مسائل حول الطلاق والسكنى

مسائل حول الطلاق والسكنى | مرابط

الكاتب: عبد العزيز الطريفي

191 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

طلاقُ السُّنَّة وطلاقُ البِدْعةِ:

قولُه تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}.

للطَّلاقِ عِدَّةٌ وموضعٌ يُنزَلُ فيها، وليس للزَّوْجِ أن يتكلَّمَ بالطلاقِ بهواهُ وفي الوقتِ الذي يشاءُ هو؛ فقد جعَلَ اللَّهُ للطلاقِ موضعًا، وموضعُهُ أنْ يُطلِّقَها في طُهْرٍ لم يُجامِعْها فيه، أو يُطلِّقَها حاملًا قد اتَّضَحَ حَمْلُها.

وقد قال ابنُ مسعودٍ (1)، وابنُ عبَّاسٍ (2)، وابنُ عمرَ (3)؛ في قولِه تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}: إنَّه في طُهْرٍ مِن غيرِ جِماعٍ؛ وبه قال عطاءٌ ومجاهدٌ والحسنُ وعِكْرِمةُ وميمونُ بنُ مِهْرَانَ (4).

وكلُّ طلاقٍ لم يُوافِقِ السُّنَّةَ، فهو طلاقٌ بدْعيٌّ، أمَّا السُّنيُّ فتقدَّم، وأمَّا الطلاقُ البِدْعيُّ:

هو تطليقُ الزوجةِ في حَيْضِها أو نِفَاسِها، أو في طُهْرٍ قد جامَعَها فيه، أو يُطلِّقُها في زمنِ عِدَّتِها مِن تطليقةٍ سابقةٍ، أو يُطلِّقُها أكثَرَ مِن طلقةٍ مرةً واحدةً.

وأمَّا الصغيرةُ والآيسةُ التي لا تَحِيضُ، فلا طلاقَ بدْعيًّا يتعلَّقُ بحَيضِها ونِفاسِها؛ وإنَّما البِدْعيُّ يتعلَّقُ بتطليقِها في زمنِ عِدَّتِها مِن طلقةٍ سابقةٍ، أو تطليقِها بأكثَرَ مِن واحدةٍ مرةً واحدةً.

ومِن الأئمَّةِ كالشافعيِّ: مَن لم يَجعَلْ مجرَّدَ الطلاقِ ثلاثًا بِدْعةً ما دام طلاقُها في طُهْرٍ لم يُجامِعْها فيه؛ فاعتبَر الزمانَ ولم يَعتبرِ العَدَدَ، ولكنْ أمَرَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ابنَ عمرَ أن يُراجِعَها، ثمَّ إنَّ اللَّهَ تعالى قال بعدُ: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}، والأمرُ: الرَّجْعةُ، وهذا يدُلُّ على أنَّ المرادَ بقولِه: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} طلاقُ الرَّجْعةِ، وهو الأصلُ، والثلاثُ على قولِهِ لا رجعةَ فيها، وقد أخَذَ بعمومِ الآيةِ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، فوسَّعَ في عددِ الطَّلَقاتِ ما دام في العِدَّةِ، وقد تقدَّم الكلامُ على الطلاقِ الثلاثِ بلفظٍ واحدٍ أو مجلِسٍ واحدٍ عندَ قولِهِ تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: ٢٢٩].

وقولُه تعالى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أمَرَ اللَّهُ بضبطِ العِدَّةِ؛ لأنَّ ذلك يتعلَّقُ به حقوقٌ واستحلالُ فُرُوجٍ وتحريمُها، ومِن ذلك الميراثُ؛ فلو مات أحدُ الزوجَيْنِ في آخِرِ يَوْمٍ مِن عِدَّةِ طلاقِ الرَّجْعةِ ولم تخرُجْ منها، فإنَّهما يَتوارَثانِ، وتعتدُّ الزوجةُ لوفاةِ زوجِها، وبضبطِ العِدَّةِ تُحفَظُ الأرحامُ مِن أن يكونَ فيها نُطْفةٌ لزوجٍ سابقٍ، فتتزوَّجُ غيرَهُ فيَنتسِبُ الولدُ إلى غيرِ أبيه، وكلُّ خِطْبةٍ لزوجةٍ في عِدَّةِ طلاقِها فهي محرَّمةٌ؛ لأنَّها في عِصْمةِ زوجِها واحتمالِ رَجْعتِها إليه، فضلًا عى حُرْمةِ وطءِ غيرِ زوجِها لها -ولو كان بعقدٍ- في أثناءِ العِدَّةِ.

السُّكْنَى للمطلَّقةِ:

قال تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ}، نَسَبَ اللَّهُ البيوتَ إليهنَّ، فقال: {بُيُوتِهِنَّ}؛ ليبيِّنَ حقَّهُنَّ فيها بالسُّكْنَى في أثناءِ عِدَّتِها، فالمطلَّقةُ الرجعيَّةُ لا يجوزُ لزوجِها إخراجُها بعدَ تطليقِهِ لها حتى تخرُجَ مِن عِدَّتِها؛ كما أنَّه لا يجوزُ لها أن تخرُجَ هي مِن بيتِ زوجِها: {وَلَا يَخْرُجْنَ}؛ لأنَّها وإن كانتْ مطلَّقةً فهي في عِصْمةِ زَوْجِها لا تخرُجُ إلَّا بإذنِه.

وإنْ خرَجَتِ المطلَّقةُ مِن بيتِ زوجِها بغيرِ إذنِه، فلا نَفَقةَ لها ولا سُكْنى؛ وهذا مُقتضَى سياقِ الآيةِ.

وقولُه تعالى: {وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} بيَّن اللَّهُ أنَّ المرأةَ إنْ أتتْ بفاحشةٍ بيِّنةٍ، وهي الزِّنى، فلزَوْجِها إخراجُها مِن منزلِه؛ لأنَّها خانتْ أمانتَهُ وعَهْدَهُ معها وميثاقَ اللَّهِ الذي أخَذَهُ عليها.

وقد فسَّر الفاحشةَ بالزِّنى جماعةٌ، كابنِ مسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ وجماعةٍ مِن السلفِ (5).

ومِن السلفِ: مَن حمَلَ الفاحشةَ هنا على فُحْشِ اللِّسَانِ وبَذَاءتِه؛ كأنْ تتسلَّطَ بالفُحْشِ على الزوجِ وعلى أهلِهِ كأُمِّه وأبيهِ؛ وهذا مرويٌّ عن ابنِ عبَّاسٍ (6).

ومنهم: مَن حمَلَ الفاحشةَ على كلِّ معصيةٍ، ورُوِيَ هذا عن ابنِ عبَّاسٍ أيضًا (7)، وصوَّبه ابنُ جريرٍ (8).

وقولُه تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} بيانٌ بأنَّ أحكامَ الطلاقِ والعِدَدِ والسُّكْنَى أحكامٌ للَّهِ لا يجوزُ الخروجُ عنها مهما بلَغَتِ البَغْضاءُ بينَ الزوجَيْنِ، فأمرُ اللَّهِ وحَدُّهُ فوقَ ذلك كلِّه، ومَن خالَفَ تلك الحدودَ مِن الزوجَيْنِ، فظُلْمُهُ على نفسِه؛ فاللَّهُ لم يَشرَعِ الأحكامَ إلَّا لمنفعتِهِ ولو جَهِلَ ذلك أو غابتْ عنه حِكْمَتُه، وبيانُ ذلك في قولِه تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}؛ يعني: أنَّ اللَّهَ يُحدِثُ مِن تغيُّرِ الحالِ والرأي بينَ الزوجَيْنِ بعدَ عجَلةِ الطلاقِ ما يَنْدَمانِ عليه، فيَتراجَعانِ عن قُرْبٍ قبلَ خروجِ الزوجةِ مِن بيتِها، وقبلَ انقضاءِ العِدَّةِ، فجعَلَ اللَّهُ العِدَّةَ أجَلًا للنظرِ ومراجعةِ النَّفْسِ، فلو تَفَرَّقَ الزوجانِ مِن أولِ وقوعِ الطلاقِ، وخرَجَتِ الزوجةُ مِن بيتِ زوجِها، كانتِ الرجعةُ أشَقَّ، ومكابَرَةُ النفوسِ وعنادُها أشَدَّ، فتُهلِكُ العجَلةُ أهلَها، واللَّهُ يُريدُ بهم رِفْقًا.

وقد صحَّ عن عليٍّ قولُه: ما طلَّقَ رجلٌ طلاقَ السُّنَّةِ، فَنَدِمَ (9).

وذلك أنَّ اللَّهَ لم يشرِّعْ ذلك ويَضَعْ له عِدَّةً وحَدًّا إلَّا لتخرُجَ الزوجةُ مِن نَفْسِ زوجِها، والزوجُ مِن نفسِ زوجتِه، ولا يَجِدَا ألمًا وحَسْرةً على الفِراقِ، ولكنْ يَندَمُ الناسُ على الطلاقِ بمقدارِ مُخالفتِهم لحدودِ اللَّهِ فيه.


المصدر:
عبد العزيز الطريفي، التفسير والبيان لأحكام القرآن، ص2154

الإشارات المرجعية:

  1. تفسير الطبري (٢٣/ ٢٣).
  2. تفسير الطبري (٢٣/ ٢٩).
  3. تفسير الطبري (٢٣/ ٢٨)، وتفسير ابن كثير (٨/ ١٤٣).
  4. تفسير الطبري (٢٣/ ٢٥ - ٢٧)، وتفسير ابن كثير (٨/ ١٤٣).
  5. تفسير ابن كثير (٨/ ١٤٣).
  6. تفسير الطبري (٢٣/ ٣٤).
  7. تفسير الطبري (٢٣/ ٣٤).
  8. تفسير الطبري (٢٣/ ٣٦).
  9. أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (١٧٧٣٧)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٧/ ٣٢٥).
     
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الطلاق #السكنى
اقرأ أيضا
يا حبذا نوم الأكياس | مرابط
اقتباسات وقطوف

يا حبذا نوم الأكياس


فاعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته ولا ببدنه والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح قال تعالى ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب وقال لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم وقال النبي التقوى ههنا وأشار إلى صدره

بقلم: ابن القيم
434
وبدأ الانحراف يسبل إزاره | مرابط
مقالات

وبدأ الانحراف يسبل إزاره


وإذا رأى متدبر القرآن -أيضا- ما في القرآن من عناية شديدة بالتحفظ في العلاقة بين الجنسين كوضع السواتر بين الجنسين كما في قوله وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب الأحزاب من الآية:53 وحثه المؤمنات على الجلوس في البيت وقرن في بيوتكن الأحزاب من الآية:33 ونهيه عن تلطف المرأة في العبارة فلا تخضعن بالقول الأحزاب من الآية:32 ونهيه عن أي حركة ينبني عليها إحساس الرجل بشيء من زينة المرأة ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن النور من الآية:31 ونحو ذلك.

بقلم: إبراهيم السكران
376
فضيلة شهر شعبان | مرابط
تفريغات

فضيلة شهر شعبان


فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهتم بشهر شعبان ما لا يهتم بغيره ولهذا روى النسائي والإمام أحمد من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله رأيتك تكثر من صيام شعبان أكثر من صيامك شهر رجب فقال: صلى الله عليه وسلم: ذاك شهر بين رجب ورمضان وهو شهر تغفل الناس عنه وهو شهر أحب أن أصوم فيه وهو شهر ترفع فيه الأعمال فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم

بقلم: عبد الله بن ناصر السلمي
333
المذاهب والفرق المعاصرة: الديمقراطية ج1 | مرابط
تفريغات الديمقراطية

المذاهب والفرق المعاصرة: الديمقراطية ج1


السبب في فرح الغرب بالديمقراطية واعتباره أنها من أعظم مفاخر الإنسانية هو: أنه استطاع بها تجاوز المجتمع والنظام الإقطاعي ليعطي الشعوب حق التعليم والانتقال من مكان إلى مكان وحق العمل وحق الانتقاد وحق التفكير وحق الانتخاب وحق المشاركة السياسية وغيرها من الحقوق

بقلم: عبد الرحيم السلمي
641
في أنماط القراءة ومسالك القراء | مرابط
فكر مقالات ثقافة

في أنماط القراءة ومسالك القراء


في هذا المقال يستعرض إبراهيم السكران أنماط الناس في القراءة والمطالعة ومساراتهم التي تغلب عليهم وتستتبع أساليب تعاملهم مع العلم ومن ذلك هذه الأنماط القرائية الخمسة: القراءة الملحية القراءة الوراقية القراءة المستهلكة القراءة التحصيلية القراءة البحثية

بقلم: إبراهيم السكران
2201
جوهر العولمة | مرابط
اقتباسات وقطوف

جوهر العولمة


جوهر العولمة هو عملية تنميط العالم بحيث يصبح العالم بأسره وحدات متشابهة هي في جوهرها وحدات اقتصادية تم ترشيدها أي إخضاعها لقوانين مادية عامة مثل قوانين العرض والطلب والإنسان الذي يتحرك في هذه الوحدات هو إنسان اقتصادي جسماني لا يتسم بأي خصوصية

بقلم: عبد الوهاب المسيري
593