دولة الكلام المبطلة الظالمة

دولة الكلام المبطلة الظالمة | مرابط

الكاتب: محمد رشيد رضا

843 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

مقدمة

إن المعقول المتبادر من حكمة الله في نعمة النطق، ومزية الكلام التي ميَّز بها الإنسان وفضَّله من سائر أنواع جنسه الحيواني، هو أنها التعبير عما في النفس من العلم؛ ليتعاون الناس بإفضاء كلٍّ بما في نفسه إلى غيره على تكميل علومهم، وتحسين أعمالهم , ولكن الأشرار منهم كفروا هذه النعمة بما أساءوا من استعمالها في الكذب والإفك والخلابة، حتى قال بعض الأذكياء: إن حكمة الكلام وفائدته إخفاء ما في النفس، وصرف الأذهان عن الحقائق.

وقد أجمع الناس على ما هَدَت إليه الأديان، وقرَّره الحكماء من مدح الصدق والصادقين، وذمِّ الكذب والكاذبين، إلا ما قيل في حال التعارض بين مفسدة الكذب في مسألة معينة، ومفسدة أخرى أكبر منها، كالكذب على صائل ظالم يريد قتل بريء محترم الدم بما يصرفه عن قتله بإنكار المكان الذي يوجد فيه، أو غير ذلك، والإسلام يهدي في مثل هذه الحال إلى التفصِّي من الكذب بالتعريض، ففي حديث عمران بن حصين في البخاري: (إن في المعاريض مَنْدوحة عن الكذب ) ولكن كثيرًا من الناس ينظمون في سلك هذا الاستثناء ما ليس منه، كالتعارض بين الصدق وما يخشونه من فوت بعض شهواتهم ومطامعهم غير المشروعة به، فيستبيحون الكذب للتوسل به إلى تلك الشهوات والمطامع الشخصية أو القومية.

اللصوص وقطاع الطرق والشطار المحتالون، وشهداء الزور، وأصحاب الدعاوي الباطلة ووكلاؤهم، كلُّ أولئك وأمثالهم يكذبون لأجل مطامعهم الشخصية، ورجال السياسة من الأمراء والوزراء والسفراء، ومَن دونهم من الوكلاء السياسيين وكُتَّابهم وجواسيسهم، كلُّ أولئك يكذبون لأجل مطامع دولتهم ومنافع أممهم، والفريقان يذمَّان الكذب مع الذَّامِّين، ويمدحان الصدق مع المادحين، ولا يعترف أحد منهم بأنه يكذب لدفع الضرر عن نفسه أو قومه، أو لجلب النفع لهم، كما يعترف من كذب تصريحًا أو تعريضًا لدفع الصائل الظالم عن البريء إلا أن يكون الاعتراف من بعض المشتركين في هذا الإثم لبعض، أو لمن يعلم حالهم ممن له صلة بهم.

 

الكذب والإفك

من عجيب أمر الإنسان أن الكذب والإفك وقول الزور وطمس معالم الحق وتشييد صروح الباطل، لم يكن مقصورًا على المتكالبين على الشهوات الدنيوية والمطامع المالية والسياسة، بل تجاوزهم إلى رجال الأديان، ورجال المذاهب من أهل الدين الواحد، وهم أجدر بالصدق والتزام الحق، ولكنهم جعلوا الدين الذي موضوعه الهدى وتزكية النفس بالاعتقاد الصحيح والفضائل، وسيلة للمال والجاه، فصاروا كطلاب المنافع الشخصية بالسرقة والغصب ونحوهما، وطلاب المنافع السياسية بالبغي والعدوان على الأمم والشعوب. وأعجب أمر هؤلاء وأغربه أن فيهم أناسًا يتعمدون الكذب على خصومهم، واستباحة أفحش ما حرَّمه دينهم في سبيل عداوتهم، لا يبتغون بذلك مالًا ولا جاهًا، بل يقصدون التقرب به إلى إلههم، معتقدين أنه يرضيه كل ما فيه إيذاء أعدائه، وإن كان من الباطل والشرِّ الذي حرَّمه على أبنائه وأحبائه في معاملة بعضهم لبعض، ومن كان يظن في ربه وإلهه حبَّ الباطل والشرِّ والرضا بهما، فكيف يطمع منه عدوه بالتزام حقٍّ أو عمل خير؟‍! أولئك الذين يقولون: إن المقاصد والغايات الحسنة، تبيح الوسائل المحرمة والمبادئ السيئة، وإن الباطل قد يوصل إلى الحقِّ، والشرَّ قد يؤدي إلى الخير، أي إنهم يختارون أن يكونوا مبطلين أشرارًا، مجرمين في الحال؛ ليصيروا أخيارًا في المآل.

إذا كان علماء الأديان وأولياؤها، وشِيَع المذاهب وأنصارها، يؤلفون الكتب ويدونون الأسفار في تضليل المجادلات والمشاغبات؛ ليؤيد كل فريق منهم ما يوصف به وينتمي إليه منها، فهل يكثر على عبيد المال وعشاق العظمة والجاه ومنهومي اللذات والشهوات، ومفتوني السلطة والسيادة، أن يقلبوا جميع الحقائق، ويستحلُّوا جميع المحارم في سبيل التمتع بتلك اللذات، والعلو في تلك الدرجات، والإشراف على الأمم والشعوب بالأمر والنهي، وغير ذلك من التصرف والتشريع الذي هو شأن الربِّ عزَّ وجلَّ؟

 

دولة الكلام

إن دولة الكلام المؤيدة بجحافل الكذب والزور والبهتان والإفك، والافتراء والإخلاق والاختراق والخلابة والتمويه والتلبيس والتدليس تترقى بترقي الحضارة، وتتدلى بتدليها، وتتسع باتساع دائرة العلوم والمعارف، وتضيق بضيقها، فهي مساوقة لدولة الأحكام مؤيدة لها.

الكذب شرُّ الرذائل على الإطلاق، فهو مفسد الأديان والتواريخ، ومزيل الثقة بين الأفراد والجماعات، ومولد الفتن والحروب بين الأمم، وقلما تستغني رذيلة من الرذائل، أو فتنة من الفتن عن شدِّ أزرها بالكذب، أو أحد جنوده وحملة بنوده، وما ألجأ الناس إلى الكذب على شدة قبحه، وفحش ضرره، والإجماع على ذمِّه إلا عدم التناصف بينهم، وترك تحكيم العدل فيما تتعارض فيه منافعهم، وتتنازع منازعهم، والأصل في ذلك أن الضعيف هو الذي يكذب على القوي الذي لا ينصفه أو لا يواتيه، والقوة والضعف أنواع شتى، فكم من قوي في شيء، ضعيف في غيره، فإذا رأيت السيد يكذب على عبده، والمخدوم على خادمه، والأمير على السوقة، فلا تظنَّ أن هذا جاء على خلاف الأصل، فإن في هؤلاء السادة المخدومين والأفراد الحاكمين ضعفًا في الأخلاق، وقبائح الأعمال، فيتحرون كتمانها عن خدمهم وأتباعهم، فلا يجدون وسيلةً لذلك إلا الكذب أو التلبيس والتمويه، فيلجؤون إليه صاغرين.

الحكومة المستبدة تعلم الشعب الضعيف الخاضع الكذب والرياء حتى يصير ملكةً له، يفسد عليه أمور دينه ودنياه، وقلَّما يحتاج رجال هذه الحكومة إلى الكذب على شعبهم المسكين؛ لأنه خاضع لكل ظلم، قابل لكل ضيم، وإنما يكذب الضعيف على القويِّ الجائر الذي لا يرضَى بالحقِّ، ورُبَّ قويٍّ في شيء، ضعيف في غيره، فيكذب فيما هو ضعيف فيه، ومن هذا النوع حكومات الأمم القوية بالعلم والنظام والأحزاب السياسية، فكلُّ حكومة من هذه الحكومات تكذب على نُوَّاب أُمَّتها ورؤساء أحزابها في كلِّ ما تعلم أنه لا يرضيهم من أعمالها الاستعمارية وسياستها الخارجية وغير ذلك، ويستتبع ذلك الكذب على أهل المستعمرات، وإلباس كثير من الأعمال ثوب زور. والكذب على أهل العلم والرأي لا يرجى أن يروج له إلا بلبس الحقِّ الذي تُخشَى مغبَّة ظهوره، وكذلك كذب الحكومات القوية بالعلم والاستعداد الحربي بعضهم على بعض؛ فلذلك صار الكذب فنًّا من أدقِّ الفنون، وركنًا من أركان السياسة.
وليعتبر القارئ في ذلك بـــ..أقوال أقطاب ساسة الحلفاء وكبار وزرائهم في الأسباب الحاملة لدولهم على الحرب وأساسها حرية الشعوب واستقلالها.

 


 

المصدر:

(مجلة المنار)، المجلد الحادي عشر – ذي القعدة 1337هـ

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#دولة-الكلام
اقرأ أيضا
انتظار الفرج من الله عز وجل | مرابط
اقتباسات وقطوف

انتظار الفرج من الله عز وجل


حدثنا محمد بن عبد الله الأزدي ثنا حماد بن واقد قال: سمعت إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق الهمداني عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله عز وجل من فضله فإن الله عز وجل يحب أن يسأل من فضله وأفضل العبادة انتظار الفرج

بقلم: ابن أبي الدنيا
654
ابن تيمية وحياته الحافلة بالعطاء الجزء الثالث | مرابط
تفريغات

ابن تيمية وحياته الحافلة بالعطاء الجزء الثالث


سيبقى التراث الذي تركه لنا شيخ الإسلام ابن تيمية نبراسا للعلم نلتمس منه سبل الحق ونهتدي به في ظلمات الليل فحياة الرجل كانت رحلة مليئة بالعطاء والبذل دافع فيها عن دين الإسلام ونافح عن الوحي القرآن والسنة ولم يترك بابا ليلجه أهل الأهواء والباطل إلا وسده عليهم ورد عليهم سهامهم وانتصر لمذهب أهل السنة والجماعة وبين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة هامة للشيخ الحويني يقف فيها على شخصية شيخ الإسلام وحياته وبذله

بقلم: أبو إسحق الحويني
868
الأهواء المتدينة | مرابط
فكر مقالات

الأهواء المتدينة


نتعامل في واقعنا المعاصر مع إشكال جديد يمكن تسميته بالأهواء المتدينة هذا الإشكال يظهر في أن ترك الالتزام بالأحكام الذي هو من جنس التقصير والهوى أصبح محسنا مزينا في نفس المسلم متوافقا مع الدين مقربا إلى الحق فلم تعد تلك المخالفات متضمنة مفسدة المخالفة فقط بل أضيف لها مفسدة التحسين والتزيين للهوى والباطل

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1031
الهيومانية كبديل عن الدين | مرابط
أبحاث

الهيومانية كبديل عن الدين


هل يمكن أن تحل الهيومانية humanism الإنسانية بديلا عن الدين؟ هل يمكن أن يحيا الجنس البشري بلا دين؟ هل يمكن التأسيس للقيمة والمعرفة والغاية والأخلاق في غياب الإله؟ لقد عاش الجنس البشري آلاف السنين تحت تأثير الدين واستطاع الدين أن يوفر جميع أوجه الحياة الأخلاقية والقانونية والعقائدية وحتى اللغة ومن ثم فمن حقنا أن نتساءل عما إذا كان من الممكن إنتاج جيل ملحد إلحادا كاملا؟

بقلم: د. هيثم طلعت
280
الحكمة من خلق الإنسان؟ | مرابط
تفريغات

الحكمة من خلق الإنسان؟


ما أغفل الإنسان! لا إله إلا الله ما أجفى الإنسان! لا إله إلا الله ما أظلم الإنسان! يوم يأتي من بطن أمه لا ملابس له ولا منصب ولا وظيفة ولا بيت ولا سيارة ولا جاه ليسقط قطعة لحم على الأرض وهو يبكي فإذا ما بصره الله وعلمه وأنبته وتملك وأصبح له وظيفة وأصبح ذا منصب وسيارة وجاه نسي الله وتمرد على حدود الله وانتهك محارم الله وحدوده فأين العقول؟!

بقلم: د. عائض القرني
794
ما بين الإيمان والفكر | مرابط
فكر مناقشات

ما بين الإيمان والفكر


كتاب لا يبحث في أعيان وأفراد الخلل والتخلف الفكري المعاصر في شتى الحقول ولا يبحث في قضايا الإيمان والعقيدة بل يبحث في القناة التي تربط بينهما وهو وجه بديع جديد من البحث العلمي والفكري وعنوان هذا الكتاب يوحي فعلا بموضوع بحثه وهو ينبوع الغواية الفكرية للشيخ عبد الله العجيري وفي هذا المقال مراجعة للكتاب ومحتواه بقلم إبراهيم السكران

بقلم: إبراهيم السكران
2001