فن أصول التفسير ج1

فن أصول التفسير ج1 | مرابط

الكاتب: مساعد الطيار

632 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

الموضوعات الكلية لأصول التفسير


بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

فالموضوع الذي بين يدي: هو أصول التفسير، وكما يقال الآن من المصطلحات المعاصرة لفظة التوظيف؛ لأني سأجتهد في توظيف أصول التفسير، وهي مادة نوع ما ممكن تكون متخصصة، لكن سأجتهد قدر استطاعتي أن أنزل بالمعلومات إلى ما يمكن أن تستوعبه شرائح متعددة؛ الذي علمه قليل، والذي علمه كثير، والذي يستوعب استيعابًا سريعًا، والذي يكون استيعابه بطيئًا.

 

موضوعات أصول التفسير

عندنا فيما يتعلق بأصول التفسير، ممكن أن نقسم موضوع أصول التفسير إلى عدة موضوعات:

عندنا المقدمات: وهذه عادةً تشمل: تعريفات العلم، ثمرته، اللي هي المبادئ العشرة التي غالبًا ما يضعها بعض العلماء في علم من العلوم.

ثم المصادر: وهذه يمكن أن نقسمها عدة تقسيمات: المصادر النقلية البحتة، والمصادر النقلية النسبية، ومصادر الاجتهاد.

ثم عندنا الاختلاف: وفيه ثلاث قضايا مهمة: أسباب الاختلاف، وأنواع الاختلاف، وطرق التعبير عن التفسير.

ثم عندنا بعد ذلك القواعد، وهي تنقسم إلى قواعد عامة، وقواعد ترجيحية.

هذه تقريبًا الموضوعات الكلية في أصول التفسير.

طبعًا الإجماع يدخل في باب الاختلاف، لكن في الغالب الذي يدرس هو الاختلاف لا الإجماع، وهناك بعض مسائل تفصيلية ممكن تدخل ضمن هذه المسائل العامة، مثل قضية طرق التفسير، وهذه ستأتينا فيما يتعلق بقضية المصادر.

الموضوع الأول: المقدمات؛ ونحن بحاجة إلى أن يكون عندنا تعريفات نتفق عليها، بحيث إنا إذا تكلمنا في ما بعد في التطبيقات، يكون ظاهرًا وواضحًا المقصود.

وكذلك سنتحدث عن المصادر ونفصل فيها، ثم بعد ذلك عن أيضًا الاختلاف ونفصل فيه. أما ما يتعلق بالقواعد سيكون التعرض من باب التمثيل فقط. نرجع الآن إلى ما يتعلق بقضية المقدمات، وهي التي قلنا عنها قبل قليل فيما يتعلق بقضية أصول التفسير.

 

مصطلح أصول التفسير

لو جئنا إلى قضية أصول التفسير، وجدنا أن هذا المصطلح يحتاج إلى فك، ولن نطيل في القضايا اللغوية، لكن نكتفي بأن الأصل المراد به الأساس الذي يبنى عليه الشيء، والتفسير لغةً: هو البيان، أو الإيضاح أو الكشف، ومنه قول: فسر عن ذراعه إذا كشفها، فمادة فسر تدور كلها حول البيان والإيضاح.

ويلاحظ أنه غلب على شرح القرآن تسميته بالتفسير، وعلى الحديث تسميته بالشرح، وعلى الشعر أيضًا بالشرح، مع أنه قد يرد تفسير الحديث أو تفسير الشعر، لكنه قليل، حتى أنه إذا قيل: التفسير صار الذهن يتجه إلى تفسير القرآن، وإلا فإن التفسير والشرح والإيضاح والبيان كلها مصطلحات متقاربة.

أيضًا لما نأتي لمصطلح التفسير، إذا رجعنا إلى تعريفات بعض العلماء سنجد أن عندهم تعريفات كثيرة، بعضهم توسع فيه حتى أدخل فيه جملة العلوم التي يكتبها المفسر، ولكن أقرب ما يمكن أن يقال عن التفسير: بأنه بيان معاني القرآن، وهذا يعني: أننا سنعمد إلى فهم معنى كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا نسميه بيان المعاني، أما ما بعد فهم المعنى: فهو مرتبط بالقرآن، لكن ليس من صلب التفسير، وهذه قضية مهمة؛ لأن سنطرحها إن شاء الله في التطبيقات، بمعنى الآن عندنا أكثر من مرتبة، ونحن سنتكلم الآن عن مرتبة فهم المعنى، كيف نستطيع أن نعرف أننا انتهينا من المعنى أو لم ننتهِ، هذا الأمر فيه سهل.

لاحظوا مثلًا لو قلنا:  إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة:37]، وسألنا: ما هو النسيء؟ قد يقول قائل: النسيء: مأخوذ من النسيء، وهو التأخير، فإذا أراد أن يفسر، كأنه قال: إنما التأخير زيادة في الكفر، هل تبين المعنى الآن؟ يعني الآن نحن عرفنا المدلول اللغوي، لكن ما زال المدلول السياقي لم يعرف، لكن إذا قلنا: إن النسيء: هو تأخير الأشهر الحرم، وذكرنا قصة العرب في تأخير الأشهر الحرم، يتبين المعنى، أو ما يتبين؟ يتبين المعنى. الآن إذا قلنا:  إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]، يعني كأنه قال: إنما تأخير الأشهر الحرم عن مواطنها زيادة في الكفر، فتبين المعنى.

وأي معلومة بعد بيان المعنى فإنها لا تدخل في صلب التفسير، وإن كانت من علوم الآية، على سبيل المثال: لو قلت لك في هذا الموطن الآن: هذه الآية مكية أو مدنية؟ وقلت: سورة التوبة مدنية، فمعرفة كون هذه الآية في هذا الموطن مكية أو مدنية، هل له أثر في فهم المعنى؟ في هذا الموطن ليس له أثر، فكوني أعرف أنها مدنية هل أثر في زيادة فهم معنى؟ أو لكونه لم أعرف هل أفقد المعنى؟ أفقد المعنى في ما لو لم أعرف ما المراد بالنسيء في هذا الموطن؟

إذًا نريد أن ننتبه إلى هذه الحيثية، أنه عندنا الآن صلب التفسير، الذي هو بيان المعاني، ثم يأتينا مرتبة ثانية بعد صلب التفسير سنتكلم عنها إن شاء الله. وهنا ما هي الأشياء التي يكون فيها بيان المعاني؟ سنأخذ أمثلة، المفردة القرآنية هل هي لازمة لبيان المعنى أو غير لازمة؟ مَا دَلَهمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ [سبأ:14]، ما هي المنسأة: العصا، لو واحد جهل معنى المنسأة هل يستطيع أن يفهم المعنى؟ لا يستطيع.

فإذًا الآن المفردة لا بد من معرفتها، يعني: هي الطريقة الأول لبيان المعنى، وهذه قد عنيت بها كتب غريب القرآن. وفي بيان المفردة قضايا كثيرة لا أحب أن أدخل فيها، لكن من باب الفائدة، في قضية بيان المفردة يحسن أن نتنبه إلى مسألة اشتقاق الكلمة من أين؟ وأيضًا ما هو المراد بها في هذا السياق، مثلًا لاحظوا الآن في النسيء، هل نحن احتجنا أن نعرف أن النسيء بمعنى التأخير، أو احتجنا أن نعرف ما هو النوع من التأخير الذي يقع به الكفر، احتجنا أن نعرف النوع، وإلا لا؟ يعني ما هو نوع التأخير الذي يقع به الكفر، أما أصلها كونها من التأخير، هذا ليس فيه إشكال عندنا، فإذًا القصد من ذلك أن نتنبه إلى أن أحيانًا قد نحتاج إلى معرفة الاشتقاق، وأحيانًا نكتفي بمعرفة اللفظة في هذا السياق، وسيأتينا إن شاء الله في حال النظر في تعبيرات السلف التنبيه على بعض القضايا المرتبطة بالمفردة، وعلاج السلف رحمهم الله تعالى للمفردة القرآنية، كيف كانوا يعالجونها.

أيضًا لاحظوا فائدة، أنه ما من آية تخلو من مفردة قرآنية، وبناءً على ذلك ما من آية تخلو من بحث لغوي، يعني ما هناك آية إلا وفيها مفردة قرآنية قطعًا، فبناءً على هذا سيكون عندنا كل آية فيها مبحث لغوي.

 

أثر سبب النزول على فهم معاني الآيات

وكذلك إذا كان في الآية سبب نزول، هل سبب النزول له أثر في فهم المعنى أو ليس له أثر؟

الأصل أن سبب النزول له أثر في فهم المعنى.. وتلحق به أيضًا قصة الآية وأثرها في فهم المعنى، مثلًا قوله:  إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]، لو لم نكن نعرف قصة النسيء، هل نستطيع أن نفسر الآية؟ ما نستطيع؛ لأن سبب النزول في الغالب هو قصة، قد يكون عن سؤال، أو حدث.

إذًا قصة الآية أو سبب النزول، لا بد منها لفهم المعنى، هذا هو الأصل، وكون بعض الآيات لها أسباب، أو لها قصة، وتفهم الآية بجملتها من دون معرفة السبب، لا يعني أننا لا نحتاج السبب.

مثال ذلك مما تفهم فيه الآية دون معرفة السبب: أول سورة الممتحنة:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]، لو قرأنا الآيات ليس فيها غموض، والنهي عن موالاة الكفار واضحة جدًا فيها، ولو لم نكن نعرف أن سبب نزول هذه الآيات هي قصة حاطب بن أبي بلتعة لما أرسل إلى كفار قريش يخبرهم بغزو الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، فلو لم نكن نعلم هذا، هل الآيات يكون فيها خفاء؟ إذا تأملنا لا نجد أن في الآيات خفاءً، لكن لا يعني هذا أن كل آية لها سبب نزول أو قصة يمكن أن نستغني عن سبب النزول أو عن القصة؛ لأن الاستغناء عن سبب النزول أو القصة في كثير من الأحيان يوقع في الإشكال.

النوع الثاني: وهذا النوع معرفة سبب النزول، أو قصة الآية مقوٍّ في الفهم، فضلًا عن أنه قد يستفاد منه فوائد أخرى, لكن نتكلم نحن الآن عن بيان المعاني، مثلًا قوله تعالى:  لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [المائدة:93] الآية، كيف فهمها قدامة بن مظعون، قدامة بن مظعون شرب الخمر في عهد عمر بن الخطاب ولما أراد أن يجلده عمر تأول الآية، قال: علامَ تجلدني، بيني وبينك كتاب الله، ثم تلا هذه الآية، قال: فأنا من الذين آمنوا، ثم اتقوا، وشهدت بدرًا، واحتج لنفسه، وعمر قال: ألا تجيبونه! فحبر الأمة ابن عباس وكان صغيرًا انبرى لهذا، وبين إنما نزلت بسبب، وهو أن بعض الصحابة سألوا عن من مات منهم في بدر في أحد؛ لأنها حرمت بعد أحد، وهي في بطونهم، ما حالهم؟ فنزلت الآية بيانًا لهذا، أن للمؤمن أن يطعم ما شاء.

مع أن قدامة بدري، ومن السابقين، ومع ذلك وقع في هذا الإشكال، ووقعت عنده شبهة؛ بسبب عدم معرفة سبب النزول. إذًا سبب النزول مهم جدًا. وقد يكون بعض الأحيان، بعض الآيات يكون المعنى فيها واضحًا، ويكون سبب النزول مقوٍ لهذا المعنى.

هناك فوائد كثيرة لمعرفة أسباب النزول، منها تحديد المعنى المراد إذا تعددت الاحتمالات، فعند تعددت الاحتمال يكون سبب النزول هو المرجح للمعنى الذي ورد به السبب، بمعنى أنه لو لم يكن عندنا سبب نزول لقلنا: يحتمل هذا ويحتمل هذا، لكن لورود سبب النزول أو قصة الآية، نقول: إن المحتمل هو هذا فقط دون غيره، وهذا يمكن أن يراجع فيه كتاب الدكتور خالد المزيني، الذي هو أسباب النزول من خلال الكتب التسعة، فقد أفاد وأجاد في مقدمة الكتاب وجاء بشيء لم يسبق إليه فيه، وكذلك في تحريره للأمثلة.

 

بيان الحكم المنصوص عليه في القرآن

نقطة أخرى بخصوص بيان الحكم، وليس استنباط الأحكام، وإنما بيان الحكم المنصوص عليه، وهذا يدخل في باب التفسير، وهذا أحببت أن أنبه عليه؛ لأن بعض من يدرس علم التفسير يفهم أن الأحكام الفقهية، أو كتب أحكام القرآن ليس لها علاقة بالتفسير، نقول: لا، الحكم المنصوص عليه في القرآن بيانه يدخل في علم التفسير، وإن كان هو في بيان حكم؛ لئلا يخرج عن علم التفسير، مثال ذلك:  وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، إذا قيل: القروء بمعنى: الطهر، أو قيل: القروء بمعنى الحيض، هذه قضية فقهية حكمية، لكن هل يعني هذا أنها ليست من التفسير، نقول: لا، بل هي من صلب التفسير.

فإذًا الذي يدخل في صلب التفسير من أحكام القرآن، هي الأحكام المنصوص عليها، أما الاستنباطات فإنها ستدخل في باب آخر، وتأتي بعد التفسير.

كذلك تخصيص العام؛ لأنه إذا كان عندنا لفظ عام، وخصص هذا اللفظ العام، فإنه أيضًا يدخل في باب التفسير، على سبيل المثال:  وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224]، هذا اللفظ عام ولو أردنا أن نفسر، فنقول: كل الشعراء لا يتبعهم إلا الغاوون، وورد التخصيص في قوله:  إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الشعراء:227]، فأخرج الآن من كل الشعراء الذين آمنوا.

إذًا يتأثر فهم المعنى في العموم، إذًا التخصيص نوع من التفسير، وكذلك الناسخ والمنسوخ، وكذلك تقييد المطلق، هذه كلها تدخل في التفسير؛ لأن فيها نوع بيان.

إذًا يمكن أن نقول: إن أي معلومة يتأثر فيها بيان المعنى، فإنها من صلب التفسير، وإذا كانت المعلومة لا يتأثر فيها بيان المعنى، بحيث أنها تكون إما مقوية للمعنى، وإما خارجة عن حد المعنى أصلًا، فهذه لا تكون من صلب التفسير.

 

الأحوال مع القرآن

الآن نأتي إلى الموضوع الآخر: الأحوال مع القرآن، وفيه أربعة قضايا:

القضية الأولى: التفسير.

والقضية الثانية: التدبر.

والقضية الثالثة: التأثر.

والقضية الرابعة: العمل.

 

الخفاء والظهور في معاني القرآن

إذا جئنا إلى التفسير، يقع عندنا سؤال: هل كل معاني القرآن ظاهرة؟ هل كل معاني القرآن خفية؟ معاني القرآن على قسمين: معان ظاهرة، يعني إما أن يكون المعنى ظاهرًا، وإما أن تكون الآية محتاجة إلى بيان، والذي يحتاج إلى بيان، إما لخفائه، يعني خفاء المعنى، إما من جهة طبعًا سبب النزول، وإما لاحتماله لأكثر من معنى، ومن أمثلة ذلك، لو قال قائل: قوله سبحانه وتعالى:  وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4]، أو  حمالةُ الحطب )) على قراءتين، لو قال: فسروا وامرأته، ماذا تقول؟ تقول: وزوجه، والا لا؟ هل أحد يحتاج أن يفسر له معنى (وامرأته)؟ ما أحد يحتاج؛ لأنه ظاهر جدًا.

لكن إذا قيل لك: إن الشافعي رحمه الله تعالى استدل من مثل هذه الآية بأن عقود أنكحة الكفار صحيحة، بمعنى لو استقدم الآن من أي دولة من الدول المجوسية مثلًا بوذي أو هندوسي أو غيره، ومن خلال عقود دولتهم، إن فلانًا هذا زوجته فلانة هذه، وجاء عندنا هنا الآن، الآن بالنسبة لنا نعتبرهم أزواج أو لا، يعني هل زواجهم بالنسبة لنا نعتبره شرعيًا وإلا ما هو شرعي؟ ما الدليل على ذلك؟ الدليل أن الله سبحانه وتعالى في مثل قوله:  وَامْرَأَتُهُ [المسد:4]، نسب أم جميل لـأبي لهب، يعني: نسبها له، فدل على صحة العقد الذي عقده هؤلاء الكفار، وهذا الملحظ دقيق جدًا، لكن هل هذه المعلومة هو استنباط؟ هل هذه المعلومة فقدها يؤثر في فهم المعنى؟ ما يؤثر في فهم المعنى. إذًا باب الاستنباطات من هذا النوع، هي في الحقيقة تدخل بعد بيان المعنى، لكن قصدي الآن أن نقول: إن بعض المعاني الظاهرة التي يمكن أن يستنبط منها، وهذا الاستنباط ليس من صلب المعنى.

والذي يحتاج إلى بيان معنى قلنا لخفائه، مثل:  تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ [سبأ:14]، ليس كل أحد يعرف معنى المنسأة، وهذا قد يكون لخفائه، والخفاء يختلف، لكن المقصد أن في الآية خفاء فيحتاج إلى بيان، مع أنه الآن (تأكل منسأته) معنى واحد، ما يختلف، المراد بها العصا، أو يكون يحتمل أكثر من معنى، وعندنا آيات كثيرة تحتمل أكثر من معنى، يعني هل المراد بها كذا أو المراد بها كذا؟ والأمثلة على ذلك كثيرة، على سبيل المثال: في مثل قوله سبحانه وتعالى:  إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237]، فقوله: (الذي بيده عقدة النكاح)، هل هو الولي أو الزوج؟ هناك خلاف، إذًا يحتمل أكثر من معنى، وما دام يحتمل أكثر من معنى فيحتاج إلى تدخل المفسر المجتهد لبيان أي المعنيين هو المراد.

إذًا في التفسير قد يكون المعنى ظاهرًا، وقد يكون المعنى مما يحتاج إلى بيان، وكونه يحتاج لبيان، إما لخفائه، يعني خفاء هذا المعنى، وإما لاحتماله لأكثر من معنى.

 

تدبر القرآن

لما نتأتي للدبر، التدبر هل هو عملية عقلية، أو عملية وجدانية؟ التدبر عملية عقلية، وما دامت عملية عقلية فهي مرتبطة بالرأي والاجتهاد، ولما نرجع إلى التفسير، هل كل التفسير مرتبط بالرأي والاجتهاد؟ إذًا بعضه مرتبط بالرأي والاجتهاد، وبعضه مرتبط بالنقل، والتفسير عندنا نقل وعندنا رأي واجتهاد، أما التدبر فأصله الرأي والاجتهاد. وهو عملية عقلية.

إذا كان التدبر عملية عقلية، فالمفسر حينما يتدبر كلام الله سبحانه وتعالى، مثل قوله تعالى:  إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237]، هذا الآن أي المعنيين صواب؟ تحتاج إلى إجراء علمية عقلية وإلا لا؟ تحتاج إلى تفكير وإلى نظر في الآية، وهذا النظر لمعرفة القول الصحيح، أو القول الأولى في الآية، هذا نوع من التدبر. إذًا الآن في هذا النوع أنا أتدبر؛ لكي أفهم المعنى، يعني الآن في هذا النوع أنا أتدبر؛ لكي المعنى  إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237]، الزوج، والدليل على ذلك كذا كذا كذا، وما تستطيع أن تعرف هذا إلا بعد أن تتأمل وتنظر، وإذا كان المعنى معلومًا، يعني ظاهرًا مثلما ذكرنا قبل قليل، أو أنك الآن فهمته على وجه معين.

التدبر بعد فهم المعنى، يدخل في الاستنباط، يعني يشترك مع الاستنباط، إذًا التدبر أوسع من الاستنباط، فالاستنباط نوع من أنواع التدبر. وهنا أعطيكم مثالًا في قوله سبحانه وتعالى:  وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107]، اختلف المفسرون في الذبيح على قولين فقط، إما إسماعيل وإما إسحاق.

لكن في قول الله تعالى:  فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، هذه الآية ما لها علاقة بإسماعيل، لكن لو قلت لك: تدبر هذه الآية واستنبط منها كون الذبيح إسماعيل، فما وجه كون الذبيح إسماعيل؟

الجواب: الله سبحانه وتعالى في هذه البشرى التي بشر بها إبراهيم، بشره بـإسحاق ومعه يعقوب، فلو كان الله سبحانه وتعالى قال له: اذبح إسحاق، فإنه ظاهر له أنه لن يذبحه؛ لأنه قد وقعت البشرى، لمن وراء إسحاق، فلا يتصور أن يطلب منه أن يذبح إسحاق، فإذًا هذا الآن المعنى بالنسبة لنا، معنى ظاهر، واستنبطنا منه إن الذبيح إسماعيل، مع أن الآية ما لها علاقة هل الذبيح إسماعيل أو إسحاق. فإذًا هذا النوع من الاستنباطـ هو في الحقيقة لا يأتي إلا من تدبر، إذًا الاستنباط هذا هو جزء من التدبر، ولو تأملنا قضية التدبر سنجد أن قضية التدبر واسعة.

إذًا التدبر الذي نريد أن نصل إليه، هو واسع جدًا، وليس له حدود، يعني التفسير لو تأملناه، نقول: هناك معنى معنيين ثلاثة معاني أربعة معاني خمسة عشرة ويقف، والمعاني تقف، لكن التأمل والتدبر في كلام الله واستنباط أشياء منه كثير جدًا ليس لها حصر، وليس لها حد، ولهذا لا زالت العلماء تفهم من كلام الله سبحانه وتعالى وتستنبط منه أشياء كثيرة جدًا، مثل استنباط العلماء في كون الذبيح إسماعيل عليه السلام.

 

التأثر بالقرآن

نأتي الآن إلى التأثر، هل التأثر عملية عقلية أو وجدانية؟ هو عملية وجدانية؛ لأنه أحيانًا بعض الناس يظن أن التدبر هو نفس التأثر، وهذا شيء، وهذا شيء، وهذه العملية الوجدانية ذكرها الله سبحانه وتعالى في قضية التأثر:  اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ [الزمر:23]، والمقصد أن هذه الآية تشير إلى قضية التأثر، وهذا التأثر الوجداني إذا تأملناه أيضًا قد يكون له سبب، وقد يكون أحيانًا يهجم على الإنسان من غير سبب.

طبعًا أسباب التأثر بالقرآن معروفة وذكرها العلماء في آداب القرآن، مثل: قضية الوضوء ومثل التبكير للصلاة، قراءة صلاة النافلة، قراءة القرآن قبل الصلاة، كل هذا لا شك أنها تؤثر حال سماع القرآن من الإمام، كذلك الإنسان مع كثرة إعمال هذه تجده أيضًا يقرأ وهو مقبل على الله سبحانه وتعالى، فتجده يتأثر بآيات القرآن.

وأحيانًا قد يهجم عليك التأثر هذا دون أن يكون هناك سبب معين، وأحيانًا قد تتأثر؛ لأن الآية التي تقرأها الآن لها مساس بحياتك اليومية، أو شيء مررت به.

إذًا أسباب التأثر متعددة، بل إن من إعجازات القرآن أن هذا التأثر حتى يصيب الكفار، وهذا معروف حتى عند كفار مكة، فقد كانوا يستمعون لهذا القرآن ويتأثرون، وإن كانوا لم يؤمنوا؛ لأن التأثر شيء، والإيمان شيء، ويجب أن لا نخلط بينهما، بمعنى أنه قد يتأثر الكافر، لكن لا يؤمن.

فإذًا المقصد من ذلك، أن هذا التأثر الوجداني شيء من إعجازات القرآن، إذا قرئ على بعض الناس يتأثر، حتى لو كان ما يعرف اللغة أصلًا، ويميز بين كلام الله سبحانه وتعالى، وبين غيره من كلام البشر، لكنه لا يدرك كيف ميز، ولا يدرك لماذا هذا أثر فيه، وهذا الكلام الثاني لم يؤثر فيه، فهذه قضية يجب أيضًا أن ننتبه لها؛ لكي لا تختلط علينا هذه القضايا. صار عندنا إذًا بيان معاني تدبر، قد يكون لبيان المعنى، وقد يكون بعد بيان المعنى، ثم تأثر كلها غير مرتبطة ببعضها.

 

العمل بالقرآن

نأتي الآن إلى القضية الأخيرة وهي العمل بالقرآن اللي هو تأول القرآن، ( لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: كان خلقه القرآن )، والمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتخلق بأخلاق القرآن، بمعنى أنه يطبق ما يؤمر به ويعمله، وما ينهى عنه يجتنبه، هذا هو معنى العمل الذي التأول، وأيضًا تقول رضي الله عنها كما في صحيح البخاري وغيره: أ( لما نزلت:  إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، قالت: كان يكثر أن يقول في سجوده: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)، إذًا يتأول معنى يطبق أوامره، ويجتنب نواهيه، هذا معنى التأول، هذه المرحلة مرحلة أيضًا مستقلة.

الآن لما فهمنا معاني القرآن وعرفناها، ما هو أثره على الواقع الذي نعيشه؟

طبعًا كل واحد منا لما يقول: من القراءات الشاذة، وهي لها معنى، قال: (صادي والقرآن ذي الذكر)، وهذه قراءة رويت عن الحسن، يقول: يعني: زن عملك بالقرآن، فأي عمل تعمله، وانظر هل هو مما دل عليه القرآن أم لا؟ أي عمل عملته هل نهى عنه القرآن أو لا؟ بمعنى أنك اجعل القرآن ميزانك، هل هذا العمل مما دل عليه القرآن أو لا؟

كل واحد منا لما يرجع إلى حياته لو كان يعاملها بهذا سيجد أنه يستطيع أن يتخلص من كثير من الأخلاق السيئة والأعمال السيئة، ويحلي نفسه بكثير من الأخلاق الحميدة، والأعمال الحسنة، ولا يمكن أن يفعلها إلا بهذا.

وهنا أيضًا قضية العمل أحب أن تنتبهوا لها أنها تأتي بالاجتهاد وبالتوفيق،  وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فباجتهاد المسلم يصل إلى هذه المرحلة، في اقتضاء العلم العمل، وبتوفيق الله سبحانه وتعالى، فإن حصل له الاجتهاد والتوفيق فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى، بمعنى: أنه لا يلزم أن كل من كان عنده علم أن يكون مطبقًا لما علم، ولهذا ذم الله سبحانه وتعالى اليهود، وقال عنهم:  غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]؛ لأنهم علموا ولم يعلموا.

إذًا عندنا الآن أربع قضايا: التفسير، والتدبر، والتأثر، والعمل. والاستنباط أدخلناه في مجال التدبر.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أصول-التفسير
اقرأ أيضا
أهمية الإعراض عن الشبهات والبعد عنها خشية الافتتان بها | مرابط
مقالات

أهمية الإعراض عن الشبهات والبعد عنها خشية الافتتان بها


إن من أعظم المجالس التي قد يبتلى بها المؤمن: مجالسة أصحاب الشبهات الذين لا يجدون شيئا للحديث فيه إلا المتشابه من القرآن وتقليب الشبهات وإن كان ظاهرا بغرض الرد عليها وفقد توالت الأخبار عن السلف الصالح بأنهم يتجنبون الشبهات بكل شكل ممكن خوفا على قلوبهم أن تفتن وفي هذا المقال توثيق لكلام كثير من السلف وأهل العلم

بقلم: عمار محمد أعظم
2043
وقفات مع قصة موسى عليه السلام | مرابط
تفريغات

وقفات مع قصة موسى عليه السلام


ولتعلم أن الذي يتوجه إلى الله عز وجل بقلبه فإنه لا يخيبه إنك لو قصدت رجلا شريفا نبيلا وقلت له: احمني فإنه لا يسلمك إلى عدوك لأن هذا هو المناسب لكرمه وحلمه ونبله وشرفه لما خرج سفيان الثوري رحمه الله هاربا من الخليفة لقيه أحد عمال الخليفة وكان رجلا جوادا كريما اسمه معن بن زائدة فلما لقيه معن وكان لا يعرفه قال له: من أنت قال: أنا عبد الله بن عبد الرحمن فقال: نشدتك الله لما انتسبت إلي لأنه بإمكان أي واحد في الدنيا أن يقول: أنا عبد الله بن عبد الرحمن فناشده الله أن ينسب نفسه

بقلم: أبو إسحق الحويني
987
سلطة التليفزيون | مرابط
اقتباسات وقطوف ثقافة

سلطة التليفزيون


إن الأطفال اليوم فظون في تعاملهم مع بعضهم البعض إذا كانوا لا يعرفون معنى الرحمة إذا ما كانوا يستهزئون بالضعفاء ويحتقرون من في حاجة للمساعدة فهل هذا يعود إلى ما يشاهدونه في التليفزيون في الحقيقة يحتل الفقراء والمساكين الشاشة الصغيرة بشكل نادر وعندما يظهرون على الشاشة فهم يقدمون في الغالب الأعم بشكل مثير للسخرية ففي التليفزيون مفتاح السعادة هو الثروة إذ نقدر الأغنياء الذين يعيشون في بيوت فخمة ويتنزهون في السيارات الليموزين اللامعة

بقلم: جون كوندري
379
شبهات حول الحجاب: الحجاب شريعة رجعية 2 | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات المرأة

شبهات حول الحجاب: الحجاب شريعة رجعية 2


كثيرا ما طرق آذان المسلمات قول صارخ منتفش ودعوى فجة مغرورة أن مطالبة المرأة العربية بارتداء الحجاب في القرن الواحد والعشرين حيث تطور العالم وبلغ في ابتكاراته العلمية الذروة وتطور المجتمع وأصبح أكثر انفتاحا ونضجا لهو دعوة صريحة إلى الانتكاس والعودة إلى القرون الوسطى عصور الظلام

بقلم: سامي عامري
842
كيف تقرأ كتابا ج1 | مرابط
تفريغات

كيف تقرأ كتابا ج1


التعليم بالقلم الذي هو من أعظم نعمه على عباده إذ به تخلد العلوم وتثبت الحقوق وتعلم الوصايا وتحفظ الشهادات ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض واندرست السنن يعني: ذهبت واضمحلت وتخبطت الأحكام ولم يعرف الخلف مذاهب السلف وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم ما يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم لما صار الناس ينسون من نعمة الله عليهم أن جعل لهم الكتاب وعاء حافظا للعلم من الضياع كا...

بقلم: محمد صالح المنجد
450
هل تؤمنين بالله حقا؟ | مرابط
المرأة

هل تؤمنين بالله حقا؟


إن المرأة التي تحرص على إبراز مفاتنها عبر منعطفات جسمها وحركة لحمها وتعصر غلائل ثوبها على بدنها إمعانا في استعراض مسالك عورتها وحجم وركها! وتفاصيل أنوثتها مقبلة ومدبرة تشتهي سماع كلمة ساقطة من شاب ساقط! أو كما قالت العرب: لا ترد يد لامس! لهي امرأة غبية حقا! إنها تختزل إنسانيتها في صورة حيوان!

بقلم: فريد الأنصاري
267