الدائرتان: بين العلم الشرعي والعلم الطبيعي

الدائرتان: بين العلم الشرعي والعلم الطبيعي | مرابط

الكاتب: د. حسام الدين حامد

319 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

إننا نقبل العلم الطبيعي كوسيلة بحث، ولا نقبله كفلسفة شاملة ننظر من خلالها للحياة worldview؛ ﻷن تبني هذه النظرة يجعلك متبعا للمذهب الطبيعي، متّبعا لفلسفة تنظر بها للعالم وتفسره من خلالها، وأنت في اتباعك هذه الفلسفة لا تبني اتباعك على طريقة العلم الطبيعي والتجريب، بل تبني اتباعك على طريقة فلسفية، إذ ليس في العلم الطبيعي ما يثبت بالتجربة أن العلم الطبيعي وحده يكفي لتفسير شأن النفس والكون، والأخلاق والفن، والحياء والإقناع، والأرض والسماء، وسائر المشاهدات والمحسوسات

انظر في المذهب الطبيعي وأخبرني بأي دليل وتجربة ستثبته، عندما تزعم أنه ليس ثم إلا الطبيعة، وأن الإنسان ليس سوى مركّبًا من مركبات الطبيعة، وأن أفكار الإنسان ومعتقداته ليست إلا جزءًا من هذه الطبيعة وليس لها حقيقة خارج الذهن إن كانت وراء الطبيعة المنظورة، بأي دليل وتجربة ستثبت هذه المقدمة؟ أم هو تحكم الرأي والمصادرة على المطلوب؟!

ليس ثم إلا الطبيعة

وبناء على مقدمة "ليس ثم إلا الطبيعة" يقولون: إن الكون نظام مغلق لا يفتقر لخارج عنه، وبناء على هذه المقدمة كذلك يقال: إنه لا معنى للغائية في الطبيعة المادية الجامدة، فلا شيء يحدث من أجل شيء آخر، وإنما هي أحداث تعقبها أحداث، وتنزع الغائية ليس هناك روح ولا حياة بعد الموت، ليس هناك دار آخرة ولا غاية من الخلق، فخبّرني ما الدليل من التجريب والحس على هذا المذهب؟ إنه ليس إلا مقدمات فلسفية يستحيل إثباتها بالعلم الطبيعي ومع ذلك تتمسح به وتزعم أنها تستمد وجودها من طريقته؟!

إن سخف هذا الطرح الفلسفي في المذهب الطبيعي، وقصوره والمصادرات التي يقوم عليها، جعلت التمسك بها عند الملحدين أمرًا غير معلن في كثير من الأحيان، وكثير منهم عندما تحدثه عن هذا المذهب وهل هو ريقته للنظر للأمور، ينفي ذلك ويستنكره، ويخبرك أنه لا يهتم إلا بالدليل، وهو في الغالب صادق في عدم تبنيه لهذا المذهب عن وعي، ولكن هذا المذهب يتخلل نفسه دون شعور، فيجعل رفضه لكثير من الأخبار والقضايا والأحكام مبنيا على عدم ثبوتها من طريق العلم الطبيعي والمجلات العلمية حتى وإن لم يصرّح بذلك، ويكتفي بالمناقشات الجزئية الرافضة للدليل العقلي على قضية ما! نعم .. يرفض الأدلة الشرعية من بابها ويصرح بذلك! لكن النادر أن يرفض الدليل العقلي جملة واحدة ويحصره في الدليل التجريبي وحده! المقصود أن العنصر النفسي يلعب دورًا رئيسًا في تبني الملحد للمذهب الطبيعي من حيث لا يدري!

المذهب المادي

"وخطأ أن يزعم أنصار المذهب المادي أن تجربتهم لا تسلّم بحياة بعد هذه الحياة أو أن بحثهم يرفض أي وجود بعد هذا الوجود، فإن التجربة ميدانا لا تتجاوزه، وللبحث العلمي دائرة لا يتعداها، ومن العبث أن نتكلم باسم العلم في دائرة تسمو على العلم، وأن نفسر عالم الغيب الفسيح بقوانين عالم الشهادة المحدود، ولن يضير الخلود في شيء أن تعجز عقولنا عن الانتصار له، فإنه يستمد جلاله ورهبته من مصدر أسمى" (1)

كيف -على سبيل المثال- تستخدم الطريقة العلمية الطبيعية scientific method في قبول الأخبار؟ كيف تقرأ بها التاريخ؟ كيف تستعملها في اختيار شريكة حياتك وتربية أولادك؟ كيف تستعملها في تقييم لوحة فنية أو مشهد من مشاهد الطبيعة الأخاذ؟ كيف تستعملها في الحكم على ما قبل هذا العالم وما بعده؟ كيف تستعملها لتحصيل السعادة؟ كيف تستعملها لتهذيب الأخلاق؟ كيف وكيف؟ لماذا تضيق واسعًا وسبل العلم أكثر من ذلك؟!

في سبيل تخطي هذا القصور في مجال العلم الطبيعي، اقترح ستيفن جاولد أن يُنظر لمجالي الدين والعلم الطبيعي أنهما مجالان متجاوران لكل منهم طريقته واختصاصاته؛ يعمل العلم الطبيعي بالتجربة ليجيب عن الأسئلة المتعلقة "بما يتكون منه العالم (الحقيقة العلمية) ولماذا يعمل على هذه الكيفية (النظرية العلمية) بينما يعمل الدين على إجابة أسئلة المعنى والقيم الأخلاقية ومن قبله -في ذات الاتجاه- يقول التطوري ثيودوسيوس دوبجانسكي "العلم الطبيعي والدين يتعاملان مع جهتين مختلفتين من الوجود.. أحدهما يتعامل مع جهة الحقيقة والآخر يتعامل مع جهة المعنى"

الدين والعالم الطبيعي

يرى جاولد أن العلم الطبيعي والدين يعملان في دائرتين متجاورتين لكل منهما طريقته في إثبات القضايا التي من اختصاصه، لكن هناك حدودًا ونقاطا يقع النزاع فيه بين الدائرتين، تحاول كل دائرة أن تدّعي الحق فيها لنفسها، هنا يضع جاولد قواعد تساعد على منع هذا الخلاف، منها مثلا ألا يدّعي أهل الدين أن أي حدث من أحداث التاريخ قد حدث عن طريق تدخل مباشر من الإله، والحقيقة أن طريقة جاولد لمعالجة مناطق النزاع هذه لا تصح ولا توصل إلى منع النزاع أو حله بطريقة صحيحة! وقد أدرك ستيفن واينبرغ هذه النقطة فقال "إنني أميل إلى موافقة جاولد في معظم الأشياء ولكنني هنا أعتقد أنه يذهب إلى أبعد من اللازم، ذلك أن مغزى الدين يتحدد بما يعتقده فعلا الناس المتدينون، وهؤلاء بأكثريتهم الساحقة سوف يندهشون من مقولة إن الدين لا صله له بالبتة مع الواقع العملي" (2)

لا تمثل القضايا التي تختص بها إحدى الدائرتين -دائرة الدين ودائرة العلم الطبيعي- دون الأخرى، ولا يظهر تعلق الدائرة الأخرى بها فضلا عن أن يُتصور بينهما، لا تمثّل تلك القضايا مشكلة إلا عند من يقصر العلم على العلم الطبيعي فحسب، وهذا الذي يقصر العلم على العلم الطبيعي فحسب، هذا القاصر نفسه لا يطبّق ذلك في حياته، في نقد الأخبار والتربية والمعاملة والنظر في التاريخ والتحلي بالأخلاق، وقد سبق بيان أن هذا من التحكم المحض، بل إن الإعراض عن الإقرار رغم ثبوت المسألة بدليلها بزعم الحاجة لديل آخر يعد من الانقطاع في مقام المناظرة! (3)

إشكال تصور الدائرتين

لكن الإشكال في تصور الدائرتين هذا أنه لا يسمح بأي تداخل بين المجالين؛ مجال الدين ومجال العلم الطبيعي بأية طريقة حتى لو كانتا متفقتين، فلو أن النص الديني مثلا وصف مراحل تكون الجنين في الرحم، ثم جاء العلم الطبيعي فأيّد المذكور في النص الديني، فإن فكرة الدائرتين غير المتطابقتين هذه تمنع الاستدلال بالنص الديني على وصف مراحل الجنين مثلا حتى ولو كان يوافق المذكور في العلم الطبيعي.

الإشكال والقصور الثاني في التصور الأفقي لدائرتي الدين والعلم الطبيعي يظهر عندما تكون هناك قضية ظاهرها أنها تنتمي لإحدى الدائرين دون الأخرى، قضية تنتمي لدائرة العلم الطبيعي، ثم يرد في النصوص الدينية ما يتناول هذه القصة بحكم أو وصف أو تقرير، ولا يكون في العلم الطبيعي ما يتناول هذا الحكم أو ذلك الوصف والتقرير بنفي، بل قد لا يكون في العلم الطبيعي ما يتناول هذه القضية بعينها أصلًا، وعليه فتكون المحصلة أن عندك قضية فيها تقرير من جهة الدين ولا تقرير فيها من جهة العلم الطبيعي مع أنها أشبه بالوقوع في دائرة العلم الطبيعي، مثل قضية أقل مدة الحمل الذي ينتج مولودًا لا يحتاج لعناية طبية خاصة في الإنسان مثلا، فالشرع قد جاء بتحديدها بأنها ستة أشهر، في حين لم يرد في العلوم الطبية ما ينفي هذا التحديد، فالمتوقع أن يبادر المرء إلى قبول التقرير الديني بنص ثبت بطريق مقبول، خصوصًا وليس هناك ما يعارضه في العلم الطبيعي!

هذه المبادرة المتوقعة لقبول التقرير الديني لقضية لم يتعرض لها العلم الطبيعي أصلا، هذه المبادرة تتأخر كثيرًا وتُرفض أحيانا بسبب هذه الصورة الذهنية النمطية للدائرتين، مع أنه من التحكم المحض أن يقصر المرء معرفته على مصدر واحد للمعرفة "فليس له أن يتخير طرق العلم، كما ليس له أن يتخير من الأصول إلا ما يرجع إلى علم المشاهدة؛ ﻷن هذا تحكم لا يستعمله المصنف" (4) وحيث ثبت بدليل صحيح وهو الخبر الصادق تقرير ما، فإنه من العنت في السلوك والانقطاع في الحجاج أن ترفض الدليل لا لشيء إلا لأنه ليس من نوع الدليل الذي ترضاه ذائقته الشخصية!

أعود وأقول: إن قصور التصور الأفقهي للدائرتين الدينية والعلمية الطبيعية يظهر عندما تكون هناك قضية ظاهرها أنها تنتمي لإحدى الدائرتين دون الأخرى، ولنعكس هذه المرة بقضية ظاهرها أنها تنتمي لدائرة النص الديني، ثم يحاول الباحثون في العلم الطبيعي البحث عنها في دائرتهم أو يقررون تقريرات علمية بحتة بدون خلفيات فلسفية بصدد هذه القضايا، مثل محاولة البحث عن كائنات مجهرية أو أحماض أمينية أو ما شابه فوق سطح المريخ مثلا، مثل هذه القضية ظاهرها أن لها تعلقا بالدين من جهة خلق الحياة، في حين إنه ليس في نصوص القرآن والسنة نص صريح ينفي هذه الاحتمالية.

والوصول إليها من جهة العلم الطبيعي قد يصل لدرجة القطع حين يتم رصد هذه الكائنات المجهرية أو الأحماض الأمينية، فليس هناك معنى لاستباق نفي هذه الاحتمالية إلا خوفا من الأثر الفلسفي لمثل هذا الاكتشاف أن يزعم الملحدون أن بداية وجود الحياة على الأرض كان صدفة مثل الأحماض الأمينية التي ستوجد على المريخ، وهذا شقّ فلسفي لا يلزم من مجرد اكتشاف أحماض أمينية على سطح المريخ؛ ﻷنه -ببساطة- يمكن الخروج من ذلك بافتراض أن مصدر هذه الخلايا أو الأحماض هو الأرض، أو يمكن الخروج بأي رد آخر على هذا الاستدلال الإلحادي الفلسفي الذي لا علاقة له بالمكتشف العلمي المحتمل!

القصور الثالث في عدم تداخل الدائرتين يكمن في القضايا المشتركة التي يكون للدين فيها كلمة، ويكون للعلم الطبيعي كذلك فيها كلمات، مثل قول الله تعالى " أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)" وقوله "أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ " وقوله "أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ" وقوله "أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِـُٔونَ"

فهنا قضايا ثابتة بالحس، تعتبر في ميزان العلم الطبيعي "من الحقائق العلمية" يتكلم النص الديني عنها، ويثير النظر إليها من مستوى آخر وزاوية مختلفة، فلا تنظر إلى النار ولكن انظر إلى الشجرة، ولا تنظر إلى الشجرة، ولكن انظر إلى من أخرجها عندما رويتها، ولا تنظر إلى الماء الذي تروي الزرع، وإنما انظر إلى من أنزله من السماء!

قضايا الاشتباك بين العلم والدين

هذه القضايا التي يكون للنص الشرعي وللعلم الطبيعي فيها قول، ويمكن حمل كلّ قول منها على مستوى تحليلي أو زاوية نظر مختلفة، هذه القضية يدندن حولها كثير من الملحدين بزعم أن التفسير الديني كان مناسبا لعقول البدائيين، فإذا ما وصل التفسير العلمي فلا مكان للتفسير الديني، وهذه الآيات المذكورة تبين أن التحصل على العلم الطبيعي لا يعني إلغاء النص الديني، فقد كان النص الديني يدعو لنظرة مغايرة في قضايا مكشوفة المعالم بضرورة الحس، فلا أحد ينكر أن المنيّ يخرج من الرجل، ولكن القضية فيمن خلق هذا الرجل والمني وكيفية الخروج، ولا أحد ينكر دور الزارع، ولكن النص يوجّه إلى خالق الكيفية التي يخرج بها الزرع من الأرض، ولا أحد ينكر أن الإنسان هو الذي يوقد النار، ولكن النص يدعو للنظر إلى الشجرة التي لولاها لما كانت النار! وهكذا.. دعوة لسعة الأفق وإعمال النظر في تفسير متعدد المستويات وعدم الاكتفاء بمستوى واحد من مستويات التحليل! ..،

القصور الأخير في تصور جاولد ودوبجانسكي للدائرتين المنفصلتين، يتضح حين يقع التعارض بين كلمة النص الشرعي وكلمة العلم الطبيعي في قضية ما على نفس المستوى من مستويات التحليل، فهنا لا يُجدي أن نفصل بينهما على المستوى الأفقي بزعم أن هذه القضية من اختصاص أحدهما دون الآخر، ولا أن ندّعي أن هناك عدة مستويات لتناول القضية محل البحث على المستوى الرأسي، وإنما يُلجأ هنا للترجيح بالنظر إلى قوة الدليل المطروح، فيُنظر إلى الدليل المستمد من النص الشرعي هل هو قطعي الثبوت أم ظني الثبوت؟

وهل هو قطعي الدلالة على المفهوم منه أم لا؟ ويُنظر إلى الدليل العلمي هل هو حقيقة علمية ثابتة بالحس، وهل ثبوتها هذا من عدة مصادر أم مصدر واحد؟ هل هو نظرية علمية تفسيرية ظنية الدلالة على المقصود؟ هل هو نموذج رياضي لا يُشترط في صحته موافقته للحقيقة؟

فإن قوبل قطعي بظني فيُقدم القطعي، وإن قوبل ظني بظني فإن كان من رأي النبي صلى الله عليه وسلم مما لا علاقة له بالدين ولا توافرت النصوص على الأمر به ولم يرد في كتاب الله فالمرء بالخيار إن شاء أخذ به وإن شاء تركه، وإن ظهر له أن الأولى تركه فعل ولا حرج، وإن كان في كتاب الله أو مما لا يقوله صلى الله عليه وسلم برأيه أو مما تكرر الأمر به والحض عليه فيُقدم ما استقر عليه العمل والمعتقد من الدليل الشرعي؛ ﻷن العمل بظنية الدليل الشرعي ملزمة لأتباعه، بينا العمل والأخذ بالظني من الدليل العلمي الطبيعي ليس ملزمًا.

وإن قوبل قطعي بقطعي فذاك المحال بعينه وذاك الذي لا يكون أبدًا، وإنما يقع توهمًا

نظرية التطور والتعارض بين العلم والدين

وأشهر تمثيل لما يحدث من تعارض بين النص الشرعي والعلم الطبيعي في قضية ما على نفس المستوى من التحليل هو التمثيل بنظرية التطور، فمبنى نظرية التطور على أن نشألة الأنواع بما فيها الإنسان كانت بعملية تطورية نتيجة الصراع بين الكائنات على الموارد المحدودة نتيجة زيادة نسل الكائنات عما تحتمله موارد الطبيعة، وآلية هذا التطور تكون بالانتخاء الطبيعي والطفرات الوراثية تدريجيا أو في صوررة قفزات على مدى آلاف السنين في الماضي السحيق، دون تدخل من أية قوى فوق الطبيعة!

قد ورد النص الشرعي يقول بوضوح عن آدم عليه السلام أنه أبو البشر، ولو كانت نظرية التطور صحيحة لكان هناك مئات "الأوادم" لا آدم واحد، وآدم هو أبو البشر سيقول له الخلائق في الآخرة "يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك" وقال تعالى مخاطبا إبليس حين رفض السجود لآدم " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" وقال تعالى "ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش والقلم وعدم وآدم، ثم قال لسائر الخلق: كن فكان"

وقال ابن عاشور رحمه الله في قوله تعالى "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ" "واستعير عمل الأيدي الذي هو المتعارف في الصنع إلى إيجاد أصول الأجناس بدون سابق منشإ من توالد أو نحوه، فأسند ذلك إلى أيدي الله تعالى لظهور أن تلك الأصول لم تتولد عن سبب، كقوله "والسماء بنيناها بأيد" ف(من) في قوله "مما عملت" ابتدائية لأن الأنعام التي لهم متولدة من أصول، حتى تنتهي إلى أصولها الأصلية التي خلقها الله كما خلق آدم"

وقد تحدى الله تعالى بشيء من خلقه الذي خلقه بقوله "كن" فكان، فقال تعالى "يا أيها الناس ضُرب مثل فاستعموا له إن الذين تدعون من دون الله..."، فانظر كيف تحدى بأنهم لا يستطيعون أن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، ولو كان الذباب يكون بالتطور من الكائنات الأدنى بالضغط التطوري عند الانعزال، ﻷمكن للبشر أن يصلوا لإيجاد الذباب باجتماعهم على هذا الغرض على مدار الأزمان، وتحدي الإله للبشر مجتمعين لا يكون بما يدخل إمكانه في وسع البشر ولو مجتمعين!

كما أن تحدي الإله للبشر أن يأتوا بسورة من مثل القرآن لا يقع في إمكانهم حتى لو اجتمعوا له على مر الأزمان يسلّم كل جيل الجيل الذي يليه! ثم انظر إلى تقرير وحدانية الإله بإثبات قدرة الخلق ونفي الآلهة المزعومة ببيان عجزها عن الخلق، فلو جاء أحد من الملاحدة وقال أنا أرى أن الإله هو قوانين الطبيعة كما قال التطوري إرنست هيكل (5) مثلا وغيره، فكيف يتحداه القائل بالتطور الموجه أن الذي يدعو من دون الله لن يخلق ذبابا؟

وهكذا يتضح أن هذا مثال لفضية فيها نص ديني يثبت الخلق المباشر وقول موافق لفلسفة العالم الطبيعي يثبت التطور، كلا القولين يتناول نفس المستوى فلا يمكن أن يكون الخلق بالتطور وفي نفس الوقت مباشرًا، ولا يمكن أن يكون آدم عليه السلام خلقه الله بيده ويكون في فنس الوقت نتيجة عملية تطورية، فوجب إذن النظر في قوة الأدلة، إن نظرنا للدليل الشرعي سنجده قطعي الثبوت بتواتر النص القرآني، وسنجده قطعي الدلالة على الخلق المباشر لا يحتمل أن يُصرف معناه من الخلق المباشر إلى معنى آخر(6)

بينما لو نظرنا في الجانب الآخر سنجده نظرية علمية تفسيرية، لا يمكن أن تثبت صحتها يقينًا، وإنما أفضل أحوالها ألا نقف على ما ينقضها، وهي لا تراعي الكثير من المشاهدات المرصودة كنقص السجل الأحفوري، وقائمة على افتراض أن التشابه يعني الصلة الوراثية لا وحدة الخالق، دون دليل على هذا التمييز إلا فلسفة، وهي نظرية مطاطة قابلة لكافة الاحتمالات والتغيرات، كما أنها نظرية تتعلق بالتاريخ وتعميم مشاهدات الحاضر على أحداث الماضي أمر فلسفي لا دليل عليه(7)، كل ذلك يلزم منه أن التطور -إن سلمنا باعتباره نظرية علمية- ليس إلا أمرًا مظنونًا لم يثبت بيقين!

وهكذا يكون الخلق المباشر قطعي الثبوت والدلالة، وتكون نظرية التطور ظنية، وبالتالي يقدم النص الشرعي وتُطرح نظرية التطور، وهكذا فإن ما يعتمدون عليه في الاستدلال على الارتقاء والنشوء أمور ظنية لا يُعتمد عليها في الاعتقاد عند أتباع محمد عليه السلام، ولا تعارض ظواهر نصوص شريعتهم فتضطرهم إلى تأويلها.(8)

وقد يكون النص الديني ظنيا ويقابله حقيقة علمية قطعية، عندئذ يقدّم القطعي من العلم الطبيعي على الظني من النصوص الشرعية..،

مقابلة الظني بالظني

أما المخالفة بين ظني وظني، فإن كان الظني الشرعي من رأي النبي صلى الله عليه وسلم لا علاقة له بالدين ولا توافرت النصوص على الأمر به ولم يرد في كتاب الله ووردت القرينة في النص تدل على أنه من القول بالرأي، نقول إن هذا الظني الشرعي على هذه الصفة إن خالف ظنا طبيعيا، فالمرء بالخيار إن شاء أخذ به وإن شاء تركه، وإن ظهر له أن الأولى تركه فعل ولا حرج، وإن أخذ به فكان في الأخذ به مفسد أُنكر عليه، ومثاله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عاد عن رأيه لما رأى من نتائج التجربة التي خالفت هذا الرأي، وذلك في حديث النهي عن الغيلة؛ أي جماع الزوجة المرضعة، فقال صلى الله عليه وسلم "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر ذلك أولادهم شيئًا" ولما عزل بعض الصحابة مخافة ما سمعوه من مفاسد الغيلة، نهاهم صلى الله عليه وسلم عن العزل...،

وإن كان الظني الشرعي في كتاب الله أو مما لا يقوله صلى الله عليه وسلم برأ]ه أو مما تكرر الأمر به والحض عليه فيُعتقد بهذا الظني الشرعي، ويُعمل به، ولا يُنكر على من أخذ به؛ ﻷن العمل بظنية الدليل الشرعي ملزم لأتباعه، بينا العمل والأخذ بالظني من الدليل العلمي الطبيعي ليس ملزمًا والاستقراء دل على أن من كانت هذا صفته من الأمور الشرعية الظنية لم يقع منه ضرر!

ومثال ذلك الرجل الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن بطن أخيه فيها استطلاق فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بشرب العسل، فعاد الرجل يقول لم يبرأ، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم للاستمرار على العسل، ومرة ثانية ومرة ثالثة، حتى جاء الرجل في الرابعة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلًا" فسقاه في الرابعة فبرأ.


المصدر: 
د. حسام الدين حامد، الإلحاد وثوقية التوهم وخواء العدم ص173

الإشارات المرجعية:

  1. د. إبراهيم مدكور: في الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيق 1/193
  2. ستيفن واينبرغ، أحلام الفيزيائيين بالعثور على نظرية نهائية جامعة شاملة، ترجمة أدهم السمان، ص197
  3. ومثال ما لا يقع في دائرة العلم الطبيعي وجود الجن والملائكة، فهذا لا قبل للعلم الطبيعي بإثبات وجودها من عدمه وليست من اختصاصه.
  4. ابن عقيل الحنبلي: الواضح في أصول الفقه 192/2
  5. يرى إرنست هيكل أن الإله هو قوانين الطبيعة، وأنه ليس له إرادة حرة، ولا يقوم بأية أفعال معجزة أو خارقة للطبيعة، ولا يعرف الفرق بين الخير والشر.
  6. وانظر لبيان عدم إمكان تأويل هذه النصوص لمعنى آخر الصواعق المرحلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية ص268
  7. انظر: مقال (نظرية ..!) لتفصيل وتوثيق هذا النقد المجمل
  8. حسين الجسر، الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإسلامية وحقيقة الشريعة المحمدية 304
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
متى يكون الرد على المخالف | مرابط
فكر

متى يكون الرد على المخالف


كثير ممن يطيل الجدل والمناظرة لا يفرق بين بيان إثبات الحجة وبين الإقرار بها فيجعل لازم إثبات الحجة أن يقر المحجوج بها وهذا ليس من العلم والنظر ولا من مقاصد التشريع في شيء وذلك أن محل الإقرار في القلب واللسان ناقل لما في القلب والصدق في هذا شاق جدا حتى ربما ظهر الحق لجميع السامعين ويبقى المحاجج في سكرة نفي ثبوت الحجج والتهوين منها والتعلق بالإقرار تعلق بباطن لا يمكن الوصول إلى حقيقته

بقلم: عبد العزيز الطريفي
877
من أشراط الساعة: نزع الأمانة من قلوب الناس | مرابط
اقتباسات وقطوف

من أشراط الساعة: نزع الأمانة من قلوب الناس


ومن أشراط الساعة المتعلقة والتي قد يكون لها صلة في هذا الباب: نزع الأمانة من قلوب الناس ونزع الأمانة من قلوب الناس فيه إشارة إلى الشح المطاع والهوى المتبع والطمع والجشع ومن ثمار ذلك ما سلف من قطيعة الأرحام وتسليم الخاصة وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى تقلب الإنسان في يومه وليلته من أمين إلى خائن ومن مؤمن إلى كافر في يوم وليلة

بقلم: عبد العزيز الطريفي
624
الإطراق الأخير | مرابط
فكر مقالات

الإطراق الأخير


إنسان هذا العصر منهمك في دوامة الحياة اليوميةأصبح الواحد منا كأنه ترس في دالوب المهام والتفاصيل الصغيرة التي تستلمك منذ أن تستيقظ صباحا حتى تلقيك منهكا فوق سريرك في أواخر المساء دوام مضني ورسالة جوال ورسالة إيميل وتعليق فيسبوكي وخبر تويتري ومقطع يوتيوبي وتنقل بين الفضائيات وصراخ منبهات في طرق مكتظة وأعمال مؤجلة كلما تذكرتها قرصك الهم الخ الخ

بقلم: إبراهيم السكران
787
لئن كان قال ذلك لقد صدق | مرابط
تعزيز اليقين

لئن كان قال ذلك لقد صدق


المتأمل لما قاله أبو بكر رضي الله عنه لئن كان قال ذلك لقد صدق يدرك أن هناك قاعدة تأسس عليها إيمان الصديق رضي الله عنه فهذه العبارة ليست عشوائية ولم تأت اعتباطا لو كان النبي قال كذا فقد صدق إذن أيا كان الذي قاله النبي إنه صادق في كل ما يقول المهم أن يثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال ما قال إنه التسليم المطلق للوحي ولمثل هذا كان أبو بكر هو الصديق فالتسليم هو محض الصديقية كما يقول ابن القيم رحمه الله وهذه هي القاعدة التي تأسس عليها إيمان الصديق رضي الله عنه

بقلم: محمود خطاب
779
القلة المؤمنة | مرابط
فكر مقالات

القلة المؤمنة


يتمنى الصالحون من أبناء هذه الأمة دائما أن يشاهدوا أمتهم في مقدمة الأمم وأن يسعدوا -وتسعد الدنيا معهم- بعزتها وقوتها ومجدها لكن مع أن الأمنية واحدة إلا أن الكثير يختلف في طريق الوصول إليها والواضح أن التاريخ لا يصنعه إلا فئة قليلة مؤمنة ثابتة يكتب الله لهم النصر وهذا ما يستعرضه الكاتب في المقال

بقلم: د راغب السرجاني
2003
الحركة النسوية من المطالب إلى المثالب | مرابط
النسوية

الحركة النسوية من المطالب إلى المثالب


عند النظر إلى تلك الحركات والمنظمات النسوية نجد أنها نابعة من أرضية لا دينية ووليدة حكومات ومجتمعات غربية لا تملك أدنى مقومات إنصاف المرأة فالمرأة هناك تستغل أبشع استغلال لتعيش وتعيل نفسها وعائلتها أما فكرة تحرير المرأة في العالم العربي فلم تبرز إلا من خلال الاستعمار الغربي لدول المنطقة العربية فالمتأمل لواقع الشخصيات النسائية اللاتي تبنين تلك التوجهات يجدهن شخصيات تأثرت بالمدنية الغربية فضلا عن أنهن عشن ظروفا اجتماعية قاسية انعكست سلبا على فكرهن وتوجههن لاحقا

بقلم: نورة بنت عبد الرحمن الكثير
895