وقفة مع الفاتحة
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 5]: باجتماع هاتين الكلمتين بطل الشرك كلّه: شرك العبادة لغير الله تعالى، وشرك الاستعانة والاستشفاع بما لم يأذن به الله -سبحانه-. وباجتماع هاتين الكلمتين بطلت العقائد المتطرفة كلها: بطلت عقيدة الجبر المحض الذي ينكر قدرتنا ومسؤوليتنا، وبطلت عقيدة الاختيار المحض الذي يدَّعي الاستغناء عن معونة ربنا؛ فنحن نعمل ونتوكل، نعبد ونستعين.
نعبد أولًا.. ونستعين ثانيًا.. نؤدي واجبنا، ثم نطالب بحقوقنا. ألا فليستمع أولئك الذين لا يفتؤون يطالبون بحقوقهم، ولا يبدؤون بأداء واجباتهم.. إنهم لم يتأدبوا بأدب القرآن.. ألا فليصححوا موقفهم من فاتحة الكتاب، التي يردِّدونها في صلاتهم كلّ يوم سبع عشرة مرة على الأقل.
هكذا عرفنا الله -تعالى- بصنيعه في الآفاق وفي أنفسنا، عرفناه فيما صنع، وفيما يصنع وفيما سوف يصنع، عرفناه بعقولنا وقلوبنا، ثم توجَّهنا إليه -سبحانه- بعزائمنا وبرغائبنا.
هذا الجانب الإلهي: نظريّهُ وعمليّهُ، يمثل نصف المهمّة القرآنية، وقد رأينا كيف جمعَتْه سورة الفاتحة في شطرها الأول.
غير أنَّ الإنسان ليس كائنًا روحيًا محضًا، حتى تكون كلّ رسالته في الحياة أن يتأمَّل في صنع الله -تعالى-، وأن يمتلئ إعجابُه به -سبحانه-، إنَّه كائن مزدوج: عبدٌ لله -تعالى-، وسيد للكون، إنَّه خليفة في الأرض، مسؤول عن عمله في خلافته، كما هو مسؤول عن موقف عبوديته.
الله -تعالى- يخلق ويصنع، والإنسان يعمل ويكتسب: حياته الطبيعيَّة تتقاضاه أن يعمل، وحياته النفسيَّة تتقاضاه أن يعمل، وحياته في أسرته وفي بيئته وفي أُمَّته وفي الأسرة الإنسانية وفي علاقته الروحية، كلّ هذه جميعًا تتقاضاه أن يعمل.
الجانب الإنساني
فلننتقل إلى هذا الجانب الإنساني، إلى عمل الإنسان، هو جانب يتألّف كذلك من عنصرين: عنصر نظري تعليمي، نرى فيه نماذج الأعمال الإنسانية في مختلف صورها؛ جميلها ودميمها، حميدها وذميمها. وعنصر عملي تنفيذي، هو صدى تلك المعرفة، وثمرة تحريكها لعزائمنا.
ولنبدأ بالعنصر النظري: كيف عرض القرآن علينا صور العمل الإنساني؟
إنَّه يتبع في ذلك مَنْهجًا مُزدوجًا، يجمع بين القيم الذاتيَّة والقيم العرضية للأخلاق والسلوك، منهج القيم الذاتية الذي يخاطب الضمير، يدعو إلى الفضيلة باسم الفضيلة، مصورًا ما فيها من جمال واعتدال، وينهى عن الرذيلة باسم الرذيلة، مبينًا ما فيها من دنَس وانحراف.
ومنهج القيم العرَضية الذي يخاطب العاطفة؛ يُرغِّب في الفضيلة، ويُنفِّر من الرذيلة باسم المصلحة الحقيقية، ويحكمُ النَّظر إلى عواقب الأمور وآثارها في العاجل والآجل، ويضرب لذلك الأمثال الكثيرة، ويقصُّ من أجل ذلك السير التاريخية في مختلف العصور.
والعجيب من شأن سورة الفاتحة أنَّها على فرط إيجازها قد انتظمت المنهجين جميعًا في كلمتين! ذلك أنها حين حبَّبت إلينا طريق الفضيلة بيَّنت لنا -أولًا- قيمته الذاتية، فوصفته بالاعتدال والاستقامة: {الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ}[الفاتحة: 6]، ثم بيَّنت ما في عاقبته من نفع وجدوَى، فوصفته بأنَّه الطريق الموصل إلى رضوان الله -تعالى- ونعمته، وأشارت في الوقت نفسه إلى مُثُله التاريخية في سيرة أهله الذين نصَّبوا أنفسهم للقدوة الحسنة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: 7]، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
ثم لم تكتفِ بذلك بل وضعَتْ مِعْيارًا لأنواع الطرق المنحرفة فبيَّنَت أنَّ الانحراف على ضَرْبين: انحراف عن قصد وعلم؛ عنادًا واستكبارًا، واتِّباعًا للهوى، وهذا هو طريق: {المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: 7]، الذين رأوا سبيل الرشد فلم يتخذوه سبيلًا، ورأوا سبيل الغيِّ فاتخذوه سبيلًا. وانحراف عن جهل وطيش، وهذا هو طريق {الضَّالِّينَ}[الفاتحة: 7] الذين لا يتوقفون عند الشكّ، بل يقتفون ما ليس لهم به علم، فيخبطون خبط عشواء، دون تثبُّت ولا تبصُّر.
لا ريب أنَّ كِلا الضَّرْبين مذموم، وإنْ كان بعضهما أسوأ من بعض: العالِم المنحرف مأزور، والجاهل المنحرف غير معذور، والعالِم المستقيم هو المبرور المأجور.
هذه المشارب الثلاثة نجد دائمًا أمثلتها في الناس، لا في الخلق والسلوك فحسب، بل في كلّ شأن من الشؤون: في الاعتقاد، والرأي، والتعليم، والإخبار، والفُتيا، والحكم، والقضاء. وهكذا جاء في الحكمة النبويَّة: «قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار؛ فالقاضي الذي في الجنة رجل عرف الحقّ فقضى به، واللذان في النار رجل عرف الحقّ فقضى بخلافه، ورجل قضى للناس على جهل».
من استحكمت معرفته بهذا الأصل النظري، وتبيَّنَت له مسالك الهدى والاستقامة، ومسارب الاعوجاج والضلالة، ماذا يكون موقفه العملي منها؟
لا ريب أنَّ العاقل الرشيد يلتمس من هذه الطرق أقومها، ويطلب أسلمها، ويتوجه بعزيمته إلى أحسنها.
وهذا الالتماس والطلب والتوجه هو الذي ترجمته لنا سورة الفاتحة في كلمة واحدة: {اهْدِنَا}، اهدنا الصراط المستقيم.
الفاتحة ومقاصد القرآن
وهكذا نرى السورة الكريمة قد انتظمت المقاصد القرآنية الأربعة: الجانب الإلهي نظريّه وعمليّه، والجانب الإنساني نظريّه وعمليّه، كلّ ذلك في أوجز عبارة وأحكم نسق.
سورة الفاتحة إذن هي خريطة القرآن وفهرست موادّه، إنها جوهرة القرآن ونواته ولبُّ لبابه، فهي بحقٍّ (أُمّ القرآن).
كانت هذه هي النظرة الأولى، قارنَّا فيها بين موادّ الفاتحة ومواد القرآن.
الخطاب في الفاتحة والقرآن
وبقيت نظرة ثانية سريعة، نقارن فيها بين أسلوب الخطاب في الفاتحة، وأسلوب الخطاب في القرآن، ماذا نرى في هذين الأسلوبين؟
نرى اتجاهين مختلفين تمام الاختلاف:
فسورة الفاتحة هي السورة الوحيدة، التي وضعت أول الأمر، لا على لسان الربوبيَّة العليا، ولكن على لسان البشريَّة المؤمنة؛ تعبيرًا عن حركة نفسيَّة جماعيَّة مُتطلعة إلى السماء، بينما سائر السور تعبِّر عن الحركة المقابلة، حركة الرحمة المرسلة من السماء إلى الأرض، وهكذا حين ننظر إلى القرآن في جملته نراه يتمثَّل أمامنا في صورة مُناجاة ثنائيَّة، الفاتحة أحد طرفيها، وسائر القرآن طرفها الآخر، الفاتحة سؤال، وباقي القرآن المطلوب.
فلننفذ بهذه النظرة إلى نهايتها، فإنَّها ستعود إلينا بحصيلة ثمينة من العِبَر النفيسة، أول ما نلتقطه من هذه العبر أنَّ القرآن (وهو دستور الإسلام) لو جاءنا بدون الفاتحة لكان دستورًا وافدًا على الأُمَّة، طارئًا عليها، يعرض نفسه عليها عرضًا، أو يفرض عليها فرضًا، أو يمنح لها منحة، فليكن مع ذلك حقًّا كلّه، وخيرًا كلّه، وهدًى كلّه.
لكنه لو لم تطلبه الأمة، ولو لم تعلن حاجتها إليه، لكان لها أن تستقبله كما تستقبل البضاعة المعروضة بغير طلب، وأن تقول له زاهدة فيه: لا حاجة بي إليك، أمّا الآن فالموقف يختلف كلّ الاختلاف.
إنَّ موقع الفاتحة هنا موقع القرار الجماعي الذي تُعلِن به الأُمَّة المؤمنة حاجتها إلى هذا الدستور وتؤكِّد مُطالبتها به، وإنّ موقع القرآن كلّه بعد الفاتحة هو موقع القبول والاستجابة لهذا المطلب، فما هو إلا أن أعلن المؤمنون مَطْلبهم هذا قائلين: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ}[الفاتحة: 6]، وإذا بالقرآن يزفُّ إليهم هديته وهدايته قائلًا لهم: دونكم الهدى الذي تطلبونه، فكانت أول كلمة في القرآن بعد الفاتحة هي: {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة: 2]، وهكذا جاءهم على ظمأ وتعطش، فكان أنفع لغلَّتهم، وكان أكرم في نفسه وعلى الناس مِن أن يتعرَّض للمُعرِضين عنه، أو أن يُلزِم مَن هم له كارهون، وكان فوق ذلك كلّه أقطع لحججهم ومعاذيرهم في إهماله ونسيانه لو أهملوه أو نسوه فيما بعد، ذلك أنَّه لم يُلزِمهم إلا بما التزموا، ولم يجئهم إلا بما طلبوا، وخير الدساتير ما نبع من حاجة الأمَّة، وكان تحقيقًا صريحًا لمطامحها الرشيدة.
لم تكتفِ الأمَّة المؤمنة بأنها طالبت بهذا الدستور، ولكنها اختارت وحدَّدت السلطة التي تقوم بوضع هذا القانون الأساسي، وتوجَّهت بخطابها إلى هذه السلطة نفسها، ونصَّت في صلب قرارها على المؤهلات الممتازة التي كانت سببًا في هذا الاختيار والتحديد، فلقد طلبت أن يكون هذا التشريع من عمل المشروع الأعظم الأكرم، المعروف بخبرته التامَّة في التربية العالمية: {رَبِّ العَالَمِينَ}[الفاتحة: 2]، وبعطفه الشامل على مَطَالب الرعيَّة {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة: 3]، ثم أعلنت في صلب قرارها أنَّ المسؤوليَّة النهائيَّة لجميع السلطات التنفيذيَّة ستكون أمام هذه السلطة التشريعيَّة العليا: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة: 4].
ثم لم تكتفِ الأمَّة المؤمنة بهذا كله، بل إنَّها وضعت الإطار الذي يَلزم أن يقع هذا التشريع في داخل حدوده، ورسمت المبادئ الأساسيَّة التي يجب أن يقوم عليها، فطالبت بأن يكون تشريعًا لا يَميل مع الهوى يَمْنةً أو يَسْرةً، وتشريعًا لا يقوم على فكرة المحاباة لفرد أو لطائفة أو لشعب، ولكن يمثل العدل الصارم، والصراط المستقيم.
وأخيرًا: لم تقنع في وصف هذا التشريع بتلك الأوصاف العامّة والألقاب الكليَّة، بل حدَّدت نموذجه ومثاله من الواقع التاريخي، فطالبت بأن يكون من فصيلة التشريعات الفاضلة المعروفة التي جرّبت فائدتها، وتحقّق حسن عاقبتها، شرعة الذين أنعم الله عليهم بالتوفيق والرشاد.
إذا نظرنا إلى الفاتحة من هذه الزاوية فإنه يحقُّ لنا أن نقول: إنَّ القرآن إذا كان هو الدستور، فالفاتحة هي أساس الدستور.. بل لو صحَّ هذا التعبير، لقلنا إنَّها دستور الدستور.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
المصدر:
- نشرت هذه المقالة في مجلة (المجلة)، العدد 7، ذو الحجة 1376هـ، 1957م