تحرير العقول من التفكير الخاطئ

تحرير العقول من التفكير الخاطئ | مرابط

الكاتب: د عبد الكريم بكار

574 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

التفكير الصحيح ليس سهلًا

أولًا: أن منطلق حرصنا على التخلص من التفكير المعوج يكمن في إيماننا بأن التفكير المستقيم والصحيح ليس سهلًا، ولا متاحًا دائمًا، حتى الذين يعلنون ولاءهم للمنهج العقلاني لا يملكون أي ضمانة لخلو تفكيرهم من التحيز، أو المبالغة، أو الخروج على المنطق. ولا أريد هنا شرح أسباب ذلك، لكني أقول: إن المشكلات التي نواجهها في الحياة تزداد كمًا وكيفًا، لا بسبب تعقد أساليب العيش فحسب، وإنما لأن النمو جزءٌ من طبيعة المشكلات، ولن نستطيع أن نحل مشكلاتنا المختلفة، إذا لم نعالج طرق التفكير لدينا، ما دامت هي التي سنستخدمها في فهم كل شيء.

 

ولست أبالغ إذا قلت: إن الأسس العميقة لكل مشكلات أمة الإسلام تقبع في عقولها ونفوسها، وإن عليها أن تضرب على الجذور لتلك المشكلات، فضربةٌ واحدةٌ على الجذور خيرٌ من مائة ضربة على الأغصان. إنسان القرن الحادي والعشرين مع أنه يتحدث باستفاضةٍ مملة عن العولمة، والقرية الكونية، وتلاقي الثقافات، إلا أنه غير قادر على تغيير أنماط تفكيره القديمة، فهناك انجذابٌ هائل نحو الإقليمية، والطائفية، والعنصرية، أي: هناك انسحاب من عالمية الرؤية، والثقافة، والموقف، والإحساس المشترك، في الوقت الذي تتسع فيه عالمية التجارة، ويتسايل انتقال المعلومات والأشياء.

وهذه الأمراض تتبدى في مواقف كثيرة، لكن تظل مستورة بقشرةٍ رقيقة من قشور الحضارة، ولا ينفضح أمرها إلا في الأزمات العالمية الكبرى.

 

الموضوعية

ثانيًا: لا نستطيع أن نعيش عصرنا على الوجه المطلوب، إلا إذا أدركناه إدراكًا موضوعيًا، والإدراك الموضوعي يعني: أننا نستطيع أن نرى الأشياء كما هي عليه، من غير تضخيمٍ ولا تقزيم، وهذا ليس بالأمر اليسير. من الأمور التي تشوه رؤيتنا للواقع: المبالغة في فهم الأمور، وفي تقدير الأحداث والأشياء، وهي من الأمراض المزمنة، والمستعصية.

 

والمبالغة من الأمراض الواسعة الانتشار في كل زمانٍ ومكان، وجذورها عديدة، منها ما هو نفسي، ومنها ما هو فكري. فالإدراك القاصر، وضعف المحاكمة العقلية، والجهل بسنن الله تعالى في الخلق، مما يدفع إلى المبالغة والتزيد تمامًا، كما تدفع إليها الأهواء والرغبات الجامحة، والأمراض النفسية، والانطباعات الخاطئة.

وتجليات المبالغة في الحقيقة كبيرة، أذكر منها الآتي:

بعض الناس يميل إلى تضخيم كل الأشياء؛ لتبدو وكأنها مجموعة كوارث، فأي ألمٍ مفاجئ يصيب الواحد منهم هو دليل على وجود مرضٍ خطير، وأي خطأٍ يقع فيه يمكن أن يؤدي إلى فصله من وظيفته. وفي الناس من ينجذب إلى تعميم الافتراض، فلأن شيئًا ما قد وقع، في ظرفٍ ما، فإنه سيقع دائمًا، فإذا نسي موظفٌ عنده تنفيذ أحد طلباته قال له: إنك تنسى دائمًا ما أطلبه منك، وإذا تبين له أن إحدى الجرائد نشرت خبرًا كاذبًا في يومٍ من الأيام حكم بأن تلك الجريدة لا تصدق أبدًا ... وهكذا وهكذا.

 

تتجلى المبالغة أحيانًا في إعطاء الأحداث سلبية أكبر مما تستحقه، مع التقليل في الوقت نفسه من قيمة الأمور الإيجابية، فإذا رسب في اختبار لنيل رخصة قيادة حكم على نفسه بالغباء؛ لأنه يرى أن النجاح في اختبارٍ كهذا سهلٌ على كل الأشخاص الأسوياء، وإذا أثنى عليه شخص في أمرٍ من الأمور، فسر ذلك بأنه مجاملةٌ منه كي يرفع معنوياته، وإذا نجح في أمرٍ من الأمور عد ذلك من باب الحظ أو المصادفة، أي لأسبابٍ لا تعود إلى اجتهاده وعمله.

 

إن هذا الصنف من الناس يمارس عملية تعذيبٍ للنفس من غير أي مسوغ.

تتجسد المبالغة أحيانًا في صورة قراءة لما في عقول الناس، حيث يعتقد بعض الأشخاص أنه يملك شفافيةً خاصة لما يدور في أذهان الآخرين، وما تنطوي عليه سرائرهم، فإذا حدث أن توجهت إليه شركة من الشركات بسؤالٍ عن قضية ما ظن أنها سألته؛ لأنها لم تعثر على شخصٍ آخر في إمكانه أن يجيب على أسئلتها.

 

وإذا واجه مشكلة ولم يتدخل فيها أحدٌ من أصدقائه، فليس ذلك بسبب رعايتهم لخصوصياته ومشاعره، وإنما بسبب إهمالهم له، أو شماتتهم به، وإذا نصحه شخصٌ بنصيحة فليس ذلك بقصد إصلاحه، وإنما بقصد تحطيمه أمام نفسه.

 

تأخذ المبالغة في بعض الأحيان شكلًا من أشكال عدم الاتزان، وانعدام الرؤية الواضحة، فكم رأيت ورأيتم من أشخاص يتحولون من النقيض إلى نقيضه بسرعة البرق، فبسبب كلمةٍ أو حركة أو موقف يصبح مشروع ما مشروع العمر كله، ويمكن أن يصبح الصديق الحميم عدوًا لدودًا، وتجد هذا في تعبيراتهم، وطالما سمعنا من يقول: إذا فعلت كذا؛ فعليك أن تعتبر صداقة العشرين سنة الماضية منتهية، ومنهم من يقول: خطأٌ واحد يفسد الأمر كله، ومنهم من يقول: إذا لم أستطع تصحيح هذا الأمر فسأتوقف عنه كليًا.

 

هذه الرؤية للأشياء تجلب لأصحابها الكثير من المآسي، وتحجب عنهم الكثير من الخير، وحين ندقق في تفاصيل حياتنا اليومية؛ نجد أنه من السهل على الواحد منا أن يقع في شباك المبالغة دون أن يدري.

ولذا لابد -أيها الإخوان!- من الحذر والانتباه.

 

المرونة الذهنية

ثالثًا: يعاني كثيرٌ من الناس مما يمكن أن نسميه: التصلب الفكري، ولعلي أبادر إلى القول: إن لدى كل واحدٍ منا درجةً من التصلب الفكري، وذلك يعود إلى عددٍ من الأسباب أهمها: أن الواحد منا لا يستطيع أن يعثر على نحو مستمر على الحواجز التي يمكن أن يقيمها بين التصلب الممدوح الذي يتمثل في التمسك بالعقائد والمبادئ والمفاهيم الكبرى، وبين التصلب المذموم الذي يتولد من النقص في الثقافة، والمعرفة بطبائع الأشياء، ومن النقص في المرونة الفكرية، ومن اعتناق بعض المفاهيم الخاطئة، التي تجعل المرء فاقدًا للرشد الفكري.
عصرنا هذا هو عصر التعقيد الشديد، ومن الصعب فهمه والاستجابة لتحدياته من غير مرونةٍ ذهنية، وفكرية شديدة، ويبدو أن الحياة تتعقد على نحو أسرع بكثير من التطور الذي يحدث في نظم التفكير لدينا، مما يجعلنا نبدو دائمًا في حالة تخبطٍ وارتباك ونحن نحاول فهم حقيقة ما يجري.

 

لعل من أهم سمات صاحب الفكر المتصلب ما يلي:

صاحب الفكر المتصلب شديد الجمود على أفكاره، وهو غير قادر على التخلي عنها حتى لو بدا له خطؤها، على حين أن صاحب الفكر المرن يذعن للحق، ويتشوق إلى معرفة الجديد، سواءٌ أكان موافقًا لما يرى أم مخالفًا له.

اللغة التي يستخدمها صاحب الفكر المتصلب تميل إلى المغالاة والقطعية، فهو يستخدم جملًا من نحو: أنا لا يمكن أن أتفق مع فلان .. أنا لا أقول ذلك أبدًا .. كلامك لا يمكن التساهل في شأنه .. كل شخصٍ جاهل سيئ ... وهكذا.

 

يعطيك صاحب الفكر المتصلب انطباعًا بأن لديه جوابًا لكل سؤال، والسبب في ذلك أن ممارسته للمشاركة في التحدث قائمةٌ على عددٍ قليل من المبادئ والمفاهيم الجاهزة والمحددة، فهو يحفظها عن ظهر قلب، ويسارع إلى استخدامها في محاوراته، وليس عنده أي مشكلة نحو الآثار التي تترتب على عدم صوابها. إنه موقنٌ بها وليس بحاجة إلى سماع رأي الآخرين فيها.

ولهذا فإنه لا يعير اهتمامًا لمسألة البحث عن بدائل أكثر نفعًا، وأقل تكلفة، وهو مستعد لتحمل المشاق إلى ما لا نهاية، حيث لا يخطر في باله أن ثمة مخرجًا مما هو فيه. إن المتصلبين فكريًا لا يفيقون عادةً إلا من خلال الصدمات العنيفة، ولكن المشكلة أننا قد لا نجد في كل وقت الأحداث التي توفر تلك الصدمات.

 

مساحة الوعي

رابعًا: في اعتقادي أن من أخطر المشكلات الفكرية التي تواجه المسلم في زماننا الصعب ما يمكن أن نسميه بقصور المفاهيم، حيث إن كل الأبنية الحضارية تقوم في الأصل على ما لدينا من رؤى، ومفاهيم، وأفكارٍ، وانطباعات، عن الحياة والأحياء، وعلى مقدار امتداد مفاهيمنا، وارتقائها، وتعقدها، ودخولها في الأمور التفصيلية؛ تتسع مساحة الوعي، وباتساعها نؤسس لشموخ البناء الحضاري، وترسيخ أركانه، وقد صار في إمكاننا أن نتخذ من نوعية المفاهيم التي يحملها شخصٌ ما؛ مقياسًا على التقدم والارتقاء لديه، كما يمكن أن نتخذ من قصور المفاهيم، وتدني درجة الاهتمامات؛ مقياسًا على التخلف، وسوء الأحوال.

 


 

المصدر:

محاضرة العيش في الزمن الصعب

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أنماط-التفكير
اقرأ أيضا
الصين الشيوعية والتركستان المسلمة ج1 | مرابط
توثيقات

الصين الشيوعية والتركستان المسلمة ج1


دولة التركستان الشرقية من الدول الإسلامية المحتلة التي ابتلعتها الصين الشيوعية في سنة 1949م في ظل غفلة المسلمين عن قضاياهم الماسة ونتيجة لفرقة المسلمين وتشتتهم وهي أرض إسلامية خالصة ولقد فصلنا في تاريخها في مقال سابق بعنوان قصة الإسلام في الصين كما ذكرنا الثروات الهائلة التي تمتلكها هذه الدولة الإسلامية الكبرى والإمكانيات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية والدينية التي تتمتع بها وهذا في مقال آخر بعنوان كنوز التركستان الشرقية وفي مقالنا هذا نرى ماذا فعلت الصين الشيوعية في العقود الثلاثة الأ...

بقلم: راغب السرجاني
701
حكم الأنام إذا عمهم الحرام | مرابط
اقتباسات وقطوف

حكم الأنام إذا عمهم الحرام


مقتطف هام لإمام الحرمين أبو المعالي الجويني من كتاب غياث الأمم في التياث الظلم يتحدث فيه عن حكم الأنام إذا عمهم الحرام هل يؤول الأمر إلى المساواة بينهم وبين حكم المضطر في تعاطي الميتة وما مآلات هذا القول إذا طبق بشكل عملي في الواقع

بقلم: أبو المعالي الجويني
1972
أصول الانحراف الدرس الأول ج2 | مرابط
تفريغات

أصول الانحراف الدرس الأول ج2


إن من مقاصد الوحي وضوح طرق الضلال أن تكون واضحة أمامنا وفي سورة الأنعام بعد شوط طويل من الشرح والتوضيح والتبيين للآيات البينات ذكر ربنا سبحانه وتعالى محاولة خبيثة من أهل الباطل لإضلال النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الله سبحانه وتعالى عصمه ومحاولة لدس الحقد والضغينة بين المسلمين

بقلم: أحمد عبد المنعم
558
الثمار المرة لدعاة تحرير المرأة | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر المرأة

الثمار المرة لدعاة تحرير المرأة


ما زال دعاة تحرير المرأة في بلادنا ينعقون بضرورة تخليص المرأة المسلمة من قيود العادات والتقاليد -على حد زعمهم- ولم يسلم الدين من هذه الدعاوى ضاربين المثل بالمرأة الغربية وكيف أنها استطاعت تحقيق ذاتها وإثبات شخصيتها والحصول على حقوقها بخروجها من بيتها ومنافسة الرجل في كافة الميادين وهم في كل هذا متغافلين عن ذكر الواقع المرير الذي تعيشه المرأة في البلاد الغربية في هذا المقال رد على دعاة تحرير المرأة واستعراض للواقع الحقيقي

بقلم: منى الشريف
1965
عقيدة أهل السنة والجماعة في الولاء والبراء | مرابط
اقتباسات وقطوف

عقيدة أهل السنة والجماعة في الولاء والبراء


مقتطف لشيخ الإسلام ابن تيمية يلخص فيه عقيدة أهل السنة والجماعة في الولاء والبراء والموالاة والمعاداة وكيف ينقسم الناس بالنسبة لهذه العقيدة فمن كان مؤمنا وجبت موالاته ومن كان كافرا وجبت معاداته ومن جمع بين الإيمان والفجور حاز من الموالاة والبغض بقدر ما عنده من الحسنات والسيئات

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1197
ماذا تركت لأجلي؟ | مرابط
مقالات

ماذا تركت لأجلي؟


ويقول الشاب التائب: لأجلك ربي تركت رفقاء الطيش وطريق الهوى وآثرت طريق العفاف والهدى وصبرت على مقاومة كل وسائل الجذب والإغراء حتى صرت بين الشباب غريبا في مظهري ومخبري. وتقول أمة الله: لأجلك ربي تركت التبرج والزينة التي أحب وخالفت بيئتي المتحررة التي فيها نشأت ونالني فيك السخرية والأذى.

بقلم: د. جمال الباشا
348