الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج3

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج3 | مرابط

الكاتب: سلطان العميري

1127 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

الأزمة الثالثة: التضليل المعرفي:

من أساسيات الوعي الفكري التي يمثل المساس بها انخرامًا خطيرًا في البنية التحتية: احترام الفكرة نفسها وصدق التعامل معها، وتقدير عقل المتلقي لها، ومتى ما حدث تجاوز لهذه المبادئ فإن الفكر يتوجه مباشرة إلى التضليل والتزييف والتلاعب والانحطاط والتشويه.
 
والمتابع للمنتج الليبرالي والمطلع على العملية التفكيرية التي يمارسها في تعاطيه مع القضايا التي يسعى إلى تكريسها ونشرها في الوسط الثقافي السعودي يجد أن لديه انزلاقات خطيرة في تصوير الحالة الفكرية، وفي منهجية التعامل معها، وفي طريقة تركيب النتائج واستخلاصها.
 
وقد تسببت هذه الانزلاقات في تضليل الوعي المجتمعي، وإبعاده عن الحقيقة، وإقامة حواجز غليظة تحول دون الرؤية الناضجة للواقع.
 
فالمتابع الواعي يجد أن أكثر التيار الليبرالي لا يفرق بين الغلو والتطرف وبين مظاهر التدين الصحيحة، فيبدو للعيان أنه لا يفرق تفريقًا واضحًا بين من يتبنى فكر التطرف والغلو والتكفير وبين المتدين المتمسك بالشعائر الظاهرة, وأخذ يدخل في التطرف قضايا شرعية صحيحة لا علاقة لها بالتطرف، وأخذ ينقد المتطرفين والغلاة في مسائل شرعية ليست هي سبب حصول الغلو والتطرف لديه، وهذا كله تسبب في تضليل مفتعل لا حقيقة له.
 
ويجد أيضا أن التيار الليبرالي لا يفرق بين التقدم والتطور والارتقاء الحضاري وبين منتجه الفكري والصحفي، وبالتالي فكل من ينتقد منتجه أو يتحفظ عليه سواء في قضايا المرأة أو غيرها فإنه يُصَوَّر على أنه مخالف للتقدم والتطور، وأنه معاد للمعاصرة ويدعوا إلى التخلف والعيش في الظلام، وأنه محارب للعدالة والمساواة، ولديه أزمة في علقه وقلبه!، وكل هذا نوع من التضليل الفكري المفتعل.
 
وإذا حاول المتابع أن يقوم بعملية استقرائية للصحافة الليبرالية ليتعرف من خلالها على الهموم المسيطرة على منتجها سيجد أنها في أغلبها منصبة على موضوعات محدودة جدا كموضوع عمل المرأة، والإرهاب، وآراء بعض الدعاة، وهذا الطرق المكثف والتناول المركز يؤدي إلى التضليل الفكري بشكل ظاهر ؛ لأنه يوجه المشهد الثقافي إلى خانات محددة لا تمثل كل إشكالياته الحقيقية ولا كل أزماته الملحة.
 
وإذا استمر تجوال المتابع في ساحات المنتج الليبرالي سيجد نوعا آخر من التضليل المعرفي، سيجد أن الخطاب الليبرالي انتقى نوعا من العلماء وطلبة العلم ممن يتوافق مع بعض أطروحاته وجعلهم الممثلين للنضج الشرعي، وصور للقراء بأنهم هم الذين يمثلون الاعتدال والعلم الحقيقي، وأنهم المنقذ للأمة مما تعانيه من تخلف، وسعى إلى إبرازهم وإظهارهم، بل وصل الحال إلى عقد تراجم شخصية لبعضهم.
 
وإذا حاول المتابع أن يتعرف على أسباب ذلك لا يجدها ترجع إلى التمكن العلمي، ولا إلى النضج الاستدلالي، ولا إلى الخبرة في الاستنباط، ولا إلى الإتقان في الملكة العلمية، ولا إلى الثراء في النتاج العلمي، وإنما إلى أنه قال قولا يوافق الخطاب الليبرالي، أليس هذا تضليلا للفكر وتلبيسا على المتلقي ؟!
 
وتتبدى عليمة التضليل المعرفي في مجال آخر، فإن الخطاب الليبرالي حين أراد أن يبحث عن المؤيدات الشرعية لمواقفه، قام بحملة تشريعية كبيرة، ولكنه وقع في أخطاء بحثية عديدة، نتيجةً لضعف المعرفة بالعلوم الشرعية، ونقص الأدوات البحثية لديه, من أفتكها: الانتقائية الاستدلالية، بحيث إنه لا يستقرئ النصوص الشرعية ليستخرج من مجملها حقيقة ما تدل عليه، وإنما انتقى منها ما يراه يدل على قوله.
 
ولأجل هذا لما اقتنع بعض الخطاب الليبرالي بأن النص الشرعي منفتح على كل الدلالات وأنه قابل لكل التأويلات، وأراد أن يشرعن لهذه النظرية ويبحث لها عن مستند في التراث، انتقى مقولة علي رضي الله عنه للخوارج، حين قال لهم:" إن القرآن لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال"، وتوصل من خلالها إلى أن عليًا يقول بنظرية انفتاح الدلالة، ونسي أن عليا رضي الله عنه أرسل ابن عباس ليناظر الخوارج فيما فهموه من القرآن وليبين لهم أخطاءهم، ونسي أن عليًا قاتل الخوارج لما كفروا المسلمين بناء على ما فهموه من القرآن، نسي كل ذلك وتوقف عن تلك المقولة فقط.
 
أليس هذا تضليلا للفكر وتلبيسا على المتلقي ؟!.
 
ويجد المتابع تضليلا آخر لدى الخطاب الليبرالي، فإنه يجد في المنتج الليبرالي زيادة طافحة في جرعة التضخيم للأمور إلى درجة الخروج بها عن الواقع والتصادم مع المحسوس، فقد مارس عدد من التيار الليبرالي تضخيمًا موسعًا لبعض الأفكار التي دعى إليها بعض الدعاة والشرعيين – بغض النظر عن القول بصحته أو خطئه – حتى وصل إلى درجة التمويه على عقلية القارئ والاستخفاف به، وأقرب مثال على ذلك: التشويه المفتعل الذي مورس على الدعوة إلى هدم الحرم وبنائه على شكل يحقق فك الاختلاط بين الرجال والنساء، فقد أصر الخطاب الليبرالي على تصوير هذه الدعوة على أنها دعوة لهدم الكعبة نفسها !!
 
ومن مشاهد التضليل المعرفي التي يجد لها المراقب حضورًا مكثفًا في الخطاب الليبرالي: السعي إلى تحويل عدد من الشعائر والعبادات الدينية إلى عادات اجتماعية وتفريغها من البعد الديني وربطها بالأوضاع التاريخية والمحلية ؛ حتى يسهل تجاوزها والقدح فيها، كما هو الحال في تصوير الحجاب على أنه عادة من العادات الاجتماعية وليس من الشعائر الدينية.
 
وهذه العملية التضليلية مارسها الخطاب العلماني العربي في قضايا كثيرة كقضية الميراث، وقضية الحجاب، وقضية الحدود الشرعية، وقضية الطلاق، وقضية القوامة، وقضية تعدد الزوجات، وغيرها، وهاهو الخطاب الليبرالي السعودي يعيد تلك التجربة ولكن بجرعة مخففة.
 
وإذا تابع المراقب توصيف الخطاب الليبرالي للمشاريع النقدية التي ظهرت في الفكر العربي كمشروع محمد أركون، ومشروع حسن حنفي، ومشروح محمد الجابري، ومشروع نصر حامد أبو زيد، فإنه سيقف على تضليل معرفي من نوع آخر، فبعض الخطاب الليبرالي السعودي وصف أصحاب تلك المشاريع بالأوصاف الاطرائية العالية، وصفهم بأنهم أكبر المجددين في الإسلام وأنهم من حكماء المسلمين الكبار، وأن مشاريعهم تمثل فتحا جديدا للفكر الإسلامي، وهو بذلك كله يمارس تضليلا معرفيا على عقلية القارئ ؛ لأنه لم يراع مقدار الوعي الذي وصل إليه العقل العربي ولا مقدار الحاسة النقدية التي استطاع الارتقاء إليها، ولم يلتفت إلى كمية الجهود البحثية التي قام بها الخطاب العربي بجميع أطيافه – سواء العلمانية أو الإسلامية – في نقد تلك المشاريع.
 
فالمستقرئ للساحة الفكرية يجد أن تلك المشاريع النقدية قُدِّمت حولها بحوث علمية جادة أظهرت ما فيها من الخلل المنهجي الغائر في البنية المعرفية والبحثية لديها، وأبرزت ما احتوت عليه من الأخطاء التاريخية والتراثية، وأبانت ما فيها من المخالفة الصريحة لقطعيات الإسلام، وما تضمنته من الانزلاقات الاستدلالية والنتائجية، وكشفت مقدار التحريف الذي وقعت فيه سواء في التراث العربي أو الغربي، وبينت آثارها الفكرية المدمرة للفكر والمعرفة، ولكن الخطاب الليبرالي يتعالى على كل هذه الجهود وكأنه ليس لها وجود!
 
إن شيوع هذه الممارسات التضليلية في الساحة الفكرية له آثار سلبية مميتة، فهي من أقوى الأسباب التي تؤدي إلى حدوث القلق والفوضى بأنواعها، فوضى في تصوير أقوال الآخرين، وفوضى في موزين النقد والتقييم، وفوضى في بناء المواقف وتركيب النتائج.
 
 


 

المصدر:

http://www.saaid.net/mktarat/almani/90.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية #السعودية
اقرأ أيضا
انهيار الشباب وظهور الخلل والاضطراب في أوساطهم | مرابط
فكر تفريغات

انهيار الشباب وظهور الخلل والاضطراب في أوساطهم


نقف وقفة ونسأل: لماذا هذا التباين الرهيب بين ما عليه شباب أمة الإسلام الآن وبين ما ينبغي أن يكون عليه من المؤكد أن الخطأ لم ينبع من الشباب وحدهم لكن الخطأ خطأ مركب فهذه منظومة كاملة حدث فيها نوع كبير من الاضطراب والخلل في هذه المحاضرة أحصي لكم أربعة أسباب لانهيار مستوى الشباب

بقلم: راغب السرجاني
511
مشكلة إطلاق البصر | مرابط
مقالات

مشكلة إطلاق البصر


كم من امرأة أطلقت نظرها وقلبها وخيالها على رجال فأفسدت حياتها مع زوجها وإن لم تكن متزوجة فهو ضرر عظيم أيضا حيث يشغل تفكيرها بما لا ينفع ويشتت عقلها وربما أدخلها في مشاهدة الحرام ويجعلها تطلب صورة مثالية متخيلة لزوج المستقبل تفسد عليها اختيارها لمن يتقدم لها وهذا حصل كثيرا

بقلم: حسين عبد الرازق
91
محاسن الإسلام في الأبواب التي يلج منها المشككون فيه | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

محاسن الإسلام في الأبواب التي يلج منها المشككون فيه


إذا تأملنا في الشبهات المثارة ضد تشريعات الإسلام وأحكامه العملية فإننا نجد أنها تمر -في الغالب- من ثلاثة أبواب: وهي الجهاد والمرأة والحدود وإذا أمعناالنظر في كل باب من هذا الأبواب من جهة مقاصدها التشريعية وتفصيلات الأحكام المتعلقة بها فسنجد فيها من الحكمة والحسن والجمال ما يصح لنا أن نفخر به لا أن نواريه ونخجل منه

بقلم: أحمد يوسف السيد
594
المعصية تورث الذل | مرابط
اقتباسات وقطوف

المعصية تورث الذل


يظن كثير من المسلمين أن المعاصي لا تترك أثرا على نفس المسلم وهذا الظن يدفع يهون المعصية في قلوب الناس بشكل عام والحقيقة على خلاف ذلك تماما فالمعاصي لها آثار قاتلة إذا لم ينتبه إليها المسلم ومن هذه الآثار أنها تورث الذل وبين يديكم مقتطف من كتاب الداء والدواء حول الأمر

بقلم: ابن القيم
411
هداية الإنسان إلى الاستغناء بالقرآن | مرابط
مناقشات

هداية الإنسان إلى الاستغناء بالقرآن


جعل ابن المبرد كتابه في مئة فصل وهي تدور على ثلاثة أضرب: الأول في التشويق للقرآن وتدبر علومه وبيان فضائله وحال السلف معه. والثاني: ذكر بعض المباحث في علوم القرآن والتفسير وهي قليلة. والثالث: أحكام التلاوة والقيام بالقرآن وآداب القراءة والاستماع ووجوه الانتفاع بالقرآن وتعظيمه وتحليته وتعليمه.

بقلم: عبد الله الوهيبي
144
الخلل الذي وقع فيه كثير من المتكلمين في حقيقة التوحيد | مرابط
مناظرات مناقشات

الخلل الذي وقع فيه كثير من المتكلمين في حقيقة التوحيد


المتكلمون غلب عليهم الاشتعال بتفاصيل توحيد الربوبية والأسماء والصفات على توحيد الألوهية فذكرهم لما يتعلق به كثيرا جدا. ومن خلال هذا البيان يتضح لك أن المتكلمين لم يعقلوا توحيد الألوهية ولم ينكروه وإنما أغفلوا الاشتعال به

بقلم: د. سلطان بن عبد الرحمن العميري
140