ضوابط الخلاف الفقهي

ضوابط الخلاف الفقهي | مرابط

الكاتب: الشيخ الألباني

942 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ما رأيكم في هذه العبارة التي قررها كاتب إسلامي كبير، قال هذا الكاتب: والبدعة الإضافية والتّركية، والالتزام بها في العبادات المطلقة خلاف فقهي، لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل؟

الضابط الأول: عدم الإنكار على المخالف في الفروع الفقهية

جوابًا على هذه العبارة أقول: لا شك أن المسائل الخلافية ينبغي ألا يشتد الخلاف فيها، بحيث أن المختلفين يتخاصمون من أجل الخلاف؛ ذلك لأن الخلاف أمر طبيعي، أي: من السُنن الكونية التي فرضها الله عز وجل على الناس فرضًا، ولو استطاعوا أن يكونوا كلهم على فكرة واحدة ورأي واحد لاستحال ذلك عليهم، لكن ليس مستحيلًا أبدًا أنهم حينما يختلفون فيما لابد من الاختلاف فيه، ألا يحملهم هذا الاختلاف على التباغض والتباعد والخصام والتعادي، فهذا بالإمكان ألا يقعوا فيه، وأسوتهم في ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهم كما سمعتم في الحديث السابق: (خير الناس قرني) فهم خير الناس من بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، وإخوانه من الأنبياء المتقدمين.

فأقول: إن هؤلاء الصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة، ولكن نلاحظ أن هذا الاختلاف لم يتعد الخلافات التي يسمونها بالفروع الفقهية، ولم يتعد إلى الاختلافات الاعتقادية الفكرية، وهذا من فضل الصحابة.

فهؤلاء لما اختلفوا في بعض المسائل الفقهية لم يعاد بعضهم بعضًا، مثلًا: منهم من تمسك بقول الإمام أبي حنيفة، فقال: خروج الدم ينقض الوضوء.

وفيهم من تمسك بقول الإمام الشافعي فقال: مس المرأة ينقض الوضوء.

ونحو ذلك من الاختلافات، ولكن هل وصل الأمر بذاك الصحابي الذي يرى بأن خروج الدم ينقض الوضوء باجتهاد منه، ألا يصلي وراء أخيه الصحابي الذي يراه توضأ ثم خرج منه دم ولم يعد الوضوء كما نفعل نحن اليوم؟ الجواب: لا والله، لم يؤدِ بهم الاختلاف إلى هذا الشقاق وهذا التنازع والتنافر.

إذًا: إذا كان لابد من الاختلاف؛ لأن الله فرض ذلك على الناس، بسبب أنه جعل لكل منهم طاقة فكرية وعلمية خاصة به، تختلف عن طاقات الآخرين.

نقول: هذا الخلاف أمر طبيعي وفطري لابد منه، ولكن ينبغي ألا يكون هذا الاختلاف سببًا للنزاع والشقاق، ومنه هذا الذي نهى عنه ربنا عز وجل في قوله: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] هذا الذي نهى عنه ربنا عز وجل، لكن لم ينه أن الإنسان لاجتهاده إذا وصل إلى رأي خالف فيه رأي الآخر، ولم يصدم برأيه نصًا، كما يفعل المتأخرون المقلدون اليوم.

هذه ضابطة لابد منها قبل الدخول للإجابة عن السؤال مباشرة.

الضابط الثاني: حقيقة المخالف ودرجته العلمية

ضابطة أخرى: الذين قد يختلفون من هم؟ هذه نقطة مهمة جدًا لنفهم الجواب عن هذا السؤال.

إن الكاتب المشار إليه يقول: البدعة الإضافية والتركية والالتزام بها في العبادات المطلقة خلافٌ فقهي.

الخلاف الفقهي هل هو إذا كان هناك مجتهد بل مجتهدون لهم رأي متفقون عليه، ثم جاء بعض المقلدين فبنوا رأيًا لهم، ثم جاء بعض المتأخرين فقالوا: الخلاف فقهي.

وهذا تعبير غير علمي صحيح، فالخلاف الفقهي هو الذي يكون مداره بين الأئمة المجتهدين، الذين هم في أنفسهم -قبل أن يشهد لهم الناس- يشعرون بأنهم قد بلغوا من المنزلة في العلم تمكنهم بأن يقول أحدهم: أنا أرى كذا، أنا أفهم كذا.

ثم شهد الناس -فيما بعد- لهم بأنهم قد وصلوا هذه المرتبة، وهذه الشهادة ليست هي التي بررت لهم ذلك، وإنما هذه الشهادة تكشف عن حقيقة ما وصلوا إليه من المرتبة في العلم.

أما إذا كان الذين اختلفوا أو خالفوا ليسوا من المجتهدين في واقع أنفسهم، بل هم يصرحون للناس بأنهم ليسوا كذلك، بل وأكثر من ذلك يفخرون بأنهم ليسوا مجتهدين، وإن كانوا لا يفصحون هذا الإفصاح، لكننا إذا فسرنا قول بعضهم حينما يفخرون بأنهم مقلدون، فتفسير ذلك أنهم يفخرون بأنهم غير مجتهدين، ولا فرق حين ذلك في التعبير إلا فرقًا لفظيًا، كذلك الفرق على مذهب الحنفية، أو عند الحنفية.

المعنى واحد، فهؤلاء الذين يفخرون بأنهم مقلدون، ذلك يساوي أنهم يفخرون بأنهم غير مجتهدين، وهذا يساوي في نهاية المطاف أنهم يفخرون بأنهم غير علماء، وهذا يساوي أنهم جهال.

مدى صحة القول بأن هناك بدعة حسنة ومن قال به

إذا عرفنا هذه الحقيقة، ولا مجال لأحدٍ أبدًا إلى إنكارها، حينئذٍ أين هذا الخلاف الفقهي؟ من هم الأئمة المجتهدون الذين قالوا بأن هناك في الدين بدعة حسنة؟ أما أن هناك مِن المقلدين من استدل على ما ذهب إليه من استحسان البدعة في الدين واحتج برأي إمام، فأبدًا لا يوجد لديهم أثر واحد عن إمام من الأئمة المجتهدين، لا سيما حينما يحصرون الأئمة الأربعة فقط.

إذًا: غرضي من هذا لفت النظر إلى أن هذا الكاتب لم يكن تعبيره تعبيرًا علميًا دقيقًا؛ لأنه حشر في جملة العلماء هؤلاء المقلدين الذين هم يتبرءون من أن يكونوا من العلماء، هذا لازمهم شاءوا أم أبوا، وما دام أنهم يعترفون بأنهم مقلدون فهم ليسوا بعلماء، وهم يقولون ذلك.

ما هي وظيفة المقلد؟ هذه حقائق نستطيع أن نجابه بها أكبر مقلد، إذا كان هناك مقلد -كبير أو صغير- فنقول حينذاك: الذي يزعم بأن في مسألة الابتداع خلافًا فقهيًا، فمن هم العلماء والفقهاء حقيقة الذين قالوا: إن البدعة في الدين تنقسم إلى بدعة حسنة، وإلى بدعة سيئة؟ هذه واحدة.

والأخرى نطالبهم بالإتيان ببعض الأمثلة مما استحسنها وابتدعها أولئك الأئمة الذين يزعمون أنهم يتمسكون بأقوالهم، لو سألنا اليوم مشايخ التقليد: هاتوا مثالًا من البدعة الحسنة، لملئوا كتبًا ومجلدات لإحصائها، كثيرة وكثيرة جدًا، فهاتوا عشر بدع فقط عن إمام من أئمة المسلمين الذين تنتمون إليهم قال: هذه بدعة حسنة، وليس عليها دليل من الكتاب والسنة؛ لأن هنا تفصيلًا ذكرناه مرارًا، ليس كل شيء حدث مجرد حدوث ووقوع بعد الرسول يكون بدعة، وإنما هذا بشرط: ألا يكون عليه دليل من الكتاب والسنة، ومن هنا يخطئ المتأخرون الذين يذهبون إلى تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام، فيقولون: بدعة فرض: ومثالها: جمع القرآن -عياذًا بالله- جمع القرآن بدعة؟! لماذا يقولون هكذا؟ لأن الجمع وقع بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، الجمع الصوري بكيفية معينة وقع بعد الرسول، مثل: الطباعة الآن، الطباعة ما كانت في زمن الرسول، فما نسميها بدعة، وهذه لها فصل وباب خاص في علم الأصول هو باب: المصالح المرسلة.

فهذا من المصالح المرسلة، فيقولون: جمع القرآن بدعة، ويقولون: جمع عمر بن الخطاب الصحابة على التراويح بدعة، وقد يقولون -أقول هذا بتحفظ- إخراج عمر بن الخطاب اليهود من خيبر بدعة، مع أن هذه الأشياء عليها نصوص صريحة، التراويح تكلمنا عليها مرارًا وتكرارًا، فقد سنها الرسول بفعله، وحض عليها بقوله، وقال للذي يصلي صلاة القيام في رمضان مع الإمام وصلاة الفجر مع الإمام فكأنما قام الليل كله، مع ذلك يقال: إن جمع الناس على التراويح بدعة! فهذا أحد شيئين: إما أنهم يجهلون هذه السنن فيسمونها بغير اسمها، وهذا موضوع ينزع من البعيدين عن التفقه بالكتاب والسنة، أو إنهم -وهذا خير الظنين بهم- يسمونها بذلك مجازًا كما وقع من بعض السلف، فـ عمر بن الخطاب -مثلًا- سمى التراويح بدعة حين قال: [نعمت البدعة هذه] ، وهو لا يعني البدعة التي أطلقها المتأخرون: بدعة في الدين، وهو إحداث عبادة على غير مثال سابق، لا من فعله عليه الصلاة والسلام ولا من قوله.

إذًا: في هذه الجملة: خلاف فقهي، تسامح في التعبير؛ لأن هذا الخلاف ليس قائمًا بين المجتهدين، وإنما هو قائم بين المجتهدين والمقلدين، والمقلد لا رأي له بشهادتهم أنفسهم، فلا قيمة لقول أحدهم في رأيه واجتهاده أبدًا.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الخلاف-الفقهي
اقرأ أيضا
شبهات حول المرأة الجزء الأول | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين المرأة

شبهات حول المرأة الجزء الأول


يمكن القول بأن الجاهلية جمعت شبهاتها حول الشريعة في المرأة وقد انعكست الطبيعة العاطفية لهذه القضية على هذه الشبهات مما ساهم في طرحها على سرعة التفاعل معها وخصوصا عندما تكون الأحكام الشرعية في الأساس غير مرهونة بمعرفة العلة العقلية منها ومن هنا كانت مواجهة شبهات الكافرين والمنافقين حول المرأة في حقيقتها مواجهة لأبعاد أساسية في قضية الشبهات الجاهلية حول الشريعة الإسلامية وليست مجرد شبهة واحدة كغيرها من الشبهات

بقلم: رفاعي جمعة
2431
حياتنا بين هموم الدنيا والآخرة الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات

حياتنا بين هموم الدنيا والآخرة الجزء الثاني


ثم ورث هموم الآخرة الصالحون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويظهر ذلك في أمانيهم وأحلامهم وتتبع أحوالهم ومن ذلك أن عمر قال لأصحابه يوما: تمنوا فقال رجل منهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله عز وجل فقال: تمنوا فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزبرجدا وجوهرا أنفقه في سبيل الله عز وجل وأتصدق بهثم قال: تمنوا قالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين قال عمر: لكني أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح

بقلم: د منقذ بن محمود السقار
1430
قصص وعبر للنساء ج2 | مرابط
تفريغات المرأة

قصص وعبر للنساء ج2


تفريغ لمحاضرة تأتي ضمن سلسلة من الرسائل النسائية يبدأها الدكتور نبيل العوضي بالرسالة الأولى بعنوان: قصص وعبر وكل قصة من هذه القصص تحمل عبرة فإن من النساء بل من الناس عموما من تمر عليه القصص فلا يعتبر والسعيد من اتعظ بغيره نبدأ هذه القصص لا للتسلية ولا لقضاء الأوقات ولا للطرف ولا للهزل إنما نقص هذه القصص للعبرة

بقلم: د نبيل العوضي
383
موسم الإنكار على منكري المنكر | مرابط
فكر الليبرالية

موسم الإنكار على منكري المنكر


إن دين الليبرالية هو أكبر قضايا المسلمين في حاضرنا وتتبع صوره المتنوعة وكشف موالجه للنفوس واجب على ذوي العلم.وكل خبيثة دسها الليبراليون قبلا بخضوع المستضعفين يوجبون الآن طاعتها بصلف الجبارين! وكل شرعة غمروها قبلا بنسبية المؤولين يبطلونها اليوم بوعيد الطاغين!

بقلم: عمرو عبد العزيز
349
حول بيع وشراء القطط | مرابط
مقالات

حول بيع وشراء القطط


انتشر بين المسلمين اليوم ظاهرة شراء وبيع القطط والحيوانات بشكل عام فما حكم ذلك شرعا؟ يجيبك الدكتور قاسم اكحيلات ويوضح لك مذهب الجمهور وتفصيلات المسألة والصواب فيها.

بقلم: قاسم اكحيلات
301
فصل في خدمة المرأة لزوجها | مرابط
مقالات

فصل في خدمة المرأة لزوجها


وأما ترفيه المرأة وخدمة الزوج وكنسه وطحنه وعجنه وغسيله وفرشه وقيامه بخدمة البيت فمن المنكر والله تعالى يقول: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف. وقال تعالى: الرجال قوامون على النساء. وإذا لم تخدمه المرأة بل يكون هو الخادم لها فهي القوامة عليه.

بقلم: ابن القيم
399