القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي الجزء الثاني

القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: يوسف سمرين

1373 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

(3)


ومن هنا يحكم مروه بأن الإسلام "جاء تطويرًا لما كان يتحرك في المجتمع الجاهلي من اتجاهه، اجتماعيًا ودينيًا وفكريًا، نحو تغيرات تاريخية" (1)، أما القرآن فيقول فيه: "إن للنص القرآني صفته التاريخية، أي الاستمرارية التطورية لإحدى الظاهرات الموجودة فعلًا في حياة الجاهلية".(2)

إن هذا التحليل جاء في إطار نسق لا يرى وجودًا موضوعيًا لإله حقيقي، إنما جاء باعتبار الإله منتجًا من التصور البشري، ذلك التصور المحكوم بالظرف الاقتصادي في المقام الأول، ويعبر عن طموحٍ هو بناءٌ فوقي لهدف اقتصادي تحتي، وهذه النظرة الميكانيكية، والوضعية للمجتمع، تجعله يحصر التأثير في التاريخ الإسلامي بالمجتمع الذي يشكل العامل الاقتصادي أساسه الأول.

على أي حال هذه النظرة مجرد اختزال في العامل الاقتصادي، ولا يرتضيها حتى بعض الماركسيين الذين يتفقون مع مروه على نفي الإله، يقول صادق جلال العظم "النزعة الاقتصادية: ومن المعروف أن خطر هذه النزعة يكمن في أنها تؤدي إلى الذيلية بحيث يصبح قسم من التركيب الاجتماعي العام (البنية الفوقية) وكأنه مجرد تابع ميكانيكي سلبي وغير فعال لقسم آخر (البنية التحتية) من التركيب نفسه".(3)

3-التوجهات الليبرالية: ترى في نظرتها إلى التاريخ أن المعايير الأخلاقية الليبرالية هي الأساس لمعيار الصواب وأنها مطلقة في كل عصر، ومن هنا فإنها تنظر بعين الإدانة لما لا يتفق التوجهات الليبرالية، ويجري تقييم الوقائع التاريخية المناقضة للمعايير الليبرالية على أنها جرائم، ومن هنا تكون القراءة التاريخية لتلك الأحداث بإرجاعها رأسًا إلى الطغيان السياسي، والخلافات العرقية، ونحو هذا، وفق هذا المسلك يجري اعتبار قتل المرتدين مثًلا على أنه في إطار "تصفيات بالجملة وتذرّع بالدين"(4)، ويجري التعامل مع المقتولين على أنهم ضحايا طغيان سياسي (5)، بدون أي افتراض بأن قانون الحكم في التاريخ الإسلامي جرى عليهم، وبالتالي يتم صبغ هؤلاء المقتولين بما لم يخطر لهم على بال، بأن آراءهم العقدية كانت جزءًا من مقاومة الطغيان السياسي، وأنهم شهداء الكلمة، وحرية الفكر، واعتبار هؤلاء كأنهم مقاتلون في سبيل الحرية بمفهومها الليبرالي، في تجاوز لحقيقة أطروحاتهم العقدية التي لو انتصرت في معاركها لأباد أنصارها خصومهم من منطلقات إدانة دينية.

هذه بعض الأمثلة على النظرة الكونية لفلسفات علمانية في نظرتها إلى التاريخ الإسلامي، أما على صعيد الإطار التحليلي والتفكيكي، الذي جاء على أثر انهيار الفلسفات الكونية فيما عرف بما بعد الحداثة، فمن روادها ميشيل فوكو، الذي كان يرى أن الأفكار نتاج المجتمع، والعقل يتحرّك داخل المفاهيم التي يستعملها مجتمع ما، بحيث إن عارض شخص ما تلك المفاهيم لم يكن ممكنًا وصف موقفه بالعادل مهما كان، كون العدالة مفهوم مأخوذة من المجتمع نفسه الذي يعارضه، إنما الأمر سلطة في مواجهة سلطة أخرى .(6)

 

(4)

وقد تم اعتماد منهج فوكو في قراءة التاريخ الإسلامي من محمد أركون، حيث يرى أن نزاع السُّلطات في التاريخ هو التي شحن النصوص الشرعية بدلالاتها، فهو الذي صنع كثيرًا مما وصف بالعلوم الشرعية، وعن طريقه تمت "بلورة الشريعة" (7)، فالشريعة المنظور إليها على أنها حكم إلهي ليست في النهاية سوى نتاج السلطات المنتصرة المتعاقبة.
فكل سلطة شكلت فرقة دينية، افترضت أن الحقيقة المطلقة واحدة لا تتجزأ(8)، وفي تصويرها لهذا، قامت بالنزاع مع السلطات الأخرى التي ادعت نفس الادعاء، وهمشتها، وقامت بحذف التراث المنافس الذي يشمل التاريخ، فتم حذف ما لم يحظ بدعامتين أساسيتين:
1-الدولة الرسمية.
2-الكتابة.

ومن هنا أبقت على تفسيرها للنصوص الذي لم يكن في الواقع سوى ما أنتجه تلك السلطة(9)، ليشكل بنفسه سلطة على غيره، لقد كانت الفرق تتصارع على التاريخ والتراث لتضمن له "السيادة العليا للتبرير، تبدو بالنسبة للمحكومين شيئًا مقدّسًا متعاليًا على السلطة السياسية المقتنصة عن طريق القوة من قبل أحد الفريقين".(10)

ومن هنا فهو يقوم بتحليل وتفتيت ما يَعتبر أنه في أذهان كثيرين لم يفكر فيه بعد (11)، ويقوم بتحطيم الهالة الكونية للأفكار التي زعمت صحتها المطلقة بكشف جذورها السلطوية عبر الصراع التاريخي الطويل، إن هذا يعني في مجمله أنه لا حقيقة مطلقة، وأن التاريخ الإسلامي إنما كتبته سلطات متنازعة انتصرت ومررت رؤيتها عبر الكتابة، ولا يمكن رفع ذلك التاريخ المسجل إلى مصاف اعتباره الحقيقة الثابتة، بقدر كونه معبرًا عن رواية رغب المنتصر في إظهارها، كما أن لهذا دلالته في النصوص الشرعية، بأنها مفتوحة على احتمالات وقراءات كثيرة، والإبقاء على معنى واحدٍ إنما هو سلطة في مواجهة غيرها، أو أنه خضوع لمنظومة صنعتها سلطات سابقة، وبهذا تكون النظرة إلى التاريخ الإسلامي مفرغة من أي دعاوى تمجيد أو أدانة، فلا تحمل في دلالتها صيغة الإطلاق، كما إنه يجعل الشريعة مجرد منظومات متنوعة تمت بلورتها عبر التاريخ، لا أنها منهجيات علمية للكشف عن معاني النصوص الشرعية.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، ص457.
  2. النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، ص457.
  3. نقد الفكر الديني، صادق جلال العظم، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت لبنان، الطبعة الثانية: 1970م، ص11.
  4. حرية الاعتقاد في الإسلام ومعترضاتها: القتال، الذمة، الجزية، وقتل المرتد، عدنان إبراهيم، معهد الاستشراق، جامعة فيينا-النمسا، إشراف: روديغر لولكار، ص1131.
  5. انظر: حرية الاعتقاد في الإسلام ومعترضاتها، 1144.
  6. انظر: تناقضات منهجية، يوسف سمرين، مركز دلائل، الرياض-المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى: 1438هـ، ص10.
  7. من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى: 1991م، ص69.
  8. انظر: الفكر الإسلامي؛ قراءة علمية، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية: 1996م، ص25.
  9. انظر: الفكر الإسلامي؛ قراءة علمية، ص24.
  10. تاريخية الفكر العربي والإسلامي، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية: 1996م، ص18.
  11. انظر: تاريخية الفكر العربي والإسلامي، ص9.

 

المصدر:

https://josefsimrin.blogspot.com/2018/07/blog-post_2.html

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العلمانية #التاريخ-الإسلامي
اقرأ أيضا
تعلمت من أوقات الفراغ | مرابط
فكر مقالات

تعلمت من أوقات الفراغ


أوقات العمل تملكنا ولكننا نحن الذين نملك أوقات الفراغ ونتصرف فيها كما نريد فهي من أجل هذا ميزان قدرتنا على التصرف وميزان معرفتنا بقيمة الوقت كله وليست قيمة الوقت إلا قيمة الحياة فالذي يعرف وقته يعرف قيمة حياته ويستحق أن يحيا وأن يملك هذه الثروة التي لا تساويها ثروة الذهب لأن مالك وقته يملك كل شيء ويصبح في حياته سيد الأحرار

بقلم: عباس محمود العقاد
4953
كلام محرج للاختلاطيين | مرابط
مقالات المرأة

كلام محرج للاختلاطيين


هل مجرد وجود الرجال والنساء في مكان واحد بغير تقارب لا يدخل في الاختلاط المحرم؟ هل المقصود بالاختلاط المحرم في كلام العلماء هو الامتزاج والتلاصق وتقارب الرجال بالنساء وذلك مثل ما يوجد في عامة الأفراح أو ما يوجد في الجامعات المختلطة من التقارب والتلاصق أو ما يوجد في الموالد؟ هل مجرد وجود النساء والرجال تحت سقف واحد بغير تقارب بأن يكون هؤلاء في جانب وهؤلاء في جانب ليس هو الاختلاط المنهي عنه في كلام العلماء أصلا؟ يجيبكم الشيخ قاسم اكحيلات.

بقلم: قاسم اكحيلات
473
فن أصول التفسير ج1 | مرابط
تفريغات

فن أصول التفسير ج1


فالموضوع الذي بين يدي: هو أصول التفسير وكما يقال الآن من المصطلحات المعاصرة لفظة التوظيف لأني سأجتهد في توظيف أصول التفسير وهي مادة نوع ما ممكن تكون متخصصة لكن سأجتهد قدر استطاعتي أن أنزل بالمعلومات إلى ما يمكن أن تستوعبه شرائح متعددة الذي علمه قليل والذي علمه كثير والذي يستوعب استيعابا سريعا والذي يكون استيعابه بطيئا

بقلم: مساعد الطيار
640
انهيار الشباب وظهور الخلل والاضطراب في أوساطهم | مرابط
فكر تفريغات

انهيار الشباب وظهور الخلل والاضطراب في أوساطهم


نقف وقفة ونسأل: لماذا هذا التباين الرهيب بين ما عليه شباب أمة الإسلام الآن وبين ما ينبغي أن يكون عليه من المؤكد أن الخطأ لم ينبع من الشباب وحدهم لكن الخطأ خطأ مركب فهذه منظومة كاملة حدث فيها نوع كبير من الاضطراب والخلل في هذه المحاضرة أحصي لكم أربعة أسباب لانهيار مستوى الشباب

بقلم: راغب السرجاني
796
مختصر قصة الأندلس الجزء السادس | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة الأندلس الجزء السادس


سلسلة مقالات مختصرة تطوف بنا حول الأندلس لنعرف قصتها من البداية حتى النهاية من الفتح إلى السقوط سنعرف كل ما دار من أحداث بين لحظة الفتح والصعود ولحظة الانهيار والأفول والهدف من ذلك أن ندرك ونعي تاريخنا بشكل جيد وأن نتعلم منه حتى نبني للمستقبل

بقلم: موقع قصة الإسلام
1638
مأساة أحد والعبقرية النبوية في التعامل معها | مرابط
اقتباسات وقطوف

مأساة أحد والعبقرية النبوية في التعامل معها


كان لمأساة أحد أثر سيء على سمعة المؤمنين فقد ذهبت ريحهم وزالت هيبتهم عن النفوس وزادت المتاعب الداخلية والخارجية على المؤمنين وأحاطت الأخطار بالمدينة من كل جانب وكاشف اليهود والمنافقون والأعراب بالعداء السافر وهمت كل طائفة منهم أن تنال من المؤمنين بل طمعت في أن تقضي عليهم وتستأصل شأفتهم

بقلم: صفي الرحمن المباركفوري
458