القدوة التربوية

القدوة التربوية | مرابط

الكاتب: مشاري الشثري

50 مشاهدة

تم النشر منذ 3 أشهر

بسم الله الرحمن الرحيم

لم يجعل الله تعالى كتابَه حجةً على قومٍ إلا برسولٍ يبعثه إليهم، يبلغهم البلاغَ القوليَّ بتلاوة آياته، والعمليَّ بتمثّل أحكامه .. فاصطفى - سبحانه - من الناس رسلًا كرامًا، حتى ختم الرسالات بمحمد عليه الصلاة والسلام، فبلَّغ البلاغَينِ وَفقًا لأمر ربه، فكان من بلاغة أم المؤمنين عائشةَ - رضي الله عنها - حين سئلت عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ قالت: (كان خلقه القرآن).

لم يهنأ عليه الصلاة والسلام بنومٍ مذ تهادى إلى سمعه قول الحق تعالى: (قُمْ فأنذر) .. عَقدانِ من الزمان خلت معاجمها من تصاريف الراحة والسكون، فالعمل هو الحياة، وبعد الفراغِ النَّصَب، وإلى الله الرَّغب، فأنجبت تلك التربية النبوية جيلَ الصحابة، ثم هم رسموا شخوصَ التابعين، فحدَّثتنا سِيَرُهم ضِعفَ ما بُلِّغنا من قولهم.

وهكذا، ما زال الخالف يأخذ عن السالف .. وذِهِ التربية، تصنع المتربي لتجعل منه مربِّيًا، فإن استقامت استقام، وإن اعوجَّت اعوجَّ معها.

مسلك القدوة

إن للتربية أساليبَ وأدواتٍ متنوعة، غير أنها - كلَّها - تقصُرُ دون مسلك القدوة، ولما تمَّ صلحُ الحديبية أمر النبي عليه الصلاة والسلام صحابتَه - رضوان الله عليهم - بأن ينحروا ويحلقوا، فلم يقم منهم أحد، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلم يقم منهم أحد، فاغتمَّ حتى بثَّ ما أهمَّه لزوجه أم سلمة - رضي الله عنها -، فنطقت بلسان الحكمة وقالت: (يا نبي الله، أتحبُّ ذلك؟ اخرجْ ثمَّ لا تُكلِّم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدنك وتدعوَ حالقك فيحلقك) فما هو إلا أنْ نَحَر بُدْنَه ودعا حالقَه فحلقه حتى قام الصحابةُ فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضُهم يقتل بعضًا غمًّا.

ولـمَّا شكى الصحابة رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم ما يعانونه من رَهَق الجوع، وحسروا عن بطونهم، فإذا الواحدُ منهم يربط حجرًا على بطنه من شدة ما يلاقي من الأسى، بينا هم كذلك إذ يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم سِترَ بِطنِه عن حجرين! .. لا حاجة بعد ذلك إلى الكلام وإسداء الخطب.

والمربُّون هم في تربيتهم يُبلِّغون شُعَبًا من شعب هذا الدين، و(المنتصبُ للناس في بيان الدين منتصبٌ لهم بقوله وفعله، فإنه وارث النبي، والنبي كان مبينًا بقوله وفعله؛ فكذلك الوارث لا بد أن يقوم مقام الموروث)[1].

وها هنا جملةُ تقييدات تبحث جوانبَ من موضوع القدوة التربوية، منها:

المحافظة على القدوة

1. بقدر ما يتأكَّد على المربي أن يحافظ على جانب القدوة في تصرفاته فإن عليه أن يكون رساليًّا في هذه المحافظة، وذلك بأن يكون سعيُه لتجويد عمله بوصفه مربيًّا مقتدًى به = مقترنًا برغبة صادقة في تقويم ذاته أولًا، ثم مَن هم تحت يده من المربين، ولا يَكُنْ سعيه ذلك متكلَّفًا يمارس به دورًا وظيفيًّا منزوعَ الرساليَّة، فالمربي حين يخاطَب بأهمية القدوة ومركزيتها في العملية التربوية فإنه مطالبٌ بأن يصلح ذاته ظاهرًا وباطنًا، ليكون لذلك الإصلاح بذورٌ تنبت على محيَّا المربين ونسماتٌ تنطبع على أرواحهم، لا أن تكون غايته تحسين صورته وسمعته في عين وسمع المربِّين، وأثر هذا يستبين مع الأفعال العفوية التي يفرزها موقف طارئ، فيتمايز من كان تكوينه الذاتي مكينًا، وبين من رسم بريشة التكلُّف منصبه من الاقتداء .. نعم، ثمةَ قدرٌ من بلوغ مقام الاقتداء يُنال بتكلُّف الإصلاح، وأطر النفس على بعض الكمالات، لكن هذا التكلُّفَ والأطرَ مرحليٌّ يتجاوزه المربي ليكون ذلك له بعد زمنٍ سجيةً وسمتًا.

المربي عرضة للنقص

2. المربِّي كغيره عرضةٌ للنقص، وهو إنسانٌ يتديَّن على طباعِه، حسنِها وسيئِها، فمهما غالبَ طباعَه فلن تزال عالقةً به، وهو إنما يسعى في ترشيدها لا إزالتها، وإذا تقرَّر ذلك فالمربي القدوة لن يكون مثاليًّا في شتى جوانبه، وإذا علمنا أن العملية التربوية خليطٌ من المهارات والإمكانات، فإن المربي لن يبلغ الغاية في جميعها، وعليه فيمكننا أن نقرِّر بأن القدوة تتجزَّأ، فربما كان المربي قاصرًا في جانبٍ قدوةً في آخر، وهذا إذا فقهه المربي كان عونًا له على مداراة نفسه حين سعيه في إصلاحها وتدرُّجه في تقويمها، وإذا فقهه المتربي كان عونًا له في إفادته ممن تصدَّر لتحمُّل عناء تربيته، بالتأسِّي به في جوانب تميزه والإعراض عن نقائصه.

المحاضن التربوية

3. ثمة ما يمكن تسميته في المحاضن التربوية بـ (القدوة الجماعية)، وذلك أن المربي له صفات ذاتية خاصة به، وأخرى تتعلق بطبيعة علاقته مع غيره، وأخص بالحديث هنا علاقتَه ببقية المربِّين في المحضن، فالمتربون يلحظون من المربي جانبين من جوانب الاقتداء، جانب يتعلق بالمربي ذاته، وجانب يتعلق بعلاقة المربي بغيره من المربين، فقد يكون المربي صالحًا في نفسه متميزًا بإمكاناته بارعًا في تأثيره، لكن علاقته ببقية المربين علاقة مخدوشة تفتقر إلى التكامل في العمل، وربما تعدَّى تأثيره إلى بخس بقية المربين حقوقهم ومنجزاتهم، وهذا له تأثيره السلبي على المتربي، فبدل أن يستفيد المتربي من معالم التميز الموزعة على المربين جميعًا، نراه ينحاز لبعضهم مفضِّلًا لهم على غيرهم، وأصل المفاضلة مشروع، لكن القصد هنا المفاضلة التي ينبني عليها شعبةٌ من التحقير لمنجزات المفضول في نظره.
فعلى المربي أن يلحظ في تربيته مصلحة المحضن التربوي، لا مصلحته الشخصية، وهذا يستدعي منه نظرة تكاملية في طبيعة تربيته يوازن بها بين دوائر القدوة الفردية والجماعية.

قدوة للمربين

4.   كما يكون المربي قدوة لمن يربيهم، فكذلك ينبغي له أن يكون قدوة لسائر المربين، وهذا مجال تنافس بينهم في مجالات البذل والتضحية، فالمربي إذا كان قدوة للمتربي في سمته وخلقه وهمته العلمية والعملية، فهو قدوة للمربين في بذله وعطائه، وكم من مربٍّ نهض بعطائه بالمحضن كله، وهذا هو المربي الراحلة الذي وطِّئت أكنافه للعمل والمثابرة فكان مثالًا عزيزًا على الإصلاح التربوي.

هذه بعض متعلَّقات موضوع القدوة التربوية، والمجال رحب لكثير من الرؤى حول هذا الموضوع، وهو جديرٌ بالعناية من قِبَل المربين، نظرًا لتمثيله مركز التربية الميدانية.


الإشارات المرجعية:
[1] الموافقات للشاطبي (4: 87).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#التربية #القدوة
اقرأ أيضا
الشعر الجاهلي واللغة ج2 | مرابط
مناقشات

الشعر الجاهلي واللغة ج2


تعتبر مقالات محمد الخضر حسين من أهم ما قدم في الرد على كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي وهذه المقالات تفند جميع مزاعمه وترد عليها وتبين الأخطاء والمغالطات التي انطوت عليها نظريته التي قدمها فيما يخص الشعر الجاهلي وكيف أن هذه الأخطاء تفضي إلى ما بعدها من فساد وتخريب وبين يديكم مقال يقف بنا على زعم طه حسين بأنه لا يسلم بصحة هذه الكثرة المطلقة من الشعر الجاهلي وأن هذا الشعر لا يمثل اللغة العربية ولا يعبر عنها بحال

بقلم: محمد الخضر حسين
444
أسباب تخلف أثر الدعاء | مرابط
اقتباسات وقطوف

أسباب تخلف أثر الدعاء


والدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب ولكن قد يتخلف عنه أثره إما لضعف في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا فإن السهم يخرج منه خروجا ضعيفا

بقلم: ابن القيم
201
عبقرية اللغة العربية | مرابط
لسانيات

عبقرية اللغة العربية


يحضرني عبقرية الفقهاء قديما في اختيار مصطلحاتهم في الفقه وفي العلوم..كيف ربطوا من خلالها بين العلم والدين ببراعة شديدة؟! وكيف وسعت العربية الفذة هذا الأمر؟! تأمل مثلا استعمالهم لفظ المكلف للتعبير عن المخاطب في الكلام.. فأي فعل لا ينفك عنه معنى الافتقار والعبودية.. يمكن أن تفهم ذلك أكثر من ملاحظة استعمال القانون مثلا للفظ العاقل للتعبير عن المخاطب.

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
53
معرفة حق الله على العبد | مرابط
اقتباسات وقطوف

معرفة حق الله على العبد


وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك ينظرون فى حقهم على الله ولا ينظرون فى حق الله عليهم. ومن هاهنا انقطعوا عن الله وحجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه. فمحاسبة النفس هو نظر العبد فى حق الله عليه أولا ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانيا؟ وأفضل الفكر الفكر فى ذلك فإنه يسير القلب إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلا خاضعا منكسرا كسرا فيه جبره ومفتقرا فقرا فيه غناه. وذليلا ذلا فيه عزه ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل فإذا فاته هذا فالذي....

بقلم: ابن القيم
54
تأويلات الرازي.. وموقف الإمام الشافعي من علم الكلام | مرابط
مقالات

تأويلات الرازي.. وموقف الإمام الشافعي من علم الكلام


من شؤم علم الكلام على أصحابه أنه يوقعهم في الحرج والحيرة حين يعرضون لبيان موقف أئمة أهل السنة من علم الكلام وذلك أنهم إن وافقوهم في القدح في علم الكلام وأنه منهج مبتدع في الدين فقد ناقضوا منهجهم وأبطلوه وإن خالفوا أئمة أهل السنة فقد أظهروا المباينة بينهم وبين من ثبتت إمامتهم عند عموم المسلمين وأنهم قد شذوا عنهم وانحرفوا عن منهجهم ويكون المخرج الذي يسلكونه لتجنب الوقوع في هذين الخيارين أن يتأولوا تحذير الأئمة من علم الكلام على غير وجهه.

بقلم: عبد الله القرني
64
شبهات حول الإجماع | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

شبهات حول الإجماع


وصل الحال عند بعض من ينكر حجية الإجماع إلى تجويز إطباق جميع الأمة على مدى أربعة عشر قرنا على الخطأ وهذا الموقف يخالف ما أخبر الله به أن هذه الأمة خير الأمم وأنها أمة وسط لتكون شاهدة على الناس لعدالتها وصدقها فكيف يجوز مع ذلك أن تتصرم قرونها وهي متفقة على الباطل غير عارفة بالحق ولا قائمة به

بقلم: أحمد يوسف السيد
2321