من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج1

من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج1 | مرابط

الكاتب: أبو إسحق الحويني

627 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

إن الأمانة اسم عام لكل تكليف كلفناه ربنا تبارك وتعالى أو الرسول عليه الصلاة والسلام.. كما في قول الله عز وجل: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] فالأمانة هي كلمة: لا إله إلا الله بتكاليفها، هذه هي التي أشفقت السماوات والأرض والجبال عن حملها..

وفي حديث حذيفة قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال).

الجذر الذي هو الأصل، أي: أن تعظيم حرمات الله عز وجل إنما يكون محله القلب، وهذا يصدقه قول ابن عمر وقول حذيفة أيضًا: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن) فهذا الإيمان هو الأمانة، وعادة لا ينشط الرجل إلى فعل ما أمره الله عز وجل إلا والإيمان رائده، فالذي يفرط في أوامر الله عز وجل خائن، إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، ليس المقصود بالأمانة أن يعطى رجل آخر مبلغًا من المال فيأكله.. لا، هذا لون من ألوان الخيانة، لكن أعظم الخيانة أن يخون الرجل ما أمره الله عز وجل بحفظه لاسيما العقد الأول الذي أنت وقعت عليه، ووقعه كل إنسان على وجه الأرض، فخانه أكثر الناس.. قال تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] هذا هو التوقيع، شهدوا لله عز وجل بالوحدانية، أعظم الأمانة خيانة توحيدك، فكل البشرية جميعًا شهدوا على أنفسهم ووقعوا هذا العقد، قالوا: بلى شهدنا، فقال الله عز وجل لهم: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]، أي: إنما أشهدتكم حتى لا يقول قائل: إني غافل عن هذا.

هل أحد منا يذكر هذه المراجعة؟ لا أحد على الإطلاق يذكر هذه المراجعة؛ لأن الله عز وجل إنما فعل ذلك ونحن في عالم الأرواح، كما في الحديث الصحيح الذي يفسر هذه الآية أن الله تبارك وتعالى مسح ظهر آدم فاستخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيام، ثم خاطبهم في عالم الأرواح -في عالم الغيب- جعل لهم أرواحًا وخاطبهم.. ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا، قال: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] فلما لم يذكر العباد هذا الميثاق أرسل الله عز وجل الرسل تذكر العباد بهذا الميثاق إذ جزاء العقاب والثواب إنما هو مرهون ببعثة الرسول. قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] وأخطأ من زعم أن هذا الميثاق حجة على كل العباد، ولا يعذر بالجهل بسبب هذا، أن الكل أقر في عالم الغيب أن الله عز وجل هو ربهم.. لا. بل العذاب والثواب كله مرهون ببعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم بوصول البيان والبلاغ، قال تبارك وتعالى: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] فمن بلغته النذارة انقطعت حجته، وانقطع عذره، أما إذا بعث الرسول عليه الصلاة والسلام ومع ذلك لم يصل كلامه إلى إنسان معين، فهذا الرجل يعذر بجهله حتى تقوم عليه الحجة الرسالية التي يكفر تاركها.. فأجل الأمانة التوحيد.. لذلك حفاظك على توحيدك أمانة، وتفريط الإنسان في معرفة التوحيد خيانة لهذه الأمانة.

 

من ضياع الأمانة: ضياع الأحكام والفرائض

كلمة: (إذا ضيعت الأمانة) لفظ عام يشمل دين الله تبارك وتعالى كله، يعني: إذا ضيع دين الله عز وجل فانتظر الساعة، وقد ورد في أحاديث كثيرة أن من علامات الساعة ضياع الصلاة، وضياع الحكم، فأنت ترى أن ثلث الأمة لا يصلي مثلًا وربما أكثر من الثلث، والصلاة فرض عين على كل إنسان ومع ذلك هؤلاء لا يصلون.

حتى أن صلة بن زفر راجع حذيفة بن اليمان في هذا الصنف من الناس.. يقول حذيفة (إنه في آخر الزمان يكون قوم لا يدرون ما الصلاة ولا الزكاة ولا الحج)، ولا يدرون شيئًا من أوامر الله عز وجل، إنما يقولون: لا إله إلا الله، -هذه الكلمة كما لو كانت كلمة تراثية أو شيء موضوع في متحف- ما معنى لا إله إلا الله؟ قالوا: لا ندري إنما أدركنا آباءنا يقولوها فنحن نقولها.. يعني: هم ورثوا لا إله إلا الله فهم يقولونها كما قالها أسلافهم، لكن لا يدرون شيئًا عن مقتضياتها.

وبكل أسف فهذا هو الفرق بين الوارث والعامل، الذي ورث الكتاب ليس كالذي تلقى الكتاب وناضل من أجله، هناك فرق.. فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ [الأعراف:169] هناك فرق بين من قاتل على تنزيل آيات الكتاب، وبين من ورث الكتاب، فرق كبير جدًا.. الذين ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون: سيغفر لنا، فانظر الربا مثلًا المعصية الوحيدة التي ذكر الله عز وجل فيها الحرب: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ [البقرة:279]، ومع ذلك فهناك أحد المفتين جاءه رجل فقال: والله أنا مضطر أن أقترض بالربا ولا أجد أحدًا يقرضني إلا بالربا، فهل تجد لي مناصًا وخلاصًا من إثم الربا؟ قال: نعم. هو يعطيك مثلًا المائة بمائة وعشرة، أنت تقول: هذا ربا، لكن تتخلص من الربا، قل: لله علي أن أعطيه عن كل مائة عشرة، فصار نذرًا واجب الوفاء -فهذا لعب بالشرع-، يقول له: أنت العب واجعله نذرًا، وقل: لله علي أن أعطيه عن كل مائة عشرة، فصار النذر في حقك فرضًا، إذًا: أنت في هذه الحالة تؤدي ما افترضته على نفسك وليس هذا من الربا بسبيل.

لو كان هذا من الصحابة الذين تلقوا الكتاب هل ممكن يهون عليه أن يفعل هذا؟ أبدًا. لا يمكن، وأنت اعتبر بسيرة أبي ذر رضي الله عنه في الصحيحين لما بعث النبي عليه الصلاة والسلام فأرسل أبو ذر أخاه يسأل عن هذا الرسول وما صفته؟ وماذا يقول؟ وما رسالته؟ ونحو ذلك، فذهب وسمع وبعد ذلك رجع إلى أبي ذر وقال: وجدته يأمر بمكارم الأخلاق، ويدعو لعبادة الله، قال له: ما شفيتني، ثم ركب أبو ذر راحلته ورحل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.. ودخل مكة وإذا أهلها أشد حربًا على النبي عليه الصلاة والسلام وعلى أصحابه، فـأبو ذر رأى الأوضاع سيئة وأنهم يضطهدون أتباع النبي صلى الله عليه وسلم فأحب أن يتخلص من العنت والمشقة، فأراد أن يسأل عن النبي عليه الصلاة والسلام دون مشاكل، قال: فتضعفت رجلًا منهم قال: أسأله لأنه لن يعمل شيئًا حتى لو غضب مني، فهو ضعيف لا يستطيع أن يدخل معي في مبارزة ولا قتال، أتعرفون! هذا الضعيف وضعوه فخًا، أي واحد يدخل مكة ويسأله عن النبي عليه الصلاة والسلام يشير إشارة فقط فيأتي كل كفار قريش فيضربونه.

فـأبو ذر يقول: فتضعفت رجلًا منهم؛ لأن الضعيف مأمون الغائلة غالبًا، قال: فقلت له: أين ذلك الصابئ الذي يدعو إلى كذا وكذا؟ فقال ذلك الرجل: الصابئ الصابئ.. قال: فانقلب علي القوم بكل مدرة وعظم، هذا جاء بلحي بعير، والثاني جاء بعظمة حمار، قال: وانهالوا علي جميعًا، فما تركوني إلا وقد جعلوني نصبًا أحمر، والنصب التمثال إذا سكب عليه دم، أي: أن الدماء سالت منه بسبب الضرب الذي هم ضربوه، قال: فمشيت إلى زمزم، وليس له إلا ماء زمزم يشرب منها، هو طعام وشراب، قال: حتى تكسرت عكن بطني ولم أجد على كبدي سخفة جوع، صار ذو كرش، وزال أثر الجوع تمامًا من على كبده.

فالمهم عندما خرج مر عليه علي بن أبي طالب وكل منهم ينظر إلى الآخر ولا يكلم الآخر، ثم في اليوم الثاني جاء علي بن أبي طالب فجعل يقول له: أما آن للغريب أن يعرف مثواه، يعرض عليه الكلام، حتى أمن لـعلي بن أبي طالب فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: اتبعني.. امش خلفي، فإذا خفت عليك جلست كأنني أصلح نعلي. يعني: إذا قعدت كأني أصلح نعلي فاستمر في المشي كأنك لا تعرفني.

وبعد ذلك أخذه علي بن أبي طالب ومضى خلفه حتى ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأسلم أبو ذر وسمع آيات القرآن، فأخذته الحمية ورجع مرة أخرى إلى المسجد الحرام وقال: والله لأصرخن بها بينهم، وصرخ بها بينهم في المسجد الحرام، فانهالوا عليه مثل المرة الأولى، وما خلصه إلا العباس مثلما خلصه في المرة الأولى، وقال: ويلكم! ألا تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجارتكم يمر من غفار.. فأنتم إذا قتلتموه وقفت لكم غفار بالمرصاد، وقطعوا عليكم الطريق، وأخذوا التجارة منكم. فلما ذكر لهم ذلك سكتوا وكفوا عنه.

فمثل أبي ذر هل من الممكن أن تهون عليه آية من آيات الكتاب فيحرفها لمأرب شخصي أو لعرض من أعراض الدنيا؟ هذا مستحيل، لذلك الفرق بين الذي أنزل عليه الكتاب والذي تلقاه وورثه كبير جدًا، وأنت اعتبر في الدنيا بالرجل المكافح الذي جمع ماله حال شبابه، وكان قبل ليس له مال، بدأ من الصفر وجعل يجتهد في جمع المال، ولا يمكن أن هذا الرجل ينفق المال بسفه، كل مسألة ومشروع يريده يعمل له دراسة جدوى؟ هل هو أفضل أم الفلوس أفضل، ودائمًا تجده حكيمًا في التصرف والنفقة، حتى جمع ألوفًا وملايين ثم مات، وورث ابنه هذا المال، فلو أنفق المال كله في ضحوة من نهار ما ذرف عليه دمعة واحدة، ولو المال كله احترق لا يبكي عليه.. لماذا؟ لأنه ما جمع هذا المال، ولا تعب عليه.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
نظرات في فاتحة الكتاب الحكيم الجزء الثاني | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

نظرات في فاتحة الكتاب الحكيم الجزء الثاني


بين يديكم مقالة تحليلية للكاتب محمد عبد الله دراز يتناول فيها فاتحة الكتاب ليخرج لنا الكثير من الكنوز والأسرار واللفتات والإضاءات التي ربما لم نلحظها أو لم ننتبه إليها من قبل فهو لا يتناول السورة بمعزل عن سور القرآن وإنما ينظر إلى مقاصدها وخطابها ومعانيها مقارنة ببقية السور وفي ضوء مقاصد الدين ورسالة الإسلام

بقلم: محمد عبد الله دراز
2480
من أخلاق الكبار: ابن هبيرة | مرابط
تفريغات

من أخلاق الكبار: ابن هبيرة


ترفعوا أيها الإخوة وارتفعوا إلى أعلى وحلقوا النفس يجذبها الطين فتجردوا من الأهواء والحظوظ النفسانية هذا في مسائل العلم أما في أمور المعاش والعلاقات الاجتماعية والتجارية وغير ذلك مما يعايشه الإنسان صباح مساء ولا بد أن يجد فيه ما يجد من تقصير في حقه ومظلمة وإساءة وكلمة لربما لا يتحملها كثير من الناس فكيف يصنع؟ اسأل نفسك أنت ولا تبحث في ذهنك وتذهب إلى إنسان آخر اسأل نفسك ما موقفك حينما يبلغك أن فلانا من الناس يتكلم في حقك ويقع في عرضك كيف تصنع؟

بقلم: خالد السبت
380
الحركة النسوية من المطالب إلى المثالب | مرابط
النسوية

الحركة النسوية من المطالب إلى المثالب


عند النظر إلى تلك الحركات والمنظمات النسوية نجد أنها نابعة من أرضية لا دينية ووليدة حكومات ومجتمعات غربية لا تملك أدنى مقومات إنصاف المرأة فالمرأة هناك تستغل أبشع استغلال لتعيش وتعيل نفسها وعائلتها أما فكرة تحرير المرأة في العالم العربي فلم تبرز إلا من خلال الاستعمار الغربي لدول المنطقة العربية فالمتأمل لواقع الشخصيات النسائية اللاتي تبنين تلك التوجهات يجدهن شخصيات تأثرت بالمدنية الغربية فضلا عن أنهن عشن ظروفا اجتماعية قاسية انعكست سلبا على فكرهن وتوجههن لاحقا

بقلم: نورة بنت عبد الرحمن الكثير
914
عداء اليهود للمسلمين الجزء الأول | مرابط
تفريغات

عداء اليهود للمسلمين الجزء الأول


تمكن المسلمون من فتح الأندلس ثم خرجوا منها وليس ذلك بسبب قوة أعدائهم وإنما بتفرق كلمتهم وتجزئهم وانقسامهم فأزال الله سبحانه وتعالى دولتهم وخرجوا من تلك الديار بعد أن عمروها مئات السنين واليوم في وسط بلاد المسلمين تقوم دولة لليهود اغتصبت جزءا من ديار المسلمين في أول الأمر ثم زادت عليه فأخذت فلسطين كلها وأخذت أجزاء أخرى من بلاد المسلمين وهي تطمع غدا في احتلال الأردن وسوريا ومصر والعراق وتصل إلى منابع النفط وإلى المدينة المنورة وإلى خيبر حيث كان يقيم آباؤهم وأجدادهم في الماضي

بقلم: عمر الأشقر
1148
شخصية السامري | مرابط
فكر مقالات

شخصية السامري


لكن لماذا كذب السامري؟ وماذا كان يتوقع لكذبته؟ الحقيقة هذان السؤالان من أكثر ما يثير الدهشة في قصة السامري وكل سامري. أما عن السؤال الثاني وتوقعه لمستقبل كذبته فلربما ظن أن موسى لن يرجع من ميقات ربه ولن يكشف سذاجة كذبته بمنتهى السهولة بمجرد عودته ولربما كان يتوقع أن ينتصر له قومه الماديون حتى إن عاد نبيهم.. المشكلة فعلا في السؤال الأول: لماذا؟!

بقلم: محمد علي يوسف
390
شبهات حول الحجاب: الحجاب تزمت بغيض | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

شبهات حول الحجاب: الحجاب تزمت بغيض


يقول بعض المعترضين: الحجاب تزمت وتعصب وتكلف في اللباس وتضييق على النفس وإمعان في السير في مضايق الحرج والإعنات هكذا لسان من يعادون الحجاب وينصبون له لواء البغض فهل لكلامهم رصيد من صواب وهل يستحق شيئا من الاعتداد بين يديكم الإجابة على هذه الفرية

بقلم: سامي عامري
943