المدنية المادية وهل أفلست في إسعاد البشرية

المدنية المادية وهل أفلست في إسعاد البشرية | مرابط

الكاتب: أبو الوفا المراغي

7712 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

وفِّق العلماء في الثلاثة القرون الأخيرة إلى مخترعات كانت مثارًا للدهش والاستغراب، فخيل إلى الناس أن حلم السعادة المنشودة قد تحقق، وأن البشرية تستقبل عصرًا مملوءًا بالهناء والرخاء، وأنها لن ترى بعد ذلك بؤسًا ولا شقاء، وأن نعيم الآخرة الذي وصف في الكتب السماوية سيتحقق في هذه الحياة، فعظم شأن العلم الطبيعي في أعينهم، ووسموا هذا العصر بعصر النور، وعنوا بالنور نور المعرفة والعلم، وغفلوا عن أن الذي يفتنهم من هذه المدنية هو الجانب الصناعي، وهو كما ولَّد الوسائل والآلات المعينة على تسهيل الحياة، وتخفيف الآلام ولَّد بجانبها البوارج والمدمرات والغواصات والطيارات والقنابل الهادمة والمحرقة والمهلكات من جميع الأنواع.

 

هذه هي أهم مظاهر المدنية التي اغتبط بها الناس، وظنوا بها خيرًا؛ ولكنها لم تحقق الظن فيها، فلم تفتح لهم بابًا من أبوب السعادة إلا فتحت عليهم أبوابًا من الويلات لم تعهدها البشرية في تاريخها، فما أن أخذت هذه المخترعات مكانها من الوجود وتميزت وظائفها وتوزعتها الدول، كلٌّ على قدرها، حتى تجاوبت نذر الحروب، فشهد الناس تلك المخترعات الجهنمية تصبُّ الحديد والنار في البحر والجو، وفي الأرياف والأمصار، وفي كل بقعة من البقاع حتى لم يبق بها ملاذ يعتصم به النساء والولدان وأنَّى يكون ملاذ، وقد سلطت الطائرات على الناس تمطرهم بوابل من القذائف، بلا تمييز بين محارب ومسالم، وشيخ وشاب، وسليم ومريض، وبلا رقيب ولا محاسب، وسلطت الغواصات والطرادات على مراكب المسافرين، وسفن التجارة في البحار، تغرق وتحرق ما تظفر به، من غير مبالاة بما تحمل من إنسان أو بضاعة!

 

وجعلت السيارات تنقل عُدد الحرب وعتاده، وتحمل أوزارًا من الذخيرة والجنود إلى ميادين الحرب أو إلى المجازر البشرية التي أحدثتها المدنية المادية، وحوَّلت المصانع بأنواعها إلى مصانع حربية، وزاحمت مظاهر الحرب مظاهر السلام، حتى أصبح العالم كله في تناحر وصيال.

 

كان الناس إلى ما قبل ربع قرن يعرفون أن معنى الحرب أن جنود الأمتين المتخاصمتين يقتتلون في ساحات معينة، فمن هزم خصمه أملى عليه الشروط التي يرضاها، لا أن يصبح جميع أفراد الأمم في خطوط النار حتى الهرمى والزمنى والنساء والأطفال، وكانوا يعرفون أن هناك معاهدات تحترم، وقوانين حربية لا تنقض، تحترم فيها حياة الزمنى والهرمى والنساء والولدان.

 

ولكنا لم نعتم أن رأينا الحرب قد انقلبت إلى تناحر حيواني بين الجماعات، قد أهدرت فيها هذه النظم، ثم انقضت تلك الحروب وخلَّفت الفوضى في نواح كثيرة بدرجة كبيرة حتى فشا الإلحاد والزندقة، وتدهورت الأخلاق، فشاع التهتك بين الرجال والنساء، وتمردوا على العادات الصالحة، والتقاليد الكريمة، وأُسيء فهم الحرية، فخيل لأهل الأهواء أن كل منكر يمكن أن يُرتكب باسم الحرية، وتحلَّل الناس من الفضائل باسم المدنية، وانعكست موازين الأشياء في نظر الناس، فصار التدين رجعية، والاحتياط لصيانة العرض رجعية، ومراقبة الأبناء في تربيتهم رجعية، وهكذا عملت المدنية المادية في الأمم عمل السوس ينخر في العظام، حتى تهدَّم كيانها، وانتقض بنيانها، ثم استفاق عقلاء الأمم على أنَّات الألم، وصيحات الفزع من هذه الأحوال، وحاولوا جبر الصدع، ورمَّ الرثِّ، فعقدت المؤتمرات للنظر فيما أعقبته الحرب من هذا التطور الشديد الخطر على الاجتماع، وعلى السلام العام، رجاء توجيهه الوجهة النافعة للبشرية.

 

وفي هذه الأثناء كانت المخترعات تسير في طريق الإتقان والكمال، وكان أسرعها سيرًا في هذا الطريق المخترعات الحربية، وكان كثير من الأمم في غفلة عما وراء ذلك التقدم من خطر وشرٍّ، وكانت تعلِّل النفوس بسلام يطول أمده، ويحلو مذاقه، وبينما تسبح الأمم في هذا الخيال إذا الحرب الحاضرة تقرعهم قارعتها، وتقوم عليهم قيامتها، وإذا هم يسمعون ويشاهدون من الأخطار والأهوال ما يقصر دون وصفه الخيال.

 

لهذا أجمع العقلاء بعد ما بلوا هذه المدنية المادية وابتلوا بها، أنها قد أفلست في إسعاد البشرية، وذهبوا في تعليل ذلك مذاهب شتى، أقربها إلى الصواب أن تلك المدنية إنما أفلست؛ لأنها فقدت أهم العناصر للوصول إلى هذه الغاية، وهو العنصر الروحي، أو عنصر الدين؛ فالمدنية إن لم تنتظم هذا العنصر فلن تصل إلى غايتها أبدا، ذلك أن الدين يطهر النفوس من الأدران والأضغان، ويكسر شرَّة الأطماع، ويحرم التطاول والطغيان، ويزيل الفوارق بين الأجناس والألوان، وينظم العلاقات بين الأفراد والجماعات، ويقيمها على أسس العدل والمحبة والتعاون، ويحرم سفك الدماء إلا بحق، لا لمجرد الهوى والتسلط، ويريح النفوس القلقة مما تراه من التفاوت في الأرزاق والدرجات، ويندب إلى المثل العليا في الفضائل والآداب.

 

تلك هي بعض مزايا الدين الذي تنبَّه العقلاء- بعد أن صهرتهم المحن وكرثتهم الخطوب- إلى وجوب توافره في بناء المدنية.
وقد يكون مما يؤذن بالخير، ويبعث على الأمل في المستقبل القريب، أن شعور هؤلاء لا يزال في ازدياد. وفي الظن أنه لا تنجلي الظلمات الحاضرة حتى يستتم يقينهم بضرورة الدين كعنصر هام في مدنية يجب أن يسودها الأمن والسلام.

 


 

المصدر:

مجلة الأزهر- الجزء السادس- المجلد الثاني عشر- 16 جمادى الآخرة سنة 1360هـ

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#المادية
اقرأ أيضا
شبهة تشابه الإسلام مع الزرادشتية | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة تشابه الإسلام مع الزرادشتية


إن الزرادشتيين المتأخرين الذين كانوا يعيشون في الدولة الإسلامية هم من سرق شرائع الإسلام ووضعوها في كتبهم وهذا مثل الترجوم الثاني لإستر في الديانة اليهودية فأصله قديم إلى ما قبل الميلاد لكن النسخة التي يأخذون منها التشابه مع الإسلام تعود إلى ما بعد الإسلام بقرون وقد أثبت علماء التوراة اختلاف النسختين وعدم وجود التشابه مع القرآن في النسخة الأقدم وكذلك في الزرادشتية فهؤلاء قوم يعدلون كتبهم كل فترة

بقلم: موقع هداية الملحدين
756
العلم | مرابط
اقتباسات وقطوف

العلم


مقتطفات متفرقة عن أربعة من العلماء يظهر فيها قدر العلم عندهم وحقيقته التي قد يغفل عنها الكثير من الناس فليس العلم أبدا هو كثرة الرواية أو كثرة الحفظ ولا يكون العلم علما إلا إذا أثمر طاعة وانقيادا إلى الله عز وجل وهربا من الهوى والبدعة وأصحابهما

بقلم: مجموعة علماء
1605
هل يحق للنسويات انتقاد وضع المرأة في الإسلام؟ | مرابط
النسوية

هل يحق للنسويات انتقاد وضع المرأة في الإسلام؟


وأما النسوية الليبرالية فليس لها أيضا انتقاد مكانة المرأة ولا أحكامها في الإسلام لأن الليبرالية تقرر نسبية الحقيقة أي الحق عندي ليس بالضرورة هو كذلك عندك وهذه سفسطة يقررها عامة الليبراليين يقول راسل: إن الفيلسوف الليبرالي لا يقول: هذا حق بل يقول في مثل هذه الظروف: يبدو لي أن هذا الرأي أصح من غيره

بقلم: حمود بن ثامر
428
موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية الجزء الثاني | مرابط
أباطيل وشبهات

موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية الجزء الثاني


كانت المحطة الثانية في تكريس مبدأ الإعلاء من شأن العقل وتحكيمه على نصوص السنة هي ظهور الاستشراق كاتجاه فكري يعنى بدراسة حضارة الأمم الشرقية بصفة عامة وحضارة العرب والإسلام بصفة خاصة والمستشرقون هم علماء من الغرب اعتنوا بدراسة الإسلام واللغة العربية وكذلك لغات الشرق وأديانه وآدابه ويرى بعض المؤرخين أن بداية الاستشراق كانت مع بداية الاستعمار في العصر الحديث قبيل القرن التاسع عشر بينما يرى بعضهم الآخر أن الاستشراق أقدم من ذلك حيث يرون أن بدايته كانت مع اشتغال الغرب بترجمة الكتب العربية

بقلم: الشبكة الإسلامية
1318
فضيلة شهر شعبان | مرابط
تفريغات

فضيلة شهر شعبان


فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهتم بشهر شعبان ما لا يهتم بغيره ولهذا روى النسائي والإمام أحمد من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله رأيتك تكثر من صيام شعبان أكثر من صيامك شهر رجب فقال: صلى الله عليه وسلم: ذاك شهر بين رجب ورمضان وهو شهر تغفل الناس عنه وهو شهر أحب أن أصوم فيه وهو شهر ترفع فيه الأعمال فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم

بقلم: عبد الله بن ناصر السلمي
426
فن أصول التفسير ج3 | مرابط
تفريغات

فن أصول التفسير ج3


في قضية مصادر التفسير ممكن نقسمها إلى: المصادر النقلية البحتة والمصادر النقلية النسبية ومصادر الاجتهاد الآن من هو المفسر الأول للقرآن أو قل: ما هو المصدر الأول لتفسير القرآن القرآن نفسه ثم المصدر الثاني السنة ثم المصدر الثالث: الصحابة

بقلم: مساعد الطيار
1560