شبح الحروب الصليبية الجزء الثالث

شبح الحروب الصليبية الجزء الثالث | مرابط

الكاتب: محمد أسد

2034 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

نحن نسمع في المجالس الإسلامية أحيانا تأكيدًا مفاده أن عداوة أوروبا للإسلام -تلك العداوة التي نشأت من المنازعات العنيفة في الماضي- قد أخذت تزول شيئًا فشيئًا في أيامنا. حتى إنهم ليزعمون أن أوروبة تبدي دلائل هذا الميل إلى الإسلام بما هو تعاليم دينية واجتماعية. وكثيرون من المسلمين يعتقدون أن هذا الانقلاب الإجماعي في أوروبة أصبح قريبًا. هذا الاعتقاد لا يبدو غير معقول لنا نحن الذين نعتقد أن الإسلام وحده من بين جميع النظم الدينية يستطيع أن يثبت ويفوز في وجه الانتقاد الذي لا تحزّّب فيه.

 

ولقد أخبر الرسول فوق ذلك أن الإسلام سيُقبل نهائيًا على أنه الدين العام للإنسانية جمعاء. ولكن ليسة ثمة -من جهة ثانية- قرينة ما تدل على أن هذا يمكن أن يتفق في المستقبل القريب. أما فيما يتعلق بالمدنية الغربية فإن هذا ممكن أن يتفق بعد سلسلة من الانقلابات الاجتماعية والعقلية مما يزعزع الغرور الثقافي الحاضر في أوروبة ويبدل العقلية فيها في كل شيء حتى تستطيع أن تكون مستعدة لأن تتقبل تعليلا للحياة دينيا. إن العالم الغربي اليوم لا يزال تائهًا تماما في إجلال الإنتاج الماضي وفي الاعتقاد أن الرفاهية، الرفاهية وحدها، إنما هي الهدف الذي يستحق أن يكدح الإنسان إليه. إن مادية الغرب وجحوده للتوجيه الديني في التفكير يزدادان كل يوم قوة ولا ينقصان كما يظن بعض المتتبعين لهذه القضية من المسلمين المتفائلين. 

 

أما خير وسيلة يجب أن يلجأ إليها المسلمون حتى يحملوا العالم الغربي على احترامهم فهي أن يكونوا أقوياء

 

اعتراف العلم الحديث بوجود قوة مبدعة

 

لقد قيل إن العلم الحديث بدأ يعترف بوجود قوة واحدة مبدعة وراء هيكل الطبيعة المنظور، وهذا -كما يزعم هؤلاء المتفائلون- بدء فجر لوعي ديني جديد في العالم الغربي. ولكن هذا الزعم ينكشف فقط عن سوء فهم المسلمين المتفائلين للتفكير العلمي الأوروبي. ليس ثمت من عالم رصين يستطيع أو استطاع من قبل أن ينكر الترجيح بأن العالم يرجع في أصله إلى علة فعالة رئيسية.

 

ولكن القضية على كل حال هي اليوم، كما كانت دائمًا من قبل، متعلقة بالصفات التي ننسبها إلى تلك العلة. إن جميع النظم الدينية المطلقة تؤكد أن ثمت قوة ذات وعي وإدراك مطلقين، وهي قوة تُبدع هذا العالم وتقضي فيه أمرها حسب ناموس ما ومقصد ما من غير أن تكون هي نفسها مقيدة قوانين، أو بكلمة واحدة: هذه القوة هي الله.

 

إلا أن العلم الحديث -على ما هو عليه اليوم- ليس مستعدا ولا مباليا إلى أن يخطو إلى مثل هذا الحد (وفي الواقع إن هذا خارج عن نطاق العلم)، بل هو يترك قضية الوعي والاستقلال -أو بكلمة أخرى: يترك الألوهية- في تلك القوة المبدعة خاضعة للأخذ والرد. ثم إن موقفه من ذلك شيء مثل هذا: "يمكن أن يكون كذلك ولكني أنا لا أعلم وليس لدي وسيلة علمية لأن أعلم"

 

وقد تتطور هذه الفلسفة في المستقبل إلى نوع من اللاأدرية الشمولية حيث تتحد النفس بالمادة والغاية بالوجود والخالق بالمخلوق، وإنه لمن الصعب أن ننظر إلى هذا الاعتقاد على أنه خطوة نحو فكرة الله الإيجابية في الإسلام إنها هنا ليست فراقا للمادة ولكنها رفع لها إلى مستوى فكري أسمى وأصغر فحسب.

 

لماذا تراجع العداء النشط تجاه الإسلام؟

 

وفي الواقع، إن أوروبة لم تكن يومًا أبعد عن الإسلام منها اليوم. إن عداوتها الناشطة نحو ديننا يمكن أن تكون الآن آخذة بالميلان، وهذا على كل حال لا يرجع إلى قدرها التعاليم الإسلامية حق قدرها ولكنه يرجع إلى الضعف الثقافي المتزايد وإلى التفكك في العالم الإسلامي. ولقد كانت أوروبة على وجل من الإسلام فحملها وجلها منه على أن تتخذ موقفا عدائيا من كل شيء مصطبغ بالصبغة الإسلامية حتى ما كان يتعلق بالأمور الروحية والاجتماعية الخالصة.

 

ولكن لما خسر الإسلام أكثر أهميته كعامل مناهض للمصالح الأوروبية، كان من الطبيعي لأوروبة، مع تناقض وجلها من الإسلام، أن تفقد شيئًا من الشدة الأصلية لشعورها العدائي نحوه. وإذا كان هذا الشعور العدائي قد أصبح أقل بروزًا وأقل نشاطًا، فإن هذا لا يسمح لنا أن نقفز إلى الاستنتاج أن الغرب قد اقترب ضمنًا من الإسلام، إن هذا يدل على قلة اكتراثه به.

 

إن المدنية الغربية لم تبدل اتجاهها العقلي نحو الإسلام، وإنها اليوم شديدة المناهضة للفكرة الدينية في الحياة كما كانت دائمًا من قبل. ولقد ذُكر آنفًا أنه ليس ثمة قرينة تدل على أن هذا التبدل يمكن أن يتفق في المستقبل الفريب.

 

الدعوة الإسلامية في الغرب

 

إن وجود بعض الدعاة المسلمين في الغرب وإن اعتناق بعض الأوروبيين والأميركيين للإسلام -من غير أن يفهموا في أكثر الأحيان تعاليمه تماما- ليس حجة على الإطلاق، إذ إنه في العهد الذي تنتصر فيه المادة في كل مكان يبدو من الطبيعي أن بعض الأفراد هنا وهناك، من أولئك الذين لا يزالون يتوقون إلى التجدد الروحي، يُصغون بشوف إلى كل عقيدة بنيت على الفكرة الدينية.

 

ومن هذه الناحية، لا نجد الدعوة الإسلامية وحيدة في الغرب، فإن هنالك شيعا نصرانية صوفية لا يحصيها العد، لها ميول نحو الإحياء الديني، وهناك حركة إشراقية على شيء من القوة، وهنالك هياكل ورساليات بوذية، وهنالك أتباع بوذيون في المدن الأوروبية المختلفة. فالحجة نفسها إذن، التي يحتج بها الدعاة المسلمون، تصلح أن يقحتج بها الدعاة الوذيون ليقولوا إن أوروبة تقترب من البوذية.

 

ففي كلتا الحالتين نجد هذا التأكيد مضحكًا. ثم إن دخول أفراد قلائل في البوذية أو في الإسلام لا يدل قطعًا على أن إحدى العقيدتين قد بدأت تؤثر في الحياة الغربية على نطاق واسع. وقد يستطيع أحدنا أن يذهب إلى أبعد من هذا فيقول إنه ما من دعوة من هاتين الدعوتين استطاعت أن تثير فضولا ضئيلا يرجع في الأكثر إلى الروعة التي تستولي بها العقائد الأجنبية على عقول أناس ذوي ميول خيالية.

 

ومن المؤكد أن ثمة شواذ، وأن بعض المهتدين يمكن أن يكونوا من الساعين المخلصين نحو الحقيقة، إلا أن ما يشذ ليس كافيا لأن يبدل وجه المدنية. أما من الناحية الثانية فإننا إذا قُيّض لنا أن نوازن بين ذلك وبين عديد الأوروبيين الذين ينضمون كل يوم إلى صفوف المذاهب الاجتماعية المادية كالماركسية والفاشية، استطعنا أن نعرف تماما ميل المدنية الغربية الحديثة.

 

متى تنجح الدعوة إلى الإسلام في الغرب؟

 

ومن الممكن، كما ذكرنا، أن الاضطراب الاجتماعي الاقتصادي، وأن نشوب حرب عالمية جديدة لم يعرف الناس من قبل مثل اتساعها ولا مثل فظائعها بما ستقوم عليه من استخدام العلم، كل ذلك قد يقود الغرور المادي عند أهل المدنية الغربية في طريق مخوف إلى المحال. وحينئذ سيرجع العقل الأوروبي مرة ثانية إلى السعي بذلّة وإخلاص وراء الحقيقة الروحية، وحينئذ يمكن أن تنجح الدعوة إلى الإسلام في الغرب، ولكن مثل هذا التبدل لا يزال محجوبا وراء أفق المستقبل.

 

من أجل ذلك قد يقع المسلمون في تفاؤل خطر خدّاع فيما لو قالوا بأن النفوذ الإسلامي هو الآن في طريقه إلى التغلب على روح أوروبة. إن مثل هذا الاعتقاد ليس في الحقيقة سوى الاعتقاد القديم بظهور المهدي، ولكن وراء قناع يتراءى فيه العقل. إن هذا الاعتقاد خطر لأنه طيّب في النفس سهل عليها، ولأنه يحاول أن يخدعنا عن أن نرى الحقيقة، تلك أننا لسنا من الثقافة على شيء، بينما نرى النفوذ الغربي اليوم هو اليوم على أتم قوته في العالم الإسلامي.

 

ثم إننا نحن نيام بينما ذلك النفوذ الغربي يزلزل المجتمع الإسلامي ويقوضه في كل مكان. فالرغبة إذن في انتشار الإسلام شيء، وبناء الأماني الكاذية على هذه الرغبة شيء آخر.. إننا نحلم بنور الإسلام ينتشر على البلاد المترامية، بينما الشباب المسلم في جوارنا القريب يقعدون عن قضيتنا ويفرون عن آمالنا.

 


 

المصدر:

  1. الإسلام على مفترق الطرق، محمد أسد، ص55
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
النمو الصامت | مرابط
ثقافة

النمو الصامت


أخوف ما أخافه على نفسي: هذا النمو الصامت غير المحسوس للعاددات السلبية والمشاعر القبيحة والأفكار السوداوية.. تنمو ببطء وهدوء وبدون أن ننتبه أو نشعر.. وبلا أي إرهاصات ننغمس في خطوات التغيير. كم من علاقة إنسانية قوية.. نمى الإهمال فيها حتى نضج وتضخم وانتهت بالهجر والانفصال

بقلم: د. خالد الدريس
369
ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر الجزء الأول | مرابط
تعزيز اليقين تفريغات

ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر الجزء الأول


القدر مما تعبدنا الله به استسلاما له فلابد أن نعرف حكم القضاء والقدر وأن الإيمان بالقضاء والقدر واجب لنتعبد الله بالاستسلام لهذا القضاء والقدر وفي هذا المقال بجزئيه استعراض ماتع من الشيخ محمد صالح المنجد لفوائد وثمرات الإيمان بالقدر مثل حسن الظن بالله والتسليم لحكمه سبحانه

بقلم: محمد صالح المنجد
1362
قصة الله محبة وموقف الأناجيل منها ج1 | مرابط
فكر مقالات

قصة الله محبة وموقف الأناجيل منها ج1


وقال لى أحدهم وهو يحاورنى: إننا نرى أن الله محبة على عكس ما ترون فأجبت ساخرا كأننا نرى الله كراهية إن الله مصدر كل رحمة وبر وكل نعمة وخير وصحيح أننا نصفه بالسخط على الفجار والظلمة والأمر فى ذلك كما قال جل شأنه ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين أفليس الأمر كذلك لديكم إنكم تخدعون العالمين بذكر هذه الكلمة وحدها ووضع ستائر كثيفة على ما عداها من كلمات تصف الجبروت الإلهى بأشد مما ورد فى الإسلام

بقلم: محمد الغزالي
709
أسس المعرفة وأركانها | مرابط
تعزيز اليقين

أسس المعرفة وأركانها


وأول ما ينبغي النظر فيه معرفة الله تعالى بالدليل ومعلوم أن من رأى السماء مرفوعة والأرض موضوعة وشاهد الأبنية المحكمة خصوصا جسد نفسه علم أن لا بد حينئذ للصنعة من صانع وللمبني من بان. ثم يتأمل دليل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم إليه وأكبر الدلائل القرءان الذي أعجز الخلق أن يأتوا بسورة من مثله. فإذا ثبت عنده وجود الخالق وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وجب تسليم عنانه إلى الشرع فمتى لم يفعل دل على خلل في اعتقاده.

بقلم: ابن الجوزي
403
هداية الإنسان إلى الاستغناء بالقرآن | مرابط
مناقشات

هداية الإنسان إلى الاستغناء بالقرآن


جعل ابن المبرد كتابه في مئة فصل وهي تدور على ثلاثة أضرب: الأول في التشويق للقرآن وتدبر علومه وبيان فضائله وحال السلف معه. والثاني: ذكر بعض المباحث في علوم القرآن والتفسير وهي قليلة. والثالث: أحكام التلاوة والقيام بالقرآن وآداب القراءة والاستماع ووجوه الانتفاع بالقرآن وتعظيمه وتحليته وتعليمه.

بقلم: عبد الله الوهيبي
413
القدوة التربوية | مرابط
مقالات ثقافة

القدوة التربوية


لم يجعل الله تعالى كتابه حجة على قوم إلا برسول يبعثه إليهم يبلغهم البلاغ القولي بتلاوة آياته والعملي بتمثل أحكامه .. فاصطفى - سبحانه - من الناس رسلا كراما حتى ختم الرسالات بمحمد عليه الصلاة والسلام فبلغ البلاغين وفقا لأمر ربه فكان من بلاغة أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - حين سئلت عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قالت: كان خلقه القرآن.

بقلم: مشاري الشثري
210