شبح الحروب الصليبية الجزء الأول

شبح الحروب الصليبية الجزء الأول | مرابط

الكاتب: محمد أسد

2171 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

هناك بالإضافة إلى فقدان التجانس الروحي، سبب آخر يحمل المسلمين على ألا يقلدوا المدنية الغربية: إنه التجارب التاريخية التي اصطبعت صباغا شديدًا بعداوة غريبة للإسلام.

 

وهذا أيضًا، إلى حد ما، إرث أوروبة من اليونان والرومان. إن اليونانيين والرومانيين نظروا إلى أنفسهم على أنهم هم وحدهم المتمدينون. أما كل من كان أجنبيا عنهم، وعلى الأخص أولئك الذين كانوا يعيشون شرق البحر المتوسط، فقد كان اليونانيون والرومانيون يطلقون عليهم لفظ البرابرة. ومنذ ذلك الحين والأوروبيون يعتقدون أن تفوقهم العنصري على سائر البشر أمر واقع. ثم إن احتقارهم إلى حد بعيد أو قريب لكل ما ليس أوروبيًا من أجناس الناس وشعوبهم قد أصبح إحدى الميزات البارزة في المدنية الغربية.

 

التعصب الأوروبي ضد الإسلام خاصة

 

على أن هذا وحده لا يكفي لإظهار ما يكنه الأوروبيون نحو الإسلام خاصة. وهنا، وهنا فقط (نعني فيما يتعلق بالإسلام) لا تجد موقف الأوروبي موقف كره في غير مبالاة فحسب كما هي الحال في موقفه من سائر الأديان والثقافات: بل هو كره عميق الجذور يقوم في الأكثر على صدود من التعصب الشديد. وهذا الكره ليس عقليًا فحسب، ولكنه يصطبغ أيضًا بصبغة عاطفية قوية، قد لا تتقبل أوروبة تعاليم الفلسفة البوذية أو الهندوكية، ولكنها تحتفظ دائمًا فيما يتعلق بهذين المذهبين بموقف عقلي متزن ومبني على التفكير. إلا أنها حالما تتجه إلى الإسلام يختل التوازن ويأخذ الميل العاطفي بالتسرب

 

حتى إن أبرز المستشرقين الأوروبيين جعلوا من أنفسهم فريسة التحزب غير العلمي في كتاباتهم عن الإسلام. ويظهر في جميع بحوثهم على الأكثر كما لو أن الإسلام لا يمكن أن يعالج على أنه موضوع بحت في البحث العلمي، بل على أنه متهم يقف أمام قضاته. إن بعض المستشرقين يمثلون دور المدعي العام الذي يحاول إثبات الجريمة، وبعضهم يقوم مقام المحامي في الدفاع، فهو مع اقتناعه شخصيًا بإجرام موكله لا يستطيع أكثر من أن يطلب له مع شيء من الفتور "اعتبار الأسباب المخففة" وعلى الجملة فإن طريقة الاستقراء والاستنتاج التي يتبعها أكثر المستشرقين تذكرنا بوقائع دواوين التفتيش، تلك الدواوين التي أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية لخصومها في العصور الوسطى.

 

أي أن تلك الطريقة لم يتفق لها أبدًا أن نظرت في القرائن التاريخية بتجرد، ولكنها كانت في كل دعوى تبدأ باستنتاج متفق عليه من قبل، قد أملاه عليها تعصبها لرأيها، ويختار المستشرقون شهودهم حسب الاستنتاج الذي يقصدون أن يصلوا إليه مبدئيًا. وإذا تعذر عليهم الاختيار العرفي للشهود، عمدوا إلى اقتطاع أقسام من الحقيقة التي شهد بها الشهود الحاضرون ثم فصلوها من المتن أو تأولوا الشهادات بروح غير علمي من سوء القصد غير أن ينسبوا قيمة ما إلى عرض القضية من وجهة نظر الجانب الآخر أي من قبل المسلمين أنفسهم.

 

وليست نتيجة هذه المحاكمة سوى صورة مشوّهة للإسلام وللأمور الإسلامية تواجهنا في جميع ما كتبه مستشرقو أوروبة، وليس ذلك قاصرًا على بلد دون آخر.. إنك تجده في إنكلترة وألمانية، في الروسية وفرنسية، وفي إيطالية وهولندة، وبكلمة واحدة: في كل صقع يتجه المستشرقون فيه بأبصارهم نحو الإسلام. ويظهر أنهم ينتشون بشيء من السرور الخبيث حينما تعرض لهم فرصة -حقيقية أو خيالية- ينالون بها من الإسلام عن طريق النقد.

 

وبما أن هؤلاء المستشرقين ليسوا سلالة خاصة، ولكنهم طلائع مدنيّتهم وطلائع بيئتهم الاجتماعية، فإننا من أجل ذلك يجب أن نصل ضرورة إلى أن نستنتج أن في العقل الأوروبي على العموم -لسبب ما - ميلا عن الإسلام بما هو دين وبما هو ثقافة. إن سببا واحدًا لذلك يمكن أن يُعزى إلى الأرث الذي قسم العالم يومذاك أوروبيين وبرابرة. وأما السبب الآخر وهو أشد صلة مباشرة بالإسلام، فيمكننا أن نتبعه إذا ولّينا أبصارنا شطر الماضي، وخصوصًا إلى تاريخ العصور الوسطى.

 

أثر الحروب الصليبية

 

إن الاصطدام العنيف الأول بين أوروبة المتحدة من جانب وبين الإسلام من الجانب الآخر، أي الحروب الصليبية، يتقف مع بزوغ فجر المدنيّة الأوروبية. في ذلك الحين أخذت هذه المدنية -وكانت لا تزال على اتصال بالكنسية- تشق سبيلها الخاص بعد تلك القرون المظلمة التي تبعت انحلال رومية. حينذاك بدأت آداب أوروبة ربيعا منورا جديدًا. وكانت الفنون الجميلة قد بدأت بالاستيقاظ ببطء من سبات خلفته هجرات الغزو التي قام بها القوط والهون والأفاريون. ولقد استطاعت أوروبة أن تتملص من تلك الأحوال الخشنة في أوائل القرون الوسطى، ثم اكتسبت وعيا ثقافيا جديدًا، وعن طريق ذلك الوعي كسبت أيضًا حسا مرهفًا. ولما كانت أوروبة في وسط هذا المأزق الحرج، حملتها الحروب الصليبية على ذلك اللقاء العدائي بالعالم الإسلامي.

 

لقد كانت ثمة حروب بين المسلمين والأوروبيين قبل عصر الحروب الصليبية: كانت فتوح العرب في صقلية والأندلس، وكان هجومهم على جنوب فرنسة، ولكن هذه المعارك كانت قبل أن تستيقظ أوروبة إلى وعيها الثقافي الجديد، فاتسمت من أجل ذلك، ومن وجهة النظر الأوروبية على الأقل، بطابع ذي نتائج محلية، ولم تكن تلك المعارك قد فُهمت بعد على وجهها الحقيقي. إن الحروب الصليبية هي التي عيّنت في المقام الأول والمقام الأهم موقف أوروبة من الإسلام لبضعة قرون تتلو. ولقد كانت الحروب الصليبية في ذلك حاسمة لأنها حدثت في أثناء طفولة أوروبا، في العهد الذي كانت فيه الخصائص الثقافية الخاصة قد أخذت تعرض نفسها، وكانت لا تزال في طور تشكلها والشعوب كالأفراد، إذا اعتبرنا أن المؤثرات العنيفة التي تحدث في أوائل الطفولة تظل مستمرة ظاهرا أو باطنا مدى الحياة التالية.

 

وتظل تلك المؤثرات محفورة حفرًا عميقًا، حتى إنه لا يمكن للتجارب العقلية في الدور المتأخر من الحياة المتسم بالتفكير أكثر من اتسامه بالعاطفة أن تمحوها إلا بصعوبة، ثم يندر أن تزول آثارهما تماما. وهكذا كان شأن الحروب الصليبية فإنها أحدثت أثرًا من أعمق الآثار وأبقاها في نفسية الشعب الأوروبي. وإن الحمية الجاهلية العامة التي أثارتها تلك الحروب في زمنها لا يمكن أن تقارن بشيء خبرته أوروبة من قبل، ولا اتفق لها من بعد.

 

 

أوروبا ولدت من روح الحروب الصليبية

 

لقد اجتاحت القارة الأوروبية كلها موجة من النشوة، كانت-في مدة ما على الأقل- عنفوانًا تخطى الحدود التي بين البلدان والتي بين الشعوب والتي بين الطبقات، ولقد اتفق في ذلك الحين، وللمرة الأولى في التاريخ، أن أوروبة أدركت في نفسها وحدة - ولكنها وحدة في وجه العالم الإسلامي. ويمكننا أن نقول من غير أن نوغل في المبالغة أن أوروبة ولدت من روح الحروب الصليبية. لقد كانت ثمة قبل ذلك الزمن أنكلو سكسون وجرمان وفرنسيون ونورمان وإيطاليون ودنماركيون وسلاف ولكن في أثناء الحروب الصليبية ولدت فكرة المدنية الغربية، وأصبحت هدفًا واحدًا تسعى إليه جميع الشعوب الأوروبية على السواء. وكانت تلك المدنية الغربية عداوة للإسلام وقفت عرّابا في هذه الولادة الجديدة.

 

ومن حقائق التاريخ أن أول عمل للوعي الإجماعي -كما يقول- وذلك هو الدستور الثقافي للعالم الغربي، كان يستند إلى دافع تعضده الكنيسة النصرانية بلا قيد ولا استثناء، بينما جميع أنواع الإنتاج التي تلت في الغرب كانت ممكنة فقط بعد ثورة فكرية على كل ما أيدته الكنيسة أو تؤيده. إن ذلك تطور فاجع من وجهة نظر الكنيسة النصرانية ومن وجهة نظر الإسلام كلتيهما. وهو فاجع للكنيسة لأنها فقدت بعد تلك البداءة المدهشة سلطتها على العقل الأوروبي، وهو فاجع للإسلام لأن الإسلام اضطر إلى أن يحمل نار الحروب الصليبية في أشكال كثيرة وتحت أقنعة متعددة سنين متطاولة فيما بعد.

 


 

المصدر:

  1. الإسلام على مفترق الطرق، محمد أسد، ص55
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
إضاءات حول الأعراس وما يجري فيها | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

إضاءات حول الأعراس وما يجري فيها


واجب الشكر على كل رجل وامرأة وفقهما الله في مثل هذه الظروف إلى الزواج ولم الشمل يقتضي التذلل التام والانخلاع عن الحول والقوة وإظهار الفرح المشروع برحمة الله وعدم ارتكاب أي مخالفة مقصودة تعرض هذه الحياة الجديدة والزيجة لخطر مقت الله تعالى.

بقلم: محمد حشمت
503
منهاج السنة.. والسلف المتخيل | مرابط
مقالات

منهاج السنة.. والسلف المتخيل


وعلى هذا فيلزم أن الحق كما يتبين بالدلائل والبراهين عليه فهو يتبين كذلك بأن يتحقق في الواقع في طائفة تتمسك به وتظهره وتعرف به وبذلك يكون للمسلم سلف صالح يقتدي بهم ويهتدي بهديهم وهذا السلف ليس خاصا بالقرون الثلاثة المفضلة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وإنما هو متحقق في كل عصر ظاهر لمن أراد سلوك سبيلهم والالتزام بمنهجهم.

بقلم: عبد الله القرني
411
الاشمئزاز الشافعي من شبهات المتكلمين | مرابط
مناظرات

الاشمئزاز الشافعي من شبهات المتكلمين


في ذيل مناقب الشافعي للبيهقي ذكر مناظرة الإمام الشافعي مع بشر المريسي وفيها أن بشر المريسي سأل الشافعي سؤالين فلما أجابه الشافعي جوابا شافيا عنهما قال بعدها: وإن قلب امرئ لا يشمئز من سؤاليك هذين: لقلب بعيد من بركات اليقين.

بقلم: د. تميم بن عبدالعزيز القاضي
618
شبهة أن نمروذ لم يكن حيا في زمن إبراهيم عليه السلام | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة أن نمروذ لم يكن حيا في زمن إبراهيم عليه السلام


تقول الشبهة أن نمروذ لم يكن حيا في زمن إبراهيم عليه السلام فكيف يتفق ذلك وما جاء في القرآن حيث علمنا أنه ألقى سيدنا إبراهيم عليه السلام في القرآن بينما استنادا إلى بعض المصادر وعلى رأسها الكتاب المقدس نجد أنه لم يكن موجودا بعصر إبراهيم بين يديكم في هذا المقال الرد على الشبهة

بقلم: محمد عمارة
1207
نظرات في فاتحة الكتاب الحكيم الجزء الثاني | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

نظرات في فاتحة الكتاب الحكيم الجزء الثاني


بين يديكم مقالة تحليلية للكاتب محمد عبد الله دراز يتناول فيها فاتحة الكتاب ليخرج لنا الكثير من الكنوز والأسرار واللفتات والإضاءات التي ربما لم نلحظها أو لم ننتبه إليها من قبل فهو لا يتناول السورة بمعزل عن سور القرآن وإنما ينظر إلى مقاصدها وخطابها ومعانيها مقارنة ببقية السور وفي ضوء مقاصد الدين ورسالة الإسلام

بقلم: محمد عبد الله دراز
2682
مختصر قصة التتار الجزء الثاني | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة التتار الجزء الثاني


سلسلة مقالات مختصرة تضع أمامنا قصة التتار وكيف بدأت هجماتهم على بلاد المسلمين وكيف تغيرت الأوضاع في بلادنا الإسلامية إثر هذه الهجمات فانهار المدن وانفتحت البوابات وظهرت شخصيات قيادية وقفت في وجه هذا الإعصار التتري الرهيب سنقف على الكثير من الفوائد والعبر والمواقف الفارقة وسنعرف تاريخ أمتنا وما مرت به من محن فالمستقبل لا يصنعه من يجهل الماضي

بقلم: موقع قصة الإسلام
1510