دولة الكلام المبطلة الظالمة

دولة الكلام المبطلة الظالمة | مرابط

الكاتب: محمد رشيد رضا

934 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

مقدمة

إن المعقول المتبادر من حكمة الله في نعمة النطق، ومزية الكلام التي ميَّز بها الإنسان وفضَّله من سائر أنواع جنسه الحيواني، هو أنها التعبير عما في النفس من العلم؛ ليتعاون الناس بإفضاء كلٍّ بما في نفسه إلى غيره على تكميل علومهم، وتحسين أعمالهم , ولكن الأشرار منهم كفروا هذه النعمة بما أساءوا من استعمالها في الكذب والإفك والخلابة، حتى قال بعض الأذكياء: إن حكمة الكلام وفائدته إخفاء ما في النفس، وصرف الأذهان عن الحقائق.

وقد أجمع الناس على ما هَدَت إليه الأديان، وقرَّره الحكماء من مدح الصدق والصادقين، وذمِّ الكذب والكاذبين، إلا ما قيل في حال التعارض بين مفسدة الكذب في مسألة معينة، ومفسدة أخرى أكبر منها، كالكذب على صائل ظالم يريد قتل بريء محترم الدم بما يصرفه عن قتله بإنكار المكان الذي يوجد فيه، أو غير ذلك، والإسلام يهدي في مثل هذه الحال إلى التفصِّي من الكذب بالتعريض، ففي حديث عمران بن حصين في البخاري: (إن في المعاريض مَنْدوحة عن الكذب ) ولكن كثيرًا من الناس ينظمون في سلك هذا الاستثناء ما ليس منه، كالتعارض بين الصدق وما يخشونه من فوت بعض شهواتهم ومطامعهم غير المشروعة به، فيستبيحون الكذب للتوسل به إلى تلك الشهوات والمطامع الشخصية أو القومية.

اللصوص وقطاع الطرق والشطار المحتالون، وشهداء الزور، وأصحاب الدعاوي الباطلة ووكلاؤهم، كلُّ أولئك وأمثالهم يكذبون لأجل مطامعهم الشخصية، ورجال السياسة من الأمراء والوزراء والسفراء، ومَن دونهم من الوكلاء السياسيين وكُتَّابهم وجواسيسهم، كلُّ أولئك يكذبون لأجل مطامع دولتهم ومنافع أممهم، والفريقان يذمَّان الكذب مع الذَّامِّين، ويمدحان الصدق مع المادحين، ولا يعترف أحد منهم بأنه يكذب لدفع الضرر عن نفسه أو قومه، أو لجلب النفع لهم، كما يعترف من كذب تصريحًا أو تعريضًا لدفع الصائل الظالم عن البريء إلا أن يكون الاعتراف من بعض المشتركين في هذا الإثم لبعض، أو لمن يعلم حالهم ممن له صلة بهم.

 

الكذب والإفك

من عجيب أمر الإنسان أن الكذب والإفك وقول الزور وطمس معالم الحق وتشييد صروح الباطل، لم يكن مقصورًا على المتكالبين على الشهوات الدنيوية والمطامع المالية والسياسة، بل تجاوزهم إلى رجال الأديان، ورجال المذاهب من أهل الدين الواحد، وهم أجدر بالصدق والتزام الحق، ولكنهم جعلوا الدين الذي موضوعه الهدى وتزكية النفس بالاعتقاد الصحيح والفضائل، وسيلة للمال والجاه، فصاروا كطلاب المنافع الشخصية بالسرقة والغصب ونحوهما، وطلاب المنافع السياسية بالبغي والعدوان على الأمم والشعوب. وأعجب أمر هؤلاء وأغربه أن فيهم أناسًا يتعمدون الكذب على خصومهم، واستباحة أفحش ما حرَّمه دينهم في سبيل عداوتهم، لا يبتغون بذلك مالًا ولا جاهًا، بل يقصدون التقرب به إلى إلههم، معتقدين أنه يرضيه كل ما فيه إيذاء أعدائه، وإن كان من الباطل والشرِّ الذي حرَّمه على أبنائه وأحبائه في معاملة بعضهم لبعض، ومن كان يظن في ربه وإلهه حبَّ الباطل والشرِّ والرضا بهما، فكيف يطمع منه عدوه بالتزام حقٍّ أو عمل خير؟‍! أولئك الذين يقولون: إن المقاصد والغايات الحسنة، تبيح الوسائل المحرمة والمبادئ السيئة، وإن الباطل قد يوصل إلى الحقِّ، والشرَّ قد يؤدي إلى الخير، أي إنهم يختارون أن يكونوا مبطلين أشرارًا، مجرمين في الحال؛ ليصيروا أخيارًا في المآل.

إذا كان علماء الأديان وأولياؤها، وشِيَع المذاهب وأنصارها، يؤلفون الكتب ويدونون الأسفار في تضليل المجادلات والمشاغبات؛ ليؤيد كل فريق منهم ما يوصف به وينتمي إليه منها، فهل يكثر على عبيد المال وعشاق العظمة والجاه ومنهومي اللذات والشهوات، ومفتوني السلطة والسيادة، أن يقلبوا جميع الحقائق، ويستحلُّوا جميع المحارم في سبيل التمتع بتلك اللذات، والعلو في تلك الدرجات، والإشراف على الأمم والشعوب بالأمر والنهي، وغير ذلك من التصرف والتشريع الذي هو شأن الربِّ عزَّ وجلَّ؟

 

دولة الكلام

إن دولة الكلام المؤيدة بجحافل الكذب والزور والبهتان والإفك، والافتراء والإخلاق والاختراق والخلابة والتمويه والتلبيس والتدليس تترقى بترقي الحضارة، وتتدلى بتدليها، وتتسع باتساع دائرة العلوم والمعارف، وتضيق بضيقها، فهي مساوقة لدولة الأحكام مؤيدة لها.

الكذب شرُّ الرذائل على الإطلاق، فهو مفسد الأديان والتواريخ، ومزيل الثقة بين الأفراد والجماعات، ومولد الفتن والحروب بين الأمم، وقلما تستغني رذيلة من الرذائل، أو فتنة من الفتن عن شدِّ أزرها بالكذب، أو أحد جنوده وحملة بنوده، وما ألجأ الناس إلى الكذب على شدة قبحه، وفحش ضرره، والإجماع على ذمِّه إلا عدم التناصف بينهم، وترك تحكيم العدل فيما تتعارض فيه منافعهم، وتتنازع منازعهم، والأصل في ذلك أن الضعيف هو الذي يكذب على القوي الذي لا ينصفه أو لا يواتيه، والقوة والضعف أنواع شتى، فكم من قوي في شيء، ضعيف في غيره، فإذا رأيت السيد يكذب على عبده، والمخدوم على خادمه، والأمير على السوقة، فلا تظنَّ أن هذا جاء على خلاف الأصل، فإن في هؤلاء السادة المخدومين والأفراد الحاكمين ضعفًا في الأخلاق، وقبائح الأعمال، فيتحرون كتمانها عن خدمهم وأتباعهم، فلا يجدون وسيلةً لذلك إلا الكذب أو التلبيس والتمويه، فيلجؤون إليه صاغرين.

الحكومة المستبدة تعلم الشعب الضعيف الخاضع الكذب والرياء حتى يصير ملكةً له، يفسد عليه أمور دينه ودنياه، وقلَّما يحتاج رجال هذه الحكومة إلى الكذب على شعبهم المسكين؛ لأنه خاضع لكل ظلم، قابل لكل ضيم، وإنما يكذب الضعيف على القويِّ الجائر الذي لا يرضَى بالحقِّ، ورُبَّ قويٍّ في شيء، ضعيف في غيره، فيكذب فيما هو ضعيف فيه، ومن هذا النوع حكومات الأمم القوية بالعلم والنظام والأحزاب السياسية، فكلُّ حكومة من هذه الحكومات تكذب على نُوَّاب أُمَّتها ورؤساء أحزابها في كلِّ ما تعلم أنه لا يرضيهم من أعمالها الاستعمارية وسياستها الخارجية وغير ذلك، ويستتبع ذلك الكذب على أهل المستعمرات، وإلباس كثير من الأعمال ثوب زور. والكذب على أهل العلم والرأي لا يرجى أن يروج له إلا بلبس الحقِّ الذي تُخشَى مغبَّة ظهوره، وكذلك كذب الحكومات القوية بالعلم والاستعداد الحربي بعضهم على بعض؛ فلذلك صار الكذب فنًّا من أدقِّ الفنون، وركنًا من أركان السياسة.
وليعتبر القارئ في ذلك بـــ..أقوال أقطاب ساسة الحلفاء وكبار وزرائهم في الأسباب الحاملة لدولهم على الحرب وأساسها حرية الشعوب واستقلالها.

 


 

المصدر:

(مجلة المنار)، المجلد الحادي عشر – ذي القعدة 1337هـ

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#دولة-الكلام
اقرأ أيضا
الإسلام أسلوب حياة | مرابط
اقتباسات وقطوف

الإسلام أسلوب حياة


مقتطف ماتع للكاتب محمد أسد من كتاب الطريق إلى مكة يحدثنا عن بداية تعرفه على الإسلام وكيف أنه رأى هذا الدين أسلوبا شاملا للحياة يحكي لنا بعض اللمحات الجميلة حول اختلاف الدين الإسلامي عن غيره من الأديان والمذاهب والعقائد

بقلم: محمد أسد
740
من أخلاق الكبار: أحمد بن حنبل | مرابط
تفريغات

من أخلاق الكبار: أحمد بن حنبل


الإمام أحمد بعدما أوذي هذا الأذى لم يفتح ملفات من الأحقاد وسجلات من العداوة فلان هو المتسبب وفلان هو الذي سعى في الموضوع وفلان خذلني وفلان قصر في حقي وفلان لم يسع في خلاصي من أسر هؤلاء وفلان ما زارني بعد السجن وفلان صدرت منه بعض الكلمات التي لربما يفهم منها أنه كان مباركا لهذا العمل راضيا به لم يفتح شيئا من هذا إطلاقا ولم ينقل لنا التاريخ عن الإمام أحمد - رحمه الله - على طول ترجمته كلمة واحدة تدل على أنه وقف عند نفسه.

بقلم: خالد السبت
485
مشكلة تكاليف الزواج | مرابط
اقتباسات وقطوف ثقافة

مشكلة تكاليف الزواج


لا شك أن من أصعب التحديات التي تواجه الشباب الراغب في الزواج: مشكلة التكاليف المالية المتمثلة في المهور ومكان الاحتفال والوليمة والمتطلبات والمستلزمات الأخرى المتعلقة بالزوجة وليلة الزواج وهذا بالإضافة إلى تكاليف السكن والتأثيث وتوابع ذلك

بقلم: أحمد يوسف السيد
661
علمنة العلاج النفسي | مرابط
فكر العالمانية

علمنة العلاج النفسي


حتى المعالج المحب لدينه قد يذكر للمريض آيات وأحاديث لرفع معنوياته وإزالة كآبته لكن المعنى المسيطر عنده وعند المريض هو تسخير ذلك كله لدنيا المريض فحسب. بينما النظرة المتوازنة تتطلب أن يجعل هذا البلاء مسخرا لنفع المريض في دينه وآخرته مع الأخذ في الوقت نفسه بأسباب تخليصه من مرضه.

بقلم: د. إياد قنيبي
521
خير الأمة العربية | مرابط
اقتباسات وقطوف

خير الأمة العربية


لست امرءا قانطا ولا متشائما ولا يائسا من خير هذه الأمة العربية بل لعلني أشد إيمانا بحقيقة جوهرها وطيب عنصرها وكرم غرائزها بل لعلني أشد إيغالا في الإيمان بأنها صائرة إلى السؤدد الأعظم والشرف السرى والغلبة الظاهرة إن شاء الله وأنها هي الأمة التي أرصدها بارئ النسم

بقلم: محمود شاكر
464
عقيدة جلال الدين الرومي | مرابط
مناقشات

عقيدة جلال الدين الرومي


وجلال الدين الرومي كان صوفيا كما هو معلوم وقد نسب إليه القول بوحدة الوجود وقد قرأت أنه يدعي أن كتابه المثنوي سماه الله فيقول وله ألقاب أخر لقبه الله تعالى بها

بقلم: قاسم اكحيلات
429