، بل يتهمون السياق الفقهي كله بهذه التهمة، وما أدركوه في محله، وسيبقى النزاع معهم في تحقيق هذه التهمة، هل هي تهمة، أم هو الحق الذي يتعين الأخذ به، فنزاعنا معهم ليس في نسبة هذه المقولة للتراث الفقهي، وإنما المنازعة في حقيقة هذه المقولة، وعلاقتها بالغلو.
والخلاصة التي يجب أن نراعيها في نقد الأشخاص والاتجاهات والطوائف، الانطلاق في نقدها من مقولاتها، وما تفرزه تلك المقولات، ويلزم عنها، وفي حجم وجود الضمانات التي تحفظ لتلك المقولات انضباطها الشرعي فتصونها من التطرف والغلو، وفرز ذلك كله من الممارسات البشرية التي هي عرضة للخطأ والزلل والتقصير، فالأصل أن لا تحاسب الاتجاهات والمذاهب بمجرد ممارسات أصحابها، بل الأصل محاسبة الاتجاهات مما تتبناه من رؤى وأفكار وتصورات، ولتكن الممارسات البشرية قرينة أو أمارة تحمل الباحث على التفتيش عن موجب تلك التصرفات، فقد تكون تلك الممارسات ناشئة حقًا عن مقولات مقررة في المذهب، وقد لا تكون، فيكون الحكم تابعًا للمقولات، لا مجرد الممارسات والتصرفات
المصدر:
عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص337