في مقابل سماحة الأتراك أبلغ نابليون فرسان مالطة أن على كل من هو دون الستين مغادرة الجزيرة خلال ثلاثة أيام دون أن يحمل أحدهم أكثر من 240 فرنكا لنفقات السفر، واستثنى من قرار الطرد ثلاثة وأربعين فارسا كلهم من الفرنسيين دون الثلاثين. وكان بونابرت قد أقنعهم بالتطوع في الجيش الفرنسي بمصر، وسبعة عشر موظفا آخرين في الطريقة لم يكونوا كلهم فرسانا رسميين، ساعدوا الفرنسيين بطرق شتى.
ويمكن اعتبار قائمة هؤلاء السبعة عشر أول قائمة مدونة للطابور الخامس في العصر الحديث -على حد تعبير هيرولد- ولم يفز البارون فون هومبش حاكم الجزيرة ورئيس طريقة الفرسان الذين يحكمون الجزيرة إلا بوعد كاذب بمعاش، ظل ينتظر ست سنوات إلى أن تسلم الدفعة الأولى منه
نعود إلى موقف الأتراك.. يقول هيرولد: إن فرسان القديس يوحنا بعدما انسحبوا هذا الانسحاب الكريم الذي تفضل به السلطان المنتصر انتقلوا من جزيرة رودس إلى جزيرة مالطة ليصبحوا بعد ذلك شجى في حلق التجارة والأساطيل الإسلامية، ومصدر خطر وقلق وقرصنة في شرق البحر الأبيض المتوسط. ويقول هيرولد: إن السلطان سليمان ندم على سمحاته وحاول غزو جزيرة مالطة في عام 1565 وفقد تحت أسوارها 30000 تركي بطلقات الذين أطلق هو سراحهم، ثم أجبر على رفع الحصار.. وواصل أحفاد الطلقاء حربهم الصليبية الدائمة على المسلمين في البحر الأبيض المتوسط.
ربما ندم السلطان سليم على استخفافه بشأن أسراه، ولكنه لا يملك الندم على سماحته واحترامه للعهد الذي منحه. فهذا هو خلق أصيل من أخلاقيات حضارتنا، وهذا هو ما تعلمه الأتراك من الإسلام، ومهما تكن النتائج الوقتية، فإن أخلاقياتنا هي المبرر الأول لوجود حضارتنا، ومبرر استمرارها وحافز السعي لبعثها.
كان الغزاة قد فرغوا لتوهم من الاستيلاء على جزيرة مالطة، وحرروا كشوفًا رسمية بما استولوا عليه من كنوز بعدما قاموا بنهب وسلب جزيرة جوزو عن آخرها بعد أن أخلى السكان بيوتهم. وعادوا إلى السفن يحملون ما نهبوه وينشدون الأناشيد الثورية الجماعية، مؤكدين بذلك هذه الازدواجية التي تتميز بها الثورية الغربية.. فهم ثوريون يتغنون بالأناشيد الثورية في شوارع باريس، بل وعلى ظهر البوارج الفرنسية.. ولكنهم لا يجدون أي تناقض بين المقاطع التي تتغنى بالحرية والإخاء والمساواة، والتي ترددها حناجرهم الجماعية وبين ذبح الشعوب غير الفرنسية واحتلال بلادها ونهب ممتلكاتها.
هذه الازدواجية هي التي مكنت أوربا من إنجاز تطورها في اتجاهين: تحرير مجتمعها، واستعمار مجتمعات الآخرين بذات الجماهير التي قاتلت الاستبداد في بلادها، وفرضت الاستبداد والعبودية على الشعوب الواقعية جنوب أو شرق خط الجنس المتحضر.. أو خارج خط الالتزام بالسلوك الإنساني.
يبدو أن صناع الثورة الفرنسية قد اضطروا إلى وقف غنائهم، وإنزال غنائمهم إلى الأرض والوقوف بانتباه ليستمعوا إلى المنشور الذي أصدره نابليون والبوارج تقترب من الأسكندرية (28 يونيه 1798):
أيها الجنود!
"إنكم موشكون على فتح له آثار بعيدة المدى في حضارة العالم وتجاربه، وستطعنون إنجلترا طعنة تؤذيها لا محالة في أضعف مواطنها.. انتظارا لليوم الذي تسددون فيه إليها الطعنة القاتلة"
"ولن تنقضي على نزولنا البر أيام حتى نقضي على بكوات المماليك الذين لا يراعون غير التجارة الإنجليزية، والذين يظلمون تجارنا بمعاكستهم والذين يستبدون بأهل وادي النيل الأشقياء"
ولا ندري كيف لم يجد هيرولد هذه الخطبة البليغة الجواب عن تساؤله: كيف كان يمكن لهذا المنشور أن يفسر للجندي العادي السر في إرساله إلى مصر
"لطعن" إنجلترا منافسة فرنسا.. لضرب البكوات المماليك الذين لا يراعون غير التجارة الإنجليزية.. أليس هذا سببًا كافيًا لتبرير حملة أوروبية في القرن التاسع عشر، وإلهاب حماسة الجند حتى ولو كانوا هم أنفسهم الذين ساهموا في تحطيم الباستيل!
والمنشور بعد ذلك يدعو الجنود لاحترام دين البلاد كما يحترمون دين موسى ودين المسيح، ويقنعهم بأن السلب الفردي لا يثري منه إلا الأقلون.. بينما يقضي على مواردنا.. وهو بذلك يشرح مزايا السلب المنظم الجماعي على مستوى الأمة، بدلا من السلب الفردي، ولا شك أن الحق مع نابليون في ذلك.
