
روى الآجري في الشريعة واللالكائي في شرح الأصول وغيرهما عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال لرجل سأله عن الأهواء:
"عليك بدين الصبي الذي في الكتاب والأعرابي، واله عما سواهما".
وهذا الذي قاله عمر بن عبدالعزيز رحمه الله هو أصل عظيم، وبه يتميز الدين الواضح البين الذي أراده الله من جميع عباده على اختلاف مراتبهم في الفهم عن الشذوذات البدعية التي يدعي أصحابها التفرد بالحق مع مخالفتهم لمحكمات الدين وما يشترك في العلم به المخاطبون الذين لم يتلوثوا بشبهاتهم.
وإلا فكيف يمكن أن يكون مما يقبله عموم المخطابين الذين سلمت فطرهم عن شذوذات المبتدعة أن الإيمان بالله مقيد بما أحدثوه من دليل الحدوث وناقضوا به دلالة الحدوث الفطرية، فزعموا اشتراط إثبات الجواهر والأعراض وما ركبوه بعد ذلك من الاستدلال النظري على حدوثها بمقدمات هي في غاية العسر والإشكال حتى حصل لأذكياهم بسبب خفائها التوقف والحيرة في كثير منها، ثم إذا جاء الكلام في معاني نصوص الصفات جعلوا تلك المقدمات المخالفة للمنهج الفطري حاكمة على النصوص بما يؤدي إلى تأويلها أو تفويضها، بل يصل الأمر إلى تسويغ القول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، مع الجهل بحقيقة ما يؤول إليه هذا الافتراء الشنيع الذي لا يقبله عقل عاقل بقي على الفطرة التي خلقه الله عليها.
وكيف يمكن أن يكون مما يقبله عموم المخاطبين أن تكون قدرة العبد بلا تأثير، وأن يكون المكلف مضطرا في صورة مختار، مع أن الناس يدركون بالضرورة التي يجدونها من نفوسهم أن أفعالهم مترتبة على اختيارهم وما أودعه الله في قدرهم من التأثير، وأنه لا يعقل تكليف وثواب وعقاب مع كسب لا حقيقة له إلا القول بالجبر واستحالة التكليف.
وكيف يمكن أن يكون مما يقبله عموم المخاطبين أن حقيقة الإيمان تدور على التصديق الباطن وأن حقيقة الكفر هي التكذيب، مع ما يعلمونه ضرورة من أن الله تعالى لا يمكن أن يكون قد بعث رسوله صلى الله عليه وسلم لهذه الغاية.
وليتأمل المنصف حال الذين دخلوا في دين الإسلام في عصرنا من ثقافات مختلفة، وكيف أن الخطاب القرآني وما فيه من البراهين التي تخاطب العقل والوجدان كانت هي التي حملهتم على قبول الإسلام والرضا به دينا من بين جميع الديانات التي شابها من التحريف والتشويه ما أخرجها عن الأصل الذي كانت عليه، وما المتوقع من حالهم لو تمت دعوتهم إلى الإسلام بتوسط مقدمات كلامية أصبحت في علوم العصر من النظريات البالية، وتركت مع ما ترك من موروث الفلسفة اليونانية الوثنية.
والبلاء الوبيل أن هذه الأصول الفاسدة المخالفة لمحكمات الدين ومعهود الخطاب الفطري المعقول لم تبق محصورة فيما أحدث في الإسلام من كتب علم الكلام والتصوف، بل قد انتشرت في كثير من التفاسير وشروح الأحاديث مما هو عائق عن فهم الدين على الوجه الذي أراده الله تعالى، وانحراف عن حقيقة البلاغ النبوي الذي هو حجة الله على الناس أجمعين، وأنه لابد لتجديد الدين وإحيائه من كشف بطلان هذه الأصول الفاسدة وإظهار المعاني الصحيحة للنصوص، وبيان أن ذلك هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وما أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم، وما تواتر عليه الفهم والعمل من العلماء المعتبرين الذين لم يقعوا في تلك الشذوذات والشبهات، وأن من أراد السلامة لدينه فليس له إلا أن يتمسك بطريقتهم، ويبقى على الأصل الذي به نزل الخطاب وقامت به الحجة على المخاطبين، ويحذر من كل ما يخالف ذلك.