الحياد الأجوف

الحياد الأجوف | مرابط

الكاتب: الشيخ حسن بن علي البار

1076 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

لا يجد المتابع صعوبة ليدرك حجم الاختلاف، وتعدد الرؤى، وكثرة الأطروحات في واقعنا المعاصر، بصورة هي من سمات هذا العصر، ومن المؤثرات الكبيرة على أهله، بالطبع هذه الأطروحات الكثيرة متباينة وواسعة المدى من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ولكل مقالة منها منتصرون ومنظرون، وهؤلاء من لا أريد الحديث عنهم هنا.
 
وإنما أريد أن يكون حديثي عن الجمهور المشاهد الذي تلقى هذه الأفكار على رأسه في حرب لم يكد يشهد لها التاريخ مثالا في الضراوة والتتابع!! هذا المستمع والمتابع كيف يصنع مع هذه الحرب؟ ومع أي قوم يصطف؟

 

ولأجل هذا الصنف من الناس أسوق عددا من التنبيهات:

 

محكمات الشريعة

1- من الأمور ما لا يجوز أن تكون موضعا للجدل وتداول الرأي عند المسلم، وهي محكمات الشريعة، وقطعيات الأدلة، وهي كثيرة مشهورة يعرفها أهلها، وكثيرا ما تلتبس على من سواهم، وهذا النوع من الأمور -إذا وقع فيها الخلاف- الغالب فيها أن المخطئ فيها غير معذور، وأنه أعرض عن الحق، أو أنه سلك في تحصيله الطرق غير الموصلة إليه، مع وضوحه، وقرب مأخذه، ومع أن الحق من صفته دائما أنه واضح وقريب؛ إلا أنه في هذا النوع أوضح، ومضيعه حينئذ يكون ألوم.
 

العلماء

2- مرجع الأمور الدقيقة في كل فن إلى علماء ذلك الفن، ولا يمكن أن يكونوا -على اختلاف مشاربهم، وتنوع مداركهم، وتوزع أماكنهم، وصعوبة أو استحالة اجتماعهم على هوى واحد- لا يمكن أن يكونوا جميعا مخطئين، فإن خالفتهم برأيك في أمر، ثم رأيت جماعتهم على رأي واحد غير رأيك؛ فاتهم رأيك ولا تتهمهم، فإن الهوى يعمي ويصم، ورأيك أقرب إلى الهوى من رأيهم، وأبعد عن العلمية من دقيق مناهجهم.

 

الحق الظاهر

3- من المسائل المطروحة للنقاش ما ليس من المسائل القطعية، ولكن الحق فيها ظاهر، والرأي الآخر فيها له وجهه؛ إلا أنه أبعد عن الظهور، وأقل تحقيقا للمصلحة الشرعية، فمن المتصور أن يكون من الناس من يجتهد فيؤديه اجتهاده إلى ذلك الرأي، ومن الطبيعي حينئذ أن يكون القائل بهذا والمقتنع به أقل من القائل بالرأي الآخر، ما لم يقتض ذلك أمر من الأمور.. ولكن أن يتحزب مجموعات، ويتنادوا بصوابية الرأي المهجور، ثم إذا نظرت وجدته مؤديا إلى موافقة طريقة الحضارة الغربية (الغالبة) في التفكير والنظر إلى المسائل، في الوقت الذي يأباه أكثر أهل العلم الراسخين، فهناك اعلم أن ذلك من التداعي للهوى لا للعلم، وأنه من باب تقييم المصالح والمحاسن برأي (الآخر)، ثم دفع المفاسد والقبائح (التي يراها الآخر كذلك) عن النفس!!

 

الإعراض

4- طائفة من الناس تعرض عن كل ذلك اشتغالا بدين أو دنيا.. وهذا ممدوح من جهة الاشتغال بما ينفع عما لا ينفع، ومن جهة عدد من النصوص الشرعية الآمرة بالإعراض عن الشبهات، وعن اللغو.. ولكن هؤلاء الناس لا يجوز أن يكونوا مجموع الأمة؛ لأنهم مع تباعدهم عن العراك الفكري إيجابيه وسلبيه؛ إلا أنهم ليسوا بمعزل عن التعرض لسهامه، أو تعرض أهليهم لذلك، وكم في الناس من منغلق على نفسه، مناوئ للصالح والطالح من الأطروحات من انفتحت عليه فجأة فغرق في شبر منها، وخطف بالكلية إلى الضفة الأخرى، وهؤلاء الناس كذلك لا يندفع بهم فرض الكفاية عن الأمة في مدافعة الباطل، والمجاهدة بالقرآن، قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {وجاهدهم به جهادا كبيرا} [الفرقان:52]: ولكن جاهدهم بهذا القرآن جهادا كبيرا، حتى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله، ويدينوا به ويذعنوا للعمل بجميعه طوعا وكرها، وهذا مقتضى استخلاف هذه الأمة بالشهادة على العالمين.

 

لزوم الحياد

5-  وطائفة أخرى لزمت الحياد، ووقفت وسطا بين شتى المذاهب، يوما يمانون، ويوما عدنانيون، يسمع من ذا وذا، ويعجبه رأي ذا، وأصالة ذاك، وحجة هذا، أو بريق مقولة الآخر.. وهكذا، يظن ذلك من الثقافة، ويؤزه على الاستمرار على هذا النهج مقولات من نحو: عدم احتكار الحقيقة، وأنه لا حق مطلق، وحرية كل طرف في التعبير عن آرائه، واحتمال صوابية تلكم المقولات... وما إلى ذلك من هذه الدعاوى الفضفاضة، وحين ينظر هؤلاء الإخوة إلى الآخر بهذه النظرة، ويطالبوننا بها؛ فياليتهم يطالبون الآخر بها كذلك، فهذان طرفان لكل منهما طريقة ومذهب، فما مذهبك أنت؟ وما هي طريقتك؟ إن الحياد بين الكفر والإيمان، والتردد بين صوابية أهل الإسلام أو أهل الكتاب، التردد الأعمى بين معسكر الشرق ومعسكر الغرب، الليبرالية والسلفية، العلمانية والإسلامية، الديمقراطية والشرعية، الشيعة والسنة، البدعة والاتباع، الظالم والمظلوم.. إلخ هذه الثنائيات؛ ليس بصواب، ولا هو دليل عمق فكري، ولا يمتلك صاحبه اليقين الراسخ بحقائق الأمور، فهو يتمظهر بالثقافة والحياد، والحياد بعد ظهور الحق توسط بين الحق والباطل، وهو مذموم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالما أو مظلوما))، وفي التنزيل الحكيم: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} [الحجرات : 9]، فأمر بالحياد والإصلاح حتى تظهر مخالفة العدل والصواب؛ وحينها يجيء الأمر بالانحياز إلى الحق وأهله، ونصرتهم على من ناوأهم.
 

مع المنتصر

6 - لبعض الناس في نصرة الحق طريقة عجيبة، فهم أبدا مع المنتصر، ولديهم قدرة عجيبة على أن يبصروا النقطة السوداء في الثوب الأبيض، متى ما كان ذلك يحقق لهم رضا من يريدون رضاه، وهم كذلك يبصرون النقطة البيضاء في الثوب الأسود، ويدعون أن هذا مقتضى الإنصاف.. فاحذر من هذه المسالك؛ فإنها لا تزيد أصحابها إلا قبحا!! وهو نوع من التأكل بالمبادئ، والعياذ بالله.
 

الشيطان الأخرس

7- الشيطان الأخرس أضعف وأقل شرا من الشيطان الناطق، وبعض الخرس عن الحق يسكتون دهرا، ثم ينطقون فجرا، وحينئذ يحسن أن تقول: ليته سكت..
 

أهل العلم والعدل والمعرفة

8- أهل العلم والعدل والمعرفة العميقة بالذات وبالآخر من أهل الدين الحق لا يزيدهم مخالفة المخالف لهم، وهزؤه بمبادئهم إلا إيمانا وتثبيتا. {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا} [المدثر : 31]. انظر كيف جعل في نفس الأمر الذي فيه الفتنة على الكافرين زيادة في إيمان المؤمنين، واطمئنانا لمن كان منصفا ممن نزل عليهم الكتاب من قبله.
 
 إن أهل الإنصاف المزعوم، والتوسط في غير محله مداهنون؛ يظنون أن أسلوب المجاملة والتملق نافع في كل حين، وهو دليل ضعف في شخصياتهم، وضمور في يقينهم، وهذا الداء قد استشرى في هذا الزمان، ووصل إلى فئام كثيرة من الناس؛ فتفقد نفسك يا أخي، فلعلك تخلصها من بعض رواسب هذا المرض العضال، سلمك الله من كل شر.
 
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.. اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

 


 

المصدر:

موقع الدرر السنية

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الحياد
اقرأ أيضا
مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج1 | مرابط
مناظرات

مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج1


اشتهر أبو بكر الباقلاني بمفصاحته وقدرته على المناظرة والبيان والذب عن الإسلام وقد ناظر في عهده الكثير من النصارى أشهر هذه المناظرات كانت لما أرسله عضد الدولة إلى ملك الروم الأعظم ليظهر له رفعة الإسلام ويناظره في معتقده وبالفعل جرت المناظرة بينهما واستعان ملك الروم بكثير من علماء النصارى حتى يقدروا عليه وكان المناظرة سبب في إسلام الكثير من النصارى وأظهر الباقلاني فصاحة عالية ورؤية ثاقبة وقدرة مبهرة على الرد والبيان

بقلم: القاضي عياض
2407
براءة الأشاعرة من مذهب أهل السنة والجماعة الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات

براءة الأشاعرة من مذهب أهل السنة والجماعة الجزء الأول


شكل المذهب الأشعري منهجا جديدا مختلفا عما كان عليه السلف المتقدمون منذ أول لحظة من ظهوره حيث إن الأشعري اعتمد طريقة ابن كلاب ومنهجه في تأسيس العقائد ومن حين أن ظهر المذهب الأشعري باعتباره مذهبا عقديا له أصول وعقائد خاصة اتخذ منه أئمة أهل السنة والجماعة الذين هم أخبر بمذهب الأئمة المتقدمين وأعلم بمدلولاتها موقفا واضحا وعدوه من الفرق الخارجة عن السنة التي كان عليها الصحابة وتلاميذهم ومن جاء بعدهم من الأئمة المتبوعين نتيجة لما تلبس به من أخطاء منهجية وعقدية وفي هذا المقال يضع الكاتب أمامنا أهم...

بقلم: سلطان العميري
1581
نقل الإجماع على أن الإيمان قول وعمل | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين تفريغات

نقل الإجماع على أن الإيمان قول وعمل


ومنهج أهل السنة والجماعة في قضايا الإيمان والتوحيد أن الإيمان قول وعمل واعتقاد وهذا خلافا للمرجئة فالإيمان بإجماع أهل السنة والجماعة: تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان والإيمان قول وعمل القول باللسان فإذن قول القلب وعمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح الإيمان حقيقة مركبة من هذه الأشياء الأربعة وفي هذا المقال بيان لحقيقة الإيمان وخلاف المرجئة فيه

بقلم: محمد صالح المنجد
1355
نصيحة شيخ الإسلام: لا تقصد رضا الناس | مرابط
اقتباسات وقطوف

نصيحة شيخ الإسلام: لا تقصد رضا الناس


وكنت أخبرتك أن سيدنا شيخ الإسلام تقي الدين أبا العباس أحمد بن تيمية -أيده الله وأحسن إليه- أوصاني مرة في سنة ثلاث وسبعمائة وصية بليغة حفظت منها قوله: لا تقصد رضا الناس بأقوالك ولا أفعالك: فإن رضا الناس غاية لا تدرك اليوم إن ترض الناس يشكروك وفي غد تسخطهم يذموك

بقلم: ابن الحبال البعلي
722
الدعاء والشكر | مرابط
تعزيز اليقين

الدعاء والشكر


من متع الحياة الدنيا: أن تكون عبدا مكروبا بكرب دنيوي أو محتاجا لشيء من لعاعة الدنيا فتلح بالدعاء والطلب من الله. ربنا العظيم الكبير الجليل المالك ذي الجلال والجبروت والملكوت.. فتدعوه مع التذلل له ويرزقك الخضوع والانصياع التام والفقر التام ولو بعد حين من الدعاء.

بقلم: خالد بهاء الدين
339
حديث: لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد.. | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

حديث: لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد..


ومن أعظم أسباب فساد البيوت وارتفاع معدلات الطلاق هو تلك المفاهيم الفاسدة التي حشروها حشرا في رؤوس النساء كأن لا تحترم زوجها ولا تبالغ في إكرامه وتبجيله حتى لا يتمرد عليها وأن تعامله معاملة الند للند واحدة بواحدة وأحيانا من أول يوم لدخول الخاطب إلى البيت يبدأ الصراع الملحمي بين العريس وأهله والعروسة وأهلها والنصائح المفسدة من أصدقاء الطرفين وأقربائهما!

بقلم: كريم حلمي
339