بين مقاصد الشريعة ومقاصد النفوس

بين مقاصد الشريعة ومقاصد النفوس | مرابط

الكاتب: د فهد بن صالح العجلان

2026 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أصل الإشكالية

(نحن بحاجة إلى إعادة النظر في هذا الحكم حسب المقاصد الشرعيّة) و(لا بدّ من مراعاة المقاصد الشرعية عندما نتحدّث عن هذه القضية).
وعبارات أخرى مختلفة، ستراها –ولا بدّ– عند أي رؤية منحرفة تتعامل مع النصوص والأحكام الشرعيّة، فعامّة الانحراف المعاصر حين يتعامل مع النصوص والأحكام الشرعية الجزئية فإنه لا بدّ في سياق تجاوزه لأي حكم وإنكاره له أن يرفع لافتة (المقاصد الشرعيّة) كتصريح شرعيّ للمارسات غير الشرعيّة.
 

المقاصد الشرعية

المقاصد الشرعيّة التي كتب فيها فقهاء الإسلام بدءًا من الجويني والغزالي والعزّ بن عبد السلام والقرافي وشيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي تختلف اختلافًا تامًّا عن هذه المقاصد التي يشيع كثير من الناس الحديث فيها، فالمقاصد عند فقهاء الإسلام قواعد كليّة مستخرجة من استقراء كلّي لكافّة النصوص والأحكام الجزئية، ولا يصحّ أن يردّ بها أي حكم أو نصّ جزئي، بخلاف هذه المقاصد التي تترجم المقاصد التي تريدها (نفوسهم) وتميل إليها (اختياراتهم) ويسعون من خلالها لردّ جملة من النصوص والأحكام  غير المرغوب فيها.

من أهم قواعد المقاصد الشرعيّة أنّ لا يردّ بها أي حكم جزئي، فإذا ثبت نصّ شرعي أو حكم فقهي فلا يجوز أن ينقض ويتجاوز بدعوى أنه مخالف لقاعدة مقاصديّة  فهذا باطل لا علاقة له بعلم المقاصد (فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًا ليس بحقّ في نفسه) ([1])

وإذا كانت المقاصد الشرعية تقوم على ضرورة اعتبار (الكليّات) فإنها تقوم على اعتبار الجزئيات كذلك (كما أنّ من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليّه فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه) ([2])
 
 فالمقاصد الشرعية تعتمد على تفاصيل الأحكام الجزئية، تقوم عليها، ولا تنكرها، بل حتى ولو وجد تعارض بين قاعدة مقاصديّة وحكم جزئي تفصيلي فإن المنهج الصحيح في ذلك ليس إنكار الجزئي بل  (إذا ثبت بالاستقراء قاعدة كليّة ثم أتى النصّ على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة فلا بدّ من الجمع في النظر بينهما) ([3])
 

تعارض الكليات والفروع

فإذا وصل الأمر إلى حصول تعارض بين (الكليات) و ( الفروع) فهذا يستدعي الجمع بينهما لأهمية كلّ من الكليات والفروع التفصيلية، وهو شيء لا يفهمه (مقاصديّو النفوس) حيث ينكرون النصوص والأحكام الشرعية ثمّ يبحثون بعد هذا عن الطريقة المقاصدية المناسبة لرفض مثل هذه الأحكام!

لقد كان الشاطبي مدركًا غاية الإدراك خطورة استعمال المقاصد من غير المؤهلين،  ولأجله منعهم من  موافقاته وجعلهم في حرج من قراءته أو الاستفادة منه (لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريّان من علم الشريعة أصولها وفروعها معقولها ومنقولها) ([4])
 
كما أطال الحديث عن ضرورة العناية بالجزئيات، وأن المقاصد لا تقوم إلا عليها، وهذا كلّه لإدراكه أن طبيعة المقاصد وما فيها من كليات عامة يستدعي دخول غير المؤهلّين واستغلال بعض المنحرفين مما يؤدّي إلى تعطيل الشريعة، وهذا ما دعا بعض المنحرفين الذين يفهمون حقيقة المقاصد الشرعيّة أن يسمّي المقاصد بأنها (تبرير) للأحكام الشرعية ليس إلإ، وقد صدق، فالمقاصد ليست إلا بحثًا عن (فلسفة) لقواعد وعلل للشريعة من خلال الأحكام والنصوص، فإذا وجد نصّ مخالف فإن المقاصد تعدّل في (الفلسفة) حتى تدخل هذا الحكم لا أن تلغيه لمخالفته للمقاصد.
 

المقاصد وإسقاط الأحكام الشرعية

إنّ دعوتهم للأخذ بالمقاصد لإسقاط بعض الأحكام الشرعية يؤدّي إلى نسف الشريعة بكاملها، وتعطيل كافّة أحكامها، وإسقاط قطعياتها وضرورياتها، وليس عسيرًا على أي أحد أن ينفي أي حكم شرعي ويربط ذلك بمقاصد عليا، وقد مارس المعاصرون في ذلك من ألوان العدوان على الأحكام الشرعية ما لا يحصيه إلا الله، فـ (الحدود الشرعية) منافية لمقصد الشريعة في الرحمة وإشاعة الامن و(حدّ الردةّ) منافٍ لمقصد الشريعة في التسامح والحريّة  و(الحجاب) منافٍ لتكريم المرأة و(كلّ فتوى بتحريم أي حكم) تنافي مقصد الشريعة في التيسير ورفع الحرج و(الحكم بكفر من لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم) يتعارض مع مقصد إرساله رحمة للعالمين و(حرمة الربا) أو (منع المحرّمات) يؤدّي إلى حصول حرج ومشقة تنافي مقصد الشريعة.

ولأجل ذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية بصيرًا بأمر عموميات المقاصد حين قال: (فمن (استحلّ أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلًا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر). ([5]) فهذه المقاصد الكلية تتسم بالعمومية المطلقة التي يشترك فيها عامة الناس، فاختصاص الشريعة إنما يكون بتفصيل هذه المقاصد وشرحها وتقييدها فإذا ألغى الإنسان الاعتبار بها  لم يكن قد أخذ من الشريعة بشيء.
 
وهكذا تغيب أحكام الشريعة الجزئية، بسبب مخالفتها لمقاصد (النفوس) كما يسمّيها بعض الفضلاء، فهي مقاصد لما تريده نفوسهم وأهواؤهم وما يتوافق مع شهواتهم جعلوها قواعد كليّة تحاكم إليها النصوص والأحكام الفقهية، وتلك (النفوس)  تكاد تحصر مقاصدها في الجانب الدنيوي المحضّ، وهو ما يختلف تمامًا عن المقاصد الشرعيّة المستفادة من نصوص الكتاب والسنّة  التي تدلّك على أنّ (الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية) ([6])    
 
بل إن المصالح الدنيوية تابعة للمصالح الأخرويّة  فـ (المصالح المجتلبة شرعًا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية). ([7])

وإذا كان إشاعة علم المقاصد الشرعية ضروريًا في مرحلةٍ ما لشيوع التعصّب والجهل والتضييق على الناس فإنّ المبالغة في تقرير المقاصد الشرعيّة وإشاعتها وتعظيم قدرها وضرورتها عند عامة الناس  وقد اختلف الحال سيكون على حساب تعظيم النصّ الشرعي والانقياد له، وسيكون سببًا لظهور مقاصد النفوس لتشيع عبثها وانحرافها بدعوى (مقاصد الشريعة).

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. الموافقات للشاطبي 2/556
  2. الموافقات 3/8
  3. الموافقات 3/9
  4. الموافقات  1/78
  5. منهاج السنة النبوية 5/130
  6. الموافقات 2/350
  7. الموافقات 2/351

 

المصدر:

  1. د. فهد بن صالح العجلان، معركة النص، المجموعة الثانية، ص52
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#معركة-النص #مقاصد-الشريعة
اقرأ أيضا
بواعث تقوية الدين | مرابط
تعزيز اليقين

بواعث تقوية الدين


أن يعلم العبد بأن فيه جاذبين متضادين ومحنته بين الجاذبين جاذب يجذبه إلى الرفيق الأعلى من أهل عليين وجاذب يجذبه إلى أسفل سافلين فكلما انقاد مع الجاذب الأعلى صعد درجة حتى ينتهى إلى حيث يليق به من المحل الأعلى وكلما انقاد إلى الجاذب الاسفل نزل درجة حتى ينتهى إلى موضعه من سجين ومتى أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق الأعلى أو الأسفل فلينظر أين روحه في هذا العالم فإنها اذا فارقت البدن تكون في الرفيق الأعلى

بقلم: ابن القيم
424
إشكالية المثلية الجنسية لدى الذكور | مرابط
الجندرية

إشكالية المثلية الجنسية لدى الذكور


السحاقيات أقل إخلاصا لشريكاتهن من السيدات المغايرات جنسيا.. الاختلاطات الجنسية كما ذكرنا في العديد من الدراسات تظهر وجود الاختلاطية الجنسية والاتصال الجنسي مع مجهولين هذا جزء من الثقافة العلاقات قصيرة الأمد عدم التوافق الطبيعي.

بقلم: د. جوزيف نيكولوسي
731
مسالك الهوى | مرابط
اقتباسات وقطوف

مسالك الهوى


مقتطف جميل للعلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني من كتاب القائد إلى تصحيح العقائد يشير فيه إلى الهوى وكيف أن له مسالك دقيقة قد تتسلل إلى الإنسان حتى من أبواب الخير أو من الأمور التي ظاهرها فيه خير وصلاح ونفع له ولغيره ولكن الهوى مع ذلك يجد طريقه إلى القلب من أدق وأخفى المسالك

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
2215
الوجود الصهيوني: بين العنف وسياسة الإحلال | مرابط
اقتباسات وقطوف

الوجود الصهيوني: بين العنف وسياسة الإحلال


والكيان الصهيوني غرس غرسا في فلسطين ليلعب دورا قتاليا ضد المنطقة العربية وعلى مستوى من المستويات يمكن القول إن المشروع الصهيوني كان يهدف إلى نقل الفائض البشرى اليهودي من أوروبا إلى فلسطين وتحويله إلى مادة قتالية تخدم المصالح الغربية

بقلم: عبد الوهاب المسيري
559
موقف من حياة سيدنا عمر رضي الله عنه | مرابط
تفريغات

موقف من حياة سيدنا عمر رضي الله عنه


إن كل من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم فهو داع إلى الله وهو آمر بالمعروف وناه عن المنكر ولهذا كان الصحابة الكرام جميعا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر وأول وأعظم من كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هم أعظم أكابر الصحابة في الإيمان والتقوى كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما

بقلم: سفر الحوالي
484
الإلحاد ورد الإنسان إلى البهيمية | مرابط
الإلحاد

الإلحاد ورد الإنسان إلى البهيمية


لقد ترك الملاحدة للداروينتة صياغة صورة حقيقة الإنسان وصناعة مراحل تاريخه وهو أمر يظهر بوضوح في جميع أدبياتهم عند مناقشة قضايا نظرية المعرفة والقيم ومعنى الحياة والفكاك عن ذلك -إلحاديا- محال لأن رفض الداروينية أو أي صورة أخرى من صور التطور العشوائي للكائنات الحية

بقلم: د سامي عامري
516