القدوة التربوية

القدوة التربوية | مرابط

الكاتب: مشاري الشثري

189 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

بسم الله الرحمن الرحيم

لم يجعل الله تعالى كتابَه حجةً على قومٍ إلا برسولٍ يبعثه إليهم، يبلغهم البلاغَ القوليَّ بتلاوة آياته، والعمليَّ بتمثّل أحكامه .. فاصطفى - سبحانه - من الناس رسلًا كرامًا، حتى ختم الرسالات بمحمد عليه الصلاة والسلام، فبلَّغ البلاغَينِ وَفقًا لأمر ربه، فكان من بلاغة أم المؤمنين عائشةَ - رضي الله عنها - حين سئلت عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ قالت: (كان خلقه القرآن).

لم يهنأ عليه الصلاة والسلام بنومٍ مذ تهادى إلى سمعه قول الحق تعالى: (قُمْ فأنذر) .. عَقدانِ من الزمان خلت معاجمها من تصاريف الراحة والسكون، فالعمل هو الحياة، وبعد الفراغِ النَّصَب، وإلى الله الرَّغب، فأنجبت تلك التربية النبوية جيلَ الصحابة، ثم هم رسموا شخوصَ التابعين، فحدَّثتنا سِيَرُهم ضِعفَ ما بُلِّغنا من قولهم.

وهكذا، ما زال الخالف يأخذ عن السالف .. وذِهِ التربية، تصنع المتربي لتجعل منه مربِّيًا، فإن استقامت استقام، وإن اعوجَّت اعوجَّ معها.

مسلك القدوة

إن للتربية أساليبَ وأدواتٍ متنوعة، غير أنها - كلَّها - تقصُرُ دون مسلك القدوة، ولما تمَّ صلحُ الحديبية أمر النبي عليه الصلاة والسلام صحابتَه - رضوان الله عليهم - بأن ينحروا ويحلقوا، فلم يقم منهم أحد، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلم يقم منهم أحد، فاغتمَّ حتى بثَّ ما أهمَّه لزوجه أم سلمة - رضي الله عنها -، فنطقت بلسان الحكمة وقالت: (يا نبي الله، أتحبُّ ذلك؟ اخرجْ ثمَّ لا تُكلِّم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدنك وتدعوَ حالقك فيحلقك) فما هو إلا أنْ نَحَر بُدْنَه ودعا حالقَه فحلقه حتى قام الصحابةُ فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضُهم يقتل بعضًا غمًّا.

ولـمَّا شكى الصحابة رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم ما يعانونه من رَهَق الجوع، وحسروا عن بطونهم، فإذا الواحدُ منهم يربط حجرًا على بطنه من شدة ما يلاقي من الأسى، بينا هم كذلك إذ يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم سِترَ بِطنِه عن حجرين! .. لا حاجة بعد ذلك إلى الكلام وإسداء الخطب.

والمربُّون هم في تربيتهم يُبلِّغون شُعَبًا من شعب هذا الدين، و(المنتصبُ للناس في بيان الدين منتصبٌ لهم بقوله وفعله، فإنه وارث النبي، والنبي كان مبينًا بقوله وفعله؛ فكذلك الوارث لا بد أن يقوم مقام الموروث)[1].

وها هنا جملةُ تقييدات تبحث جوانبَ من موضوع القدوة التربوية، منها:

المحافظة على القدوة

1. بقدر ما يتأكَّد على المربي أن يحافظ على جانب القدوة في تصرفاته فإن عليه أن يكون رساليًّا في هذه المحافظة، وذلك بأن يكون سعيُه لتجويد عمله بوصفه مربيًّا مقتدًى به = مقترنًا برغبة صادقة في تقويم ذاته أولًا، ثم مَن هم تحت يده من المربين، ولا يَكُنْ سعيه ذلك متكلَّفًا يمارس به دورًا وظيفيًّا منزوعَ الرساليَّة، فالمربي حين يخاطَب بأهمية القدوة ومركزيتها في العملية التربوية فإنه مطالبٌ بأن يصلح ذاته ظاهرًا وباطنًا، ليكون لذلك الإصلاح بذورٌ تنبت على محيَّا المربين ونسماتٌ تنطبع على أرواحهم، لا أن تكون غايته تحسين صورته وسمعته في عين وسمع المربِّين، وأثر هذا يستبين مع الأفعال العفوية التي يفرزها موقف طارئ، فيتمايز من كان تكوينه الذاتي مكينًا، وبين من رسم بريشة التكلُّف منصبه من الاقتداء .. نعم، ثمةَ قدرٌ من بلوغ مقام الاقتداء يُنال بتكلُّف الإصلاح، وأطر النفس على بعض الكمالات، لكن هذا التكلُّفَ والأطرَ مرحليٌّ يتجاوزه المربي ليكون ذلك له بعد زمنٍ سجيةً وسمتًا.

المربي عرضة للنقص

2. المربِّي كغيره عرضةٌ للنقص، وهو إنسانٌ يتديَّن على طباعِه، حسنِها وسيئِها، فمهما غالبَ طباعَه فلن تزال عالقةً به، وهو إنما يسعى في ترشيدها لا إزالتها، وإذا تقرَّر ذلك فالمربي القدوة لن يكون مثاليًّا في شتى جوانبه، وإذا علمنا أن العملية التربوية خليطٌ من المهارات والإمكانات، فإن المربي لن يبلغ الغاية في جميعها، وعليه فيمكننا أن نقرِّر بأن القدوة تتجزَّأ، فربما كان المربي قاصرًا في جانبٍ قدوةً في آخر، وهذا إذا فقهه المربي كان عونًا له على مداراة نفسه حين سعيه في إصلاحها وتدرُّجه في تقويمها، وإذا فقهه المتربي كان عونًا له في إفادته ممن تصدَّر لتحمُّل عناء تربيته، بالتأسِّي به في جوانب تميزه والإعراض عن نقائصه.

المحاضن التربوية

3. ثمة ما يمكن تسميته في المحاضن التربوية بـ (القدوة الجماعية)، وذلك أن المربي له صفات ذاتية خاصة به، وأخرى تتعلق بطبيعة علاقته مع غيره، وأخص بالحديث هنا علاقتَه ببقية المربِّين في المحضن، فالمتربون يلحظون من المربي جانبين من جوانب الاقتداء، جانب يتعلق بالمربي ذاته، وجانب يتعلق بعلاقة المربي بغيره من المربين، فقد يكون المربي صالحًا في نفسه متميزًا بإمكاناته بارعًا في تأثيره، لكن علاقته ببقية المربين علاقة مخدوشة تفتقر إلى التكامل في العمل، وربما تعدَّى تأثيره إلى بخس بقية المربين حقوقهم ومنجزاتهم، وهذا له تأثيره السلبي على المتربي، فبدل أن يستفيد المتربي من معالم التميز الموزعة على المربين جميعًا، نراه ينحاز لبعضهم مفضِّلًا لهم على غيرهم، وأصل المفاضلة مشروع، لكن القصد هنا المفاضلة التي ينبني عليها شعبةٌ من التحقير لمنجزات المفضول في نظره.
فعلى المربي أن يلحظ في تربيته مصلحة المحضن التربوي، لا مصلحته الشخصية، وهذا يستدعي منه نظرة تكاملية في طبيعة تربيته يوازن بها بين دوائر القدوة الفردية والجماعية.

قدوة للمربين

4.   كما يكون المربي قدوة لمن يربيهم، فكذلك ينبغي له أن يكون قدوة لسائر المربين، وهذا مجال تنافس بينهم في مجالات البذل والتضحية، فالمربي إذا كان قدوة للمتربي في سمته وخلقه وهمته العلمية والعملية، فهو قدوة للمربين في بذله وعطائه، وكم من مربٍّ نهض بعطائه بالمحضن كله، وهذا هو المربي الراحلة الذي وطِّئت أكنافه للعمل والمثابرة فكان مثالًا عزيزًا على الإصلاح التربوي.

هذه بعض متعلَّقات موضوع القدوة التربوية، والمجال رحب لكثير من الرؤى حول هذا الموضوع، وهو جديرٌ بالعناية من قِبَل المربين، نظرًا لتمثيله مركز التربية الميدانية.


الإشارات المرجعية:
[1] الموافقات للشاطبي (4: 87).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#التربية #القدوة
اقرأ أيضا
جدلية المساواة بين المرأة والرجل | مرابط
مقالات المرأة

جدلية المساواة بين المرأة والرجل


لم يكن جنس النساء سواء لجنس الرجال قط في تاريخ أمة من الأمم التي عاشت فوق هذه الكرة الأرضية على اختلاف البيئات والحضارات.. وكل ما يقال في تعليل ذلك يرجع إلى علة واحدة وهي تفوق الرجل على المرأة في القدرة والتأثير على العموم.

بقلم: عباس محمود العقاد
683
استقبال رمضان | مرابط
مقالات

استقبال رمضان


منا من يرى تقصيره وغفلته وقسوة قلبه ويتساءل ماذا سيحصد في رمضان إن كان قد ضيع البذر والسقاية كما يقولون منا من يخاف من أن تحاصره أصوات المآذن وزحامات المساجد وهمهمات المرتلين ومناجاة الساجدين فتدفعه دفعا للعبادة أو تأنيب الهروب منها مع شعوره بالكسل والملل والفتور وعدم الرغبة

بقلم: كريم حلمي
430
الملحد: ينكر وجود الله أم يرفض وجود الله؟ | مرابط
الإلحاد

الملحد: ينكر وجود الله أم يرفض وجود الله؟


كثير من الملاحدة والليبراليين لا ينكرون وجود الله بل يرفضون وجود الله. هم لا يريدون لأي قوة أن تفرض عليهم حدودا لشهواتهم بل يريدون الاستمتاع بالدنيا كما تتمتع البهائم فاللذة هي إلههم المعبود الذي لا يستحق أحد العبادة سواه.

بقلم: إسماعيل عرفة
394
الثغر الأول: الأسرة | مرابط
مقالات

الثغر الأول: الأسرة


في زحام الفتن وأيام التغير الاجتماعي المريب يجدر بالأسرة أن تكون سياج الاحتواء الأول وحاضنة العقول والقلوب للأفراد صغارا وكبارا فأي صدع في جلمود هذا الحصن عبارة عن منفذ جاذب يتغلغل خلاله العدو وتنسل منه سموم الأفكار والممارسات مما يرنو بالجهد نحو الخذلان ويسر الخيبة وتجلي الهزيمة وتجد أنك في حالة دفاع وعرة وجهاد ضد الأعداء على ثغور عدة.

بقلم: سعود الشمري
289
آداب النوم | مرابط
تفريغات

آداب النوم


عبد الله إذا كنت لا تدري إذا صعدت روحك إلى بارئها حال النوم أتكون ممن تمسك روحه فلا يقوم أم ممن ترسل لتكمل بقية أجلها فليس يليق بك أن تودع الدنيا بالفجور والعصيان أو يكون آخر ما يقرع سمعك ألحان وغناء وأصوات الموسيقى والتخيلات الباطلة بل ودع الدنيا بخير ما ينبغي أن تودع به ثم نم على ذكر الله تبارك وتعالى واحتسب نومتك عبادة عند الله وتذكر دائما أنها ربما تكون آخر نومة تنامها فاشكر الله على عافيته وكفايته وإيوائه لك

بقلم: خالد الراشد
730
أهواء الناس في وقت الفتن | مرابط
تفريغات

أهواء الناس في وقت الفتن


كذلك أيضا فإن شهوات الناس وتشوفهم للفتن يتنوع فمن الناس من يلتفت إلى فتنة السمع ومنهم من يتشوف إلى فتنة البصر ومنهم من يتشوف إلى فتنة الفرج ومنهم من يتشوف إلى فتنة الكلام ومنهم من يتشوف إلى فتنة الفكر وغير ذلك فتتنوع الفتن فبحسب أهواء الناس تنوعت الطرق

بقلم: عبد العزيز الطريفي
398