
أصول الخلل الذي وقع فيه كثير من المتكلمين في حقيقة التوحيد، يتحصل في الأمور التالية:
الأمر الأول: تقليص دائرته، فإن كثبرا منهم جعل دائرته مقتصرة على إثبات معنى الربوبية والأسماء والصفات، وهذا خلل كبير، فدائرة التوحيد أوسع من ذلك، فإن من أهم ما يدخل فيها توحيد الله تعالى في استحقاقه للعبادة وإفراده بها دون ما سواه.
الأمر الثاني: الانحراف في حقيقة ما أثبتوه من أنواعه، ومعنى ذلك أنه مع تقليص كثير من المتكلمين لدائرة التوحيد إلا أنهم لم يصيبوا تمام الإصابة فيما أثبتوه، وإنما دخل عليهم الخلل من جهات كثيرة، فلم يجعلوا توحيد الربوبية فطريا، ولم يثبتوا تمام صفات الله تعالى، ولم يصيبوا في أدلة ما أثبتوه.
الأمر الثالث: اعتقاد كثير منهم الترادف بين الربوبية والألوهية، وذلك بجعل الإله والرب بمعنى واحد، ونفسيرهم للإله بأنه القادر على الاختراع، وقد سبق مناقشة ما في هذا الأمر من حلل.
وقد جاء في بعض كلام ابن تيمية ما يشير إلى أنه قول لجميعهم، ولكنه بين في مواضع أخرى أنه قول لبعضهم، فإنه قول لبعض المتكلمين، كبعض متقدمي الأشاعرة وكثير من المتأخرين منهم وليس قولا لجميعهم، فإن بعضهم فق بين معنى الربوبية والألوهية واستدل بالأول على الثاني كما سبق بيانه.
الأمر الرابع: تغليب الاهتمام بالربوبية على الألوهية، ومعنى ذلك أن المتكلمين غلب عليهم الاشتعال بتفاصيل توحيد الربوبية والأسماء والصفات على توحيد الألوهية، فذكرهم لما يتعلق به كثيرًا جدًا.
ومن خلال هذا البيان يتضح لك أن المتكلمين لم يعقلوا توحيد الألوهية ولم ينكروه، وإنما أغفلوا الاشتعال به، والناظر في مصنفات المعتزلة والأشاعرة والماتريدية يجد مادة واسعة في بيان حقيقته وشرح أدلته وبراهينه وذكر لعدد من التفاصيل المتعلقة به، ولكنها لا تساوي ما فيها من مواد متعلقة بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات ولا تساوي منزلته في دين الله تعالى.
الأمر الخامس: الانحراف في تحديد غايته، فقد جعل كتير منهم أعلى ما في التوحيد إثبات وحدة الله تعالى في ربوبيته، يقول محمد عبده في تعريف التوحيد: “وسمي بذلك بأهم أجزائه، وهو إثبات الوحدة لله تعالى في الذات والفعل في خلق الأكوان”
الأمر السادس: الانحراف في معنى التوحيد في اللغة، وذلك أن كثيرا من المتكلمين يجعلون من معاني التوحيد في اللغة ما لا ينقسم، أو ما ينفى عنه الصفات، وفي بيان هذا الخلل يقول ابن تيمية: "ليس في كلام العرب بل ولا عامة أهل اللغات أن الذات الموصوفة بالصفات لا تسمى واحدًا ولا تسمى أحدًا في النفي والإثبات بل المنقول وبالتواتر عن العرب تسمية الموصوف بالصفات واحدا وأحدا حيث أطلقوا ذلك ووحيدا قال تعالى: "ذرني ومن خلقت وحيدا" وهو الوليد بن المغيرة.
وقال تعالى: "فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف"، فسماها واحدة وهي امرأة واحدة متصفة بالصفات بل جسم حامل للأعراض، وقال تعالى: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله"، وقال تعالى: "قالت إحداهما يا أبت استأجره"، وقال تعالى "أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى" .. فإن كان لفظ الأحد لا يقال على ما قامت به الصفات، بل ولا على شيء من الأجسام التي تقوم بها الأعراض ﻷنها منقسمة، لم يكن في الوجود غير الله من الملائكة والإنس والجن والبهائم من يدخل في لفظ أحد، بل لم يكن في الموجودين ما يقال عليه في النفي أنه أحد"
المصدر:
د. سلطان العميري، المسلك الرشيد في شرح كتاب التوحيد