القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي الجزء الثاني

القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: يوسف سمرين

1471 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

(3)


ومن هنا يحكم مروه بأن الإسلام "جاء تطويرًا لما كان يتحرك في المجتمع الجاهلي من اتجاهه، اجتماعيًا ودينيًا وفكريًا، نحو تغيرات تاريخية" (1)، أما القرآن فيقول فيه: "إن للنص القرآني صفته التاريخية، أي الاستمرارية التطورية لإحدى الظاهرات الموجودة فعلًا في حياة الجاهلية".(2)

إن هذا التحليل جاء في إطار نسق لا يرى وجودًا موضوعيًا لإله حقيقي، إنما جاء باعتبار الإله منتجًا من التصور البشري، ذلك التصور المحكوم بالظرف الاقتصادي في المقام الأول، ويعبر عن طموحٍ هو بناءٌ فوقي لهدف اقتصادي تحتي، وهذه النظرة الميكانيكية، والوضعية للمجتمع، تجعله يحصر التأثير في التاريخ الإسلامي بالمجتمع الذي يشكل العامل الاقتصادي أساسه الأول.

على أي حال هذه النظرة مجرد اختزال في العامل الاقتصادي، ولا يرتضيها حتى بعض الماركسيين الذين يتفقون مع مروه على نفي الإله، يقول صادق جلال العظم "النزعة الاقتصادية: ومن المعروف أن خطر هذه النزعة يكمن في أنها تؤدي إلى الذيلية بحيث يصبح قسم من التركيب الاجتماعي العام (البنية الفوقية) وكأنه مجرد تابع ميكانيكي سلبي وغير فعال لقسم آخر (البنية التحتية) من التركيب نفسه".(3)

3-التوجهات الليبرالية: ترى في نظرتها إلى التاريخ أن المعايير الأخلاقية الليبرالية هي الأساس لمعيار الصواب وأنها مطلقة في كل عصر، ومن هنا فإنها تنظر بعين الإدانة لما لا يتفق التوجهات الليبرالية، ويجري تقييم الوقائع التاريخية المناقضة للمعايير الليبرالية على أنها جرائم، ومن هنا تكون القراءة التاريخية لتلك الأحداث بإرجاعها رأسًا إلى الطغيان السياسي، والخلافات العرقية، ونحو هذا، وفق هذا المسلك يجري اعتبار قتل المرتدين مثًلا على أنه في إطار "تصفيات بالجملة وتذرّع بالدين"(4)، ويجري التعامل مع المقتولين على أنهم ضحايا طغيان سياسي (5)، بدون أي افتراض بأن قانون الحكم في التاريخ الإسلامي جرى عليهم، وبالتالي يتم صبغ هؤلاء المقتولين بما لم يخطر لهم على بال، بأن آراءهم العقدية كانت جزءًا من مقاومة الطغيان السياسي، وأنهم شهداء الكلمة، وحرية الفكر، واعتبار هؤلاء كأنهم مقاتلون في سبيل الحرية بمفهومها الليبرالي، في تجاوز لحقيقة أطروحاتهم العقدية التي لو انتصرت في معاركها لأباد أنصارها خصومهم من منطلقات إدانة دينية.

هذه بعض الأمثلة على النظرة الكونية لفلسفات علمانية في نظرتها إلى التاريخ الإسلامي، أما على صعيد الإطار التحليلي والتفكيكي، الذي جاء على أثر انهيار الفلسفات الكونية فيما عرف بما بعد الحداثة، فمن روادها ميشيل فوكو، الذي كان يرى أن الأفكار نتاج المجتمع، والعقل يتحرّك داخل المفاهيم التي يستعملها مجتمع ما، بحيث إن عارض شخص ما تلك المفاهيم لم يكن ممكنًا وصف موقفه بالعادل مهما كان، كون العدالة مفهوم مأخوذة من المجتمع نفسه الذي يعارضه، إنما الأمر سلطة في مواجهة سلطة أخرى .(6)

 

(4)

وقد تم اعتماد منهج فوكو في قراءة التاريخ الإسلامي من محمد أركون، حيث يرى أن نزاع السُّلطات في التاريخ هو التي شحن النصوص الشرعية بدلالاتها، فهو الذي صنع كثيرًا مما وصف بالعلوم الشرعية، وعن طريقه تمت "بلورة الشريعة" (7)، فالشريعة المنظور إليها على أنها حكم إلهي ليست في النهاية سوى نتاج السلطات المنتصرة المتعاقبة.
فكل سلطة شكلت فرقة دينية، افترضت أن الحقيقة المطلقة واحدة لا تتجزأ(8)، وفي تصويرها لهذا، قامت بالنزاع مع السلطات الأخرى التي ادعت نفس الادعاء، وهمشتها، وقامت بحذف التراث المنافس الذي يشمل التاريخ، فتم حذف ما لم يحظ بدعامتين أساسيتين:
1-الدولة الرسمية.
2-الكتابة.

ومن هنا أبقت على تفسيرها للنصوص الذي لم يكن في الواقع سوى ما أنتجه تلك السلطة(9)، ليشكل بنفسه سلطة على غيره، لقد كانت الفرق تتصارع على التاريخ والتراث لتضمن له "السيادة العليا للتبرير، تبدو بالنسبة للمحكومين شيئًا مقدّسًا متعاليًا على السلطة السياسية المقتنصة عن طريق القوة من قبل أحد الفريقين".(10)

ومن هنا فهو يقوم بتحليل وتفتيت ما يَعتبر أنه في أذهان كثيرين لم يفكر فيه بعد (11)، ويقوم بتحطيم الهالة الكونية للأفكار التي زعمت صحتها المطلقة بكشف جذورها السلطوية عبر الصراع التاريخي الطويل، إن هذا يعني في مجمله أنه لا حقيقة مطلقة، وأن التاريخ الإسلامي إنما كتبته سلطات متنازعة انتصرت ومررت رؤيتها عبر الكتابة، ولا يمكن رفع ذلك التاريخ المسجل إلى مصاف اعتباره الحقيقة الثابتة، بقدر كونه معبرًا عن رواية رغب المنتصر في إظهارها، كما أن لهذا دلالته في النصوص الشرعية، بأنها مفتوحة على احتمالات وقراءات كثيرة، والإبقاء على معنى واحدٍ إنما هو سلطة في مواجهة غيرها، أو أنه خضوع لمنظومة صنعتها سلطات سابقة، وبهذا تكون النظرة إلى التاريخ الإسلامي مفرغة من أي دعاوى تمجيد أو أدانة، فلا تحمل في دلالتها صيغة الإطلاق، كما إنه يجعل الشريعة مجرد منظومات متنوعة تمت بلورتها عبر التاريخ، لا أنها منهجيات علمية للكشف عن معاني النصوص الشرعية.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، ص457.
  2. النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، ص457.
  3. نقد الفكر الديني، صادق جلال العظم، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت لبنان، الطبعة الثانية: 1970م، ص11.
  4. حرية الاعتقاد في الإسلام ومعترضاتها: القتال، الذمة، الجزية، وقتل المرتد، عدنان إبراهيم، معهد الاستشراق، جامعة فيينا-النمسا، إشراف: روديغر لولكار، ص1131.
  5. انظر: حرية الاعتقاد في الإسلام ومعترضاتها، 1144.
  6. انظر: تناقضات منهجية، يوسف سمرين، مركز دلائل، الرياض-المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى: 1438هـ، ص10.
  7. من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى: 1991م، ص69.
  8. انظر: الفكر الإسلامي؛ قراءة علمية، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية: 1996م، ص25.
  9. انظر: الفكر الإسلامي؛ قراءة علمية، ص24.
  10. تاريخية الفكر العربي والإسلامي، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية: 1996م، ص18.
  11. انظر: تاريخية الفكر العربي والإسلامي، ص9.

 

المصدر:

https://josefsimrin.blogspot.com/2018/07/blog-post_2.html

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العلمانية #التاريخ-الإسلامي
اقرأ أيضا
شبهات حول الحجاب: الحجاب شريعة رجعية ج1 | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات المرأة

شبهات حول الحجاب: الحجاب شريعة رجعية ج1


كثيرا ما طرق آذان المسلمات قول صارخ منتفش ودعوى فجة مغرورة أن مطالبة المرأة العربية بارتداء الحجاب في القرن الواحد والعشرين حيث تطور العالم وبلغ في ابتكاراته العلمية الذروة وتطور المجتمع وأصبح أكثر انفتاحا ونضجا لهو دعوة صريحة إلى الانتكاس والعودة إلى القرون الوسطى عصور الظلام

بقلم: سامي عامري
1079
اللغة وتفكك العالم العربي | مرابط
اقتباسات وقطوف لسانيات

اللغة وتفكك العالم العربي


إن الحرب التي تتعرض لها اللغة العربية ومحاولات طمسها وتحويلها إلى العامية ما هي إلا أقنعة تخفي وراءها الكثير من الأهداف السياسية والاستعمارية والثقافية والفكرية سواء علم القائمون عليها ذلك أم جهلوه وهذا مقتطف من محمود شاكر في كتاب أباطيل وأسمار

بقلم: محمود شاكر
2239
لشد ما اجترأت المرأة في هذا العصر | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

لشد ما اجترأت المرأة في هذا العصر


مقتطف للأستاذ محمود شاكر يعلق فيه على اجتراء المرأة في العصر الحديث ويقف على معنى الحرية التي تعنيها المرأة ونظرتها التي لا تخلو من الجور إلى الرجل ومآلات هذه النظرة إذا وصلت إلى كل بيت من بيوت المسلمين وإذا سمعتها كل واحدة من النساء ومالت إليها

بقلم: محمود شاكر
1867
هذا مخالف للعلم الجزء الأول | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

هذا مخالف للعلم الجزء الأول


من المقولات التي شاع استعمالها في العصر الحديث والتي أدت بكثير من الناس إلى معارضة جملة من الأخبار الشرعية دعوى مخالفتها للعلم المعاصر فهي مقولة تشابه إلى حد ما مقولة لا يقبله العقل لكن الفرق أن طرف المعارضة هنا هو العلم بدلا من العقل وفي هذا المقال مناقشة دقيقة لهذا القول ولمذهب أصحابه

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2272
صيد الخاطر | مرابط
مناقشات

صيد الخاطر


أعدت قراءة صيد الخاطر في الأسابيع الماضية بشكل متقطع. ولكن بتمعن أو بالأحرى بعين أخرى غير تلك التي قرأت الكتاب قبل سنوات عين جديدة نسبيا وبأسئلة جديدة أكثر راهنية وأقل تجريدا. وصيد الخاطر لابن الجوزي من الكتب التي تستحق التكرار في مراحل عمرية مختلفة. وهو يقدم للقارئ خلاصات علمية وحصيلة تجارب وتأملات وخبرات حياتية شديدة الأهمية.

بقلم: عبد الله الوهيبي
259
المذاهب والفرق المعاصرة: المرجئة ج1 | مرابط
تفريغات

المذاهب والفرق المعاصرة: المرجئة ج1


ظهرت طائفة في آخر أزمنة الصحابة أو بعدهم أضعفت من منزلة العمل وبدأت المسألة بشكل بسيط بدأت بخلاف نظري في مفهوم العمل هل هو داخل في حقيقة الإيمان أو غير داخل في حقيقة الإيمان فإنه بعد فتنة ابن الأشعث وبعد مصائب الحجاج بن يوسف الثقفي وهو والي بني أمية على العراق وبعد ظهور الخوارج وتعظيمهم لجانب العمل وتكفيرهم المسلمين بالكبائر ونحو ذلك بعد هذه الأحداث ظهرت طائفة من الفقهاء في الكوفة وأخرجوا العمل عن مسمى الإيمان كان منهم حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة وغيره من أهل الكوفة الذين قالوا: إن الع...

بقلم: عبد الرحيم السلمي
737