موت الأمم وحياتها

موت الأمم وحياتها | مرابط

الكاتب: محمد البشير الإبراهيمي

1543 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 إنَّ موت الأمم، وحياة الأمم لفظان مطروقان مستعملان في نصابهما من الوضع اللغوي، كموت الأرض بالقحط، وحياتها بالغيث، لا ينبو بهما ذوق ولا منطق ولا فهم، وإن معناهما لأوسع وأجل من معنى حياة الفرد، وموت الفرد، هذه حياة محدودة، وموت لا رجعة بعده إلاَّ في اليوم الآخر، وتلك حياة ممدودة الأسباب ينتابها الضعف فتعالج، ويُلِمّ بها المرض فتداوى، ويطرقها الوهن فتقوى، ويدركها الانحلال فتشد، ويعرض لها الانتقاض فترمم، وتظلم آفاقها بالجهل فتنار بالعلم.
 
 

قالوا عن أمتنا: إنها ماتت!

طالما قال القائلون عن أمتنا: إنها ماتت، وطالما فرح الشامتون بموتها، وطالما نعاها نعاة الاستعمار على مسمع منَّا، وأعلنوا البشائر بموتها في عيدهم المئوي فَعَدَّوه تشييعًا لجنازة الإسلام الذي هو مَسّاك حياة هذه الأمة في هذا الوطن، فقالوا: ماتت لا رحمها الله، وصدقهم ضعفاء الإيمان منَّا فقالوا: ماتت رحمها الله، وقلنا نحن: إنها مريضة مشفية، ولكن يرجى لها الشفاء إن حضر الطبيب، وأحسن استعمال الدواء؛ فحقق الله قولنا، وخيب أقوال المبطلين وكذب فألهم، فحضر الطبيب في حين الحاجة إليه، وأذن بالإصلاح في آذان المريض فانتفض انتفاضة تطايرت بها الأثقال، وانفصمت الأغلال، وكان من آثارها هذا اليوم الذي لا يصوره الخيال والوهم، وإنما يصوره العيان والواقع.
 
 
فإذا بقي في الدنيا ممسوس، يكابر في المحسوس، ولا يصدق بوجود هذه الأمة، ولا يؤمن بحياتها - فقولوا له: تطلع من هذه الثنايا على قرية الحنايا، وقارن يومها بأمسها، يراجعك اليقين، ويعاودك الإيمان.
 
قلنا في هذه الأمة ومازلنا نقول: إن عوارض الموت وأسبابه كلها موجودة فيها من الجهل، والفقر، والتخاذل، وفساد الأخلاق، واختلاف الرأي، وفقد القيادة الرشيدة.
 
وقلنا - مع ذلك - ومازلنا نقول: إنها مرْجُوَّة الحياة ما دام مناط الرجاء فيها سالمًا صحيحًا، ومناط الرجاء هو نقطة من الإيمان ما زالت لائطة بالقلوب وصِلَةٌ بالقرآن ما زالت مرعية في الألسنة، وإن هذا الرجاء معلق بخيط دقيق لا نقول إنه كخيط العنكبوت، ولكننا نقول: إنه أقوى من السلاسل الحديدية إذا أمده الاستعداد والتدبير الرشيد.
 
هذه النقطة هي مبعث القوة ولو بعد حين، وهي مكمن السيادة والعزة ولو في الأخير، والسبق يعرف آخر المضمار.

 

أطوار الأمة

من أطوار هذه الأمة في التاريخ أن اختلف ملوكها وقادتها وساستها، وذاقت من خلافهم الشر والبلاء، واختلف علماؤها في الدين فكان خلافهم وبالًا على الأمة، وتشتيتًا لشملها، وصدعًا لجدار وحدتها، وقطعًا لما أمر الله به أن يوصل من أرحامها، ثم فَرَّ العلماء من الميدان، وتركوه للأمراء المستبدين، ثم ألقى الأمراء المقاليد في أيدي السفهاء من الأنصار والذرية والأتباع، وكل أولئك قد فعل في هذه الأمة ما لم يفعله (نيرون).
 
 
وكل تلك الأعمال قد أثرت في أخلاق الأمة التأثير العميق، وسكت العلماء أذلة وهم صاغرون، يرون الحق مهضومًا فلا ينطقون، والمنكر فاشيًا فلا يغيِّرون ولا ينكرون، وهيهات بعد أن تنازلوا عن حقهم طائعين.
 
يقع ذلك كله في كل طور من الأطوار التاريخية حتى يبتلى المؤمنون، ويظنوا بالله الظنون، وإذا بذلك العرق يتحرك، وإذا بتلك الانتفاضة تعرو، وإذا بالأمة قائمة من كبوتها، تذود قادة السوء عن القيادة، وعلماء السوء عن الإمامة، وتنزل دخيل الشر بدار الغربة.
 
 
جَرَّبنا فصحَّت التجربة، وبلونا فصدق الابتلاء، وامْتَحَنَّا فدل الامتحان على أن عرق الإيمان في قلوب هذه الأمة كعرق الذهب في المنجم كلاهما لا يبلى وإن تطاولت القرون، ثم جلونا هذا العرق في عمل ثلاثين سنة خلت فإذا خصائصه الطبيعية لم تتغير.
 
 
هذه الأمة كَبَا بِها الزمن، وأدارها على غرائب من تصاريفه حتى أصبحت عونًا له على نفسها، وترصد لها العدو كل غائلة، ففتنها عن دنياها حتى سلمت له فيها، ثم فتنها عن دينها حتى كادت تتلقاه عنه مشوهًا ممسوخًا، وأحاطت بها خطيئاتها من كل جانب فجنت على نفسها بما كسبت أيديها من سوء الأقوال، وفساد الأعمال.
 
 ولكن ذلك العرق المخبوء في تلك المضغة يتحرك، فيأتي بالعجائب.

 


 

المصدر:

  1. آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997م (2/350)
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأمة-الإسلامية
اقرأ أيضا
مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج4 | مرابط
مناظرات

مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج4


أما بعد.. فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس أي بعد السبعمائة لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه. فإن من كان غائبا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
457
هل طلب يوسف عليه السلام الرئاسة | مرابط
أباطيل وشبهات تفريغات

هل طلب يوسف عليه السلام الرئاسة


يقولون إن سيدنا يوسف عليه السلام سعى للوصول إلى الرئاسة وطلبها واجتهد لكي يصل إليها فلا مشكلة إذن أن نسعى نحن أيضا إلى المناصب والرئاسة والحقيقة أن نظرتهم لقصة سيدنا يوسف سطحية للغاية ولكنه الهوى إذا استحكم وسيطر على الإنسان لن يعجزه شيء عن خلق المبررات وإيجاد الأسباب وفي هذا المقال المختصر مناقشة لقصة الرئاسة وسيدنا يوسف

بقلم: محمد صالح المنجد
2205
قصة الحروب الصليبية الجزء الأول | مرابط
تاريخ

قصة الحروب الصليبية الجزء الأول


الحروب الصليبية هي سلسلة الحروب التي شنها المسيحيون الأوربيون على الشرق الأوسط للاستيلاء على بيت المقدس ومنذ أن انتصرت القوات الإسلامية على القوات البيزنطية في معركتي اليرموك وأجنادين في عام 13 هجريا منذ ذلك الوقت والإسلام يهاجم الصليبيين ويفتح أراضيهم وظل الصليبيون يترقبون الفرصة والزمن المناسب للأخذ بالثأر ورد الفعل وهكذا كانت أحسن الفرص للانتهاز في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي والمقال الذي بين يدينا يقف بنا على أهم مراحل الحروب الصليبية وأبرز أحداثها ونتائجها

بقلم: موقع قصة الإسلام
1590
أثر الفتح الإسلامي في نشر الحضارة والعمران | مرابط
اقتباسات وقطوف

أثر الفتح الإسلامي في نشر الحضارة والعمران


إن الفتح الإسلامي ليس كما يصوره الأعداء بأنه سلب ونهب وتخريب بل هو على النقيض من ذلك عمران ونشر للحرية والعقيدة الصحيحة وكان للفتوحات الإسلامية أثر بالغ في مد العمران ونشر الحضارة في بلدان كثيرة وبنور الإسلام بدأت الحركة العلمية تتسع في البلاد وهذا مقتطف للشيخ علي الطنطاوي يعلق على هذه النقطة بشكل دقيق

بقلم: علي الطنطاوي
1303
اليأس والإحباط في ميزان الإسلام | مرابط
تفريغات

اليأس والإحباط في ميزان الإسلام


ولقد نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في كل الأزمات التي مرت بالمسلمين هذا النهج فقد كان يبث الأمل في قلوب المسلمين وكان يغضب كثيرا إذا رأى إحباطا أو يأسا في قلب مسلم مهما كانت المسببات التي تؤدي إلى ذلك ولا يعترف بأي مسبب فلا يجوز للمسلم أن يحبط أبدا لأنه مرتبط برب العالمين سبحانه وتعالى فالإحباط علامة على ضعف في العقيدة وهذا لا يقبل من المسلم أبدا

بقلم: د راغب السرجاني
704
العلمانيون ووهم الاستقلال الفكري | مرابط
العالمانية

العلمانيون ووهم الاستقلال الفكري


من المفارقات العجيبة أن أصحاب الفكر العلماني مع دعواهم الاستقلال الفكري ودعوتهم إلى التحرر من سلطة أي مرجعية إلا أنهم في حقيقة حالهم إنما يبنون مقولاتهم ومشاريعهم على مسلمات ليس لهم فيها جهد مستقل بل هم فيها مقلدون ومجرد صدى لما يطرح من مقولات وتحولات واتجاهات في الفكر الغربي فهم في حقيقة الأمر إنما تركوا مرجعية إلى مرجعية وانتقلوا من القطيعة مع التراث الإسلامي إلى الاستمداد من الفكر الغربي.

بقلم: عبد الله القرني
331