بناء المساجد.. وبناء البشر

بناء المساجد.. وبناء البشر | مرابط

الكاتب: د. محمد علي يوسف

237 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

جُل أهل السير كانو يجعلون دوما بناء المسجد النبوي في المقدمة.. في مطلع العهد المدني وبعد الهجرة مباشرة كان اختيار المكان الذي سيكون المستقر الجديد للمؤمنين ومحل اجتماعهم على الطاعة وتلقي الوحي المنزل على رسول الله، وبالفعل كان البناء المكاني لكن كثيرون لا يلتفتون إلى بناء آخر سبقه.. بناء البشر، وبناء العلاقة بينهم

أكثر الروايات أن البدء في بناء المسجد كان بعد أسبوعين من وصول النبي ﷺ إلى المدينة، لكن في رواية سيدنا عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ قال: "لما قدمنا إلى المدينة آخى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين المهاجرين والأنصار.. 

المؤاخاة

كانت هذه إذًا هي البداية: المؤاخاة..
ويستمر سيدنا عبد الرحمن في التفصيل فيقول: آخى بيني وبين سعد بن الربيع، فقال لي سعد: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم لك نصف مالي، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال سعد: سوق قينقاع، قال فغدا إليه عبد الرحمن.. الحديث"

هذا نموذج واضح لتلك العلاقة التي أراد النبي ﷺ أن يقوم عليها بناء المجتمع الوليد..

الأخوة؛ تلك العلاقة التي ظهرت بوضوح في كتاب الله خصوصا في الآيات الأشهر والتي كلمنا الله فيها عن المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم، ورغم أن آيات المهاجرين والأنصار في سورة الحشر قد نزلت في سياق الحديث عن تقسيم الفيء بعد غزوة بني النضير إلا أن تفاصيل الآيات قد احتوت على دروس عظيمة مستقاة من الصفات التي ذكرها الله ﷻ لكل فئة منهم.

عن المهاجرين

توازن بديع بين صفات قلبية ونفسية وبين أعمال ملموسة قامت بها كل طائفة ونالوا من خلالها ذلك التشريف العظيم، عند ذكر المهاجرين كانت السمة الأولى والأهم = التضحية "لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ" هؤلاء قوم بذلوا عن طيب خاطر كل ما يملكون؛ ديارهم، أموالهم، أرضهم، استقرارهم وموطن نشأتهم.. تركوا كل ذلك وغادروا إلى أرض لا يعرفونها ولا يألفون أجواءها
كان هذا هو العمل الملموس والمرئي

عمل لا ينفك قط عن عمل القلب الذي يعد أصله وسببه " يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" هذا هو المبتغى إذًا
إرضاء الله والطمع فيما عنده من فضل، نصرته ورسوله والتضحية لإعلاء كلمته لن تكون من دون هذا الأصل القلبي .. كل أعمال الدين قد يقوم بها المدعين ويتكلفونها ظاهرا إلا التضحية، ذلك لأنها ليست هينة؛ لذلك يحتاج الأمر إلى قلب صادق، وهؤلاء كانوا يمتلكون ذلك القلب "أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" 

عن الأنصار

أما الأنصار فقد كانت السمة المتصدرة قلبية؛ ربما لم تكن حركتهم في البداية ظاهرة فهم مستقرون في ديارهم لم ينتقلوا منها بل تبوؤوها واختاروا الإيمان وهم فيها، لكن ثمة تضحية أخرى كانت تنتظرهم دون خروج.. تضحية لا تطيب بها نفس إلا عبر بوابة القلب
قلب المحب " وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ" 

بعد أن زكى الله إيمانهم وشبهه بالمحل الذي يستقر فيه المرء للدلالة على مدى ترسخ الإيمان فيهم = جاء الحديث عن الحب؛ والحب كما لا يخفى شعور منبعه القلب، فما مقامه هنا؟

الحقيقة أنه الشعور الأهم في سياق البذل الموجه؛ المهاجرون حين ضحوا كان الصدق هو الشعور الأهم لأن تضحيتهم مطلقة ولم تكن مبذولة لشخص بعينه بل تم الاستيلاء على ما ضحوا به من قِبل أعدائهم..

لكن الأنصار كانت تضحيتهم موجهة؛ سيقتسمون الأموال والديار مع قوم آخرين، مع المهاجرين وهذا هو العمل الملموس.. قد يفعلون ذلك امتثالا لأمر النبي ﷺ لكن هذا لن يزيل بقايا الحسرة البشرية التي تكون في نفس البعض حين يروا أموالهم تأؤول لشخص آخر أمام أعينهم

ما يزيل تلك الحسرة هو ذلك الشعور القلبي الذي بدأ به الحديث عنهم: الحب.. هل رأيت والدا أو والدة من مستقيمي الفطرة يتحسر على ما ينفقون على أبنائهم، بل على العكس قد تجد تفننا في التضحية والبذل والإيثار  واستمتاع بذلك.. هذا لأنهم يحبون، وهذا ما ميز الأنصار؛ حب عميق لإخوانهم طهر قلوبهم من كل أثرة وشح "وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا" 

وقد يكون ذلك سهلا هينا حال الغنى ووجود فائض من المال، لكن ماذا لو كان الأمر ضيقا، ماذا لو كانت هناك حاجة وفاقة.. أن يستمر الإيثار فذلك تمام الفضل.. وهذا ما فعله الأنصار “وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ”

لقد اختاروا في بعض المواطن أن يؤثروا المهاجرين بالمال ثم اختاروا في نفس المواطن أن يتركوا لهم الغنيمة! 
لكن كيف؟ أليست الأنفس قد أُحضرت الشح؟
بلى.. لكن هناك من أفلح وطهر نفسه من ذلك “وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”

حسنا.. هؤلاء هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وتلك بعض فضائلهم فماذا عنا؟ ماذا عمن جاء بعدهم من أمثالنا أليس لنا فرصة في فضل وإن لم نستطع أن نعمل بمثل ما عملوا؟
تجيبك السورة؛ هناك أعمال من نصيبكم، إنه دعاء، والدعاء عمل "وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ" .. لكن أصل هذا الدعاء قلبي أيضا، وهو في هذا السياق تحديدا نابع من الأصل الذي قام عليه البناء، نابع من الحب الأخوة.

أن يطهر المرء قلبه من الغل والحسد فلا يحول حائل بينه وبين الحب، حب أولئك الذين سبقوا والذين كانوا سببا في وصول الخير له “ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا”، وعندما يتطهر القلب ليصير محلا صالحا لأوثق عرى الإيمان الحب في الله تتنزل الرأفة والرحمة منه سبحانه وبهذا يختم السياق الجميل لهذه الآيات العظيمة “رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ”

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأخوة
اقرأ أيضا
النزوع الفطري لقيمة الرحمة | مرابط
تعزيز اليقين

النزوع الفطري لقيمة الرحمة


الناس أسيرة لفكرة الرحمة عندها تعلق غير طبيعي بوجود رب رحيم.. التقي والعاصي المطيع والمتهاون المحسن والمسيء.. لديهم هذا الخوف الفطري من الجزاء الأخروي! هذا النزوع الفطري لقيمة الرحمة والتعلق بها أليس أحد دلائل وجود الله تعالى؟! إذ هي قيمة لا يمكن تصورها إلا بين طرفين هما واهب الرحمة عز وجل ومستحقي الرحمة؟!

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
269
تحديد المنهجية في انتقاء الكتب | مرابط
تفريغات

تحديد المنهجية في انتقاء الكتب


ما هو السبيل إلى الانتفاع بالكتب وهي كثيرة لأنك إذا دخلت في الكتب على غير منهج تفارق عليك أمرك فأفضل وسيلة بعدما تأخذ قدرا من العلم وهذا كلام موجه إلى من انتهى من الفرض العيني ويريد أن يتخصص يعني كلامنا ليس للذين يطلبون الفرض العيني فأفضل وسيلة أن تأتي لكل فن من الفنون بأفضل كتاب وأشده تحريرا وتبدأ تخدم هذا الكتاب وتقرؤه بتمعن فافترض مثلا أنك تبنيت كتابا فقهيا فتأخذ -على سبيل المثال- نيل الأوطار أو سبل السلام -وله متن أيضا- على أساس أنه من أقصر الكتب وأفضلها

بقلم: أبو إسحق الحويني
594
الطرق الصوفية: جسور للاستعمار | مرابط
اقتباسات وقطوف

الطرق الصوفية: جسور للاستعمار


يبدو أن الاستعمار الفرنسي استفاد كثيرا من الطرق الصوفية التي كانت منتشرة في الجزائر بل وأرسى عليها قواعده واستعان بها في بسط سلطانه على بلدان المسلمين وبين يديكم مقتطف من آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي والذي عاش التجربة بنفسه ورأى ذلك ووصفه باستفاضة في مواضع مختلفة

بقلم: محمد البشير الإبراهيمي
468
من مكايد الشيطان: الفتنة بالقبور وأهلها ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

من مكايد الشيطان: الفتنة بالقبور وأهلها ج2


مقال تأصيلي محكم حول مسألة القبور والأضرحة وما وقع فيه عوام المسلمين من المفاسد العظيمة في تعظيم هذه القبور والتمسح بها والدعاء عندها والصلاة إليها بل وحتى الحج إليها واعتقاد أن أصحابها يملكون نفعا وضرا وسعادة وشقاء وعزة وذلا وغير ذلك من الأمور التي لا يملكها إلا الله وحده.. وهذا التأصيل مقتطف من كتاب إغاثة اللهفان لابن القيم وفيه رد على كل الشبهات المحيطة بهذا الموضوع وتبيين للعقيدة الصحيحة في هذا الباب.

بقلم: ابن القيم
423
مصدر تفسير القرآن | مرابط
تعزيز اليقين

مصدر تفسير القرآن


وكل ما استقر عليه فهم الصدر الأول من القرآن فهو مراد الله فيه لأن الله أنزله بلسانهم ليفهموه ولا يسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- معنى باطل استقر في نفوسهم فهذا يخالف مقتضى الرسالة والله مطلع على ما في نفوسهم من فهم.

بقلم: عبد العزيز الطريفي
273
حقيقة التعبد في الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين

حقيقة التعبد في الإسلام


إن إدراك محاسن الإسلام لا يتم إلا بفهم حقيقة التعبد لله سبحانه وتعالى ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بالإدراك العميق لنصوص الكتاب والسنة الواردة في ذلك أو بالنظر في كلام علماء المسلمين الذين اعتنوا بإبراز تلك الحقيقة بعد تتبعهم لنصوص الوحيين ثم بالعمل على ضوء هذه الحقيقة دون الاكتفاء بالفهم النظري

بقلم: أحمد يوسف السيد
1747