القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي الجزء الثاني

القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: يوسف سمرين

1361 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

(3)


ومن هنا يحكم مروه بأن الإسلام "جاء تطويرًا لما كان يتحرك في المجتمع الجاهلي من اتجاهه، اجتماعيًا ودينيًا وفكريًا، نحو تغيرات تاريخية" (1)، أما القرآن فيقول فيه: "إن للنص القرآني صفته التاريخية، أي الاستمرارية التطورية لإحدى الظاهرات الموجودة فعلًا في حياة الجاهلية".(2)

إن هذا التحليل جاء في إطار نسق لا يرى وجودًا موضوعيًا لإله حقيقي، إنما جاء باعتبار الإله منتجًا من التصور البشري، ذلك التصور المحكوم بالظرف الاقتصادي في المقام الأول، ويعبر عن طموحٍ هو بناءٌ فوقي لهدف اقتصادي تحتي، وهذه النظرة الميكانيكية، والوضعية للمجتمع، تجعله يحصر التأثير في التاريخ الإسلامي بالمجتمع الذي يشكل العامل الاقتصادي أساسه الأول.

على أي حال هذه النظرة مجرد اختزال في العامل الاقتصادي، ولا يرتضيها حتى بعض الماركسيين الذين يتفقون مع مروه على نفي الإله، يقول صادق جلال العظم "النزعة الاقتصادية: ومن المعروف أن خطر هذه النزعة يكمن في أنها تؤدي إلى الذيلية بحيث يصبح قسم من التركيب الاجتماعي العام (البنية الفوقية) وكأنه مجرد تابع ميكانيكي سلبي وغير فعال لقسم آخر (البنية التحتية) من التركيب نفسه".(3)

3-التوجهات الليبرالية: ترى في نظرتها إلى التاريخ أن المعايير الأخلاقية الليبرالية هي الأساس لمعيار الصواب وأنها مطلقة في كل عصر، ومن هنا فإنها تنظر بعين الإدانة لما لا يتفق التوجهات الليبرالية، ويجري تقييم الوقائع التاريخية المناقضة للمعايير الليبرالية على أنها جرائم، ومن هنا تكون القراءة التاريخية لتلك الأحداث بإرجاعها رأسًا إلى الطغيان السياسي، والخلافات العرقية، ونحو هذا، وفق هذا المسلك يجري اعتبار قتل المرتدين مثًلا على أنه في إطار "تصفيات بالجملة وتذرّع بالدين"(4)، ويجري التعامل مع المقتولين على أنهم ضحايا طغيان سياسي (5)، بدون أي افتراض بأن قانون الحكم في التاريخ الإسلامي جرى عليهم، وبالتالي يتم صبغ هؤلاء المقتولين بما لم يخطر لهم على بال، بأن آراءهم العقدية كانت جزءًا من مقاومة الطغيان السياسي، وأنهم شهداء الكلمة، وحرية الفكر، واعتبار هؤلاء كأنهم مقاتلون في سبيل الحرية بمفهومها الليبرالي، في تجاوز لحقيقة أطروحاتهم العقدية التي لو انتصرت في معاركها لأباد أنصارها خصومهم من منطلقات إدانة دينية.

هذه بعض الأمثلة على النظرة الكونية لفلسفات علمانية في نظرتها إلى التاريخ الإسلامي، أما على صعيد الإطار التحليلي والتفكيكي، الذي جاء على أثر انهيار الفلسفات الكونية فيما عرف بما بعد الحداثة، فمن روادها ميشيل فوكو، الذي كان يرى أن الأفكار نتاج المجتمع، والعقل يتحرّك داخل المفاهيم التي يستعملها مجتمع ما، بحيث إن عارض شخص ما تلك المفاهيم لم يكن ممكنًا وصف موقفه بالعادل مهما كان، كون العدالة مفهوم مأخوذة من المجتمع نفسه الذي يعارضه، إنما الأمر سلطة في مواجهة سلطة أخرى .(6)

 

(4)

وقد تم اعتماد منهج فوكو في قراءة التاريخ الإسلامي من محمد أركون، حيث يرى أن نزاع السُّلطات في التاريخ هو التي شحن النصوص الشرعية بدلالاتها، فهو الذي صنع كثيرًا مما وصف بالعلوم الشرعية، وعن طريقه تمت "بلورة الشريعة" (7)، فالشريعة المنظور إليها على أنها حكم إلهي ليست في النهاية سوى نتاج السلطات المنتصرة المتعاقبة.
فكل سلطة شكلت فرقة دينية، افترضت أن الحقيقة المطلقة واحدة لا تتجزأ(8)، وفي تصويرها لهذا، قامت بالنزاع مع السلطات الأخرى التي ادعت نفس الادعاء، وهمشتها، وقامت بحذف التراث المنافس الذي يشمل التاريخ، فتم حذف ما لم يحظ بدعامتين أساسيتين:
1-الدولة الرسمية.
2-الكتابة.

ومن هنا أبقت على تفسيرها للنصوص الذي لم يكن في الواقع سوى ما أنتجه تلك السلطة(9)، ليشكل بنفسه سلطة على غيره، لقد كانت الفرق تتصارع على التاريخ والتراث لتضمن له "السيادة العليا للتبرير، تبدو بالنسبة للمحكومين شيئًا مقدّسًا متعاليًا على السلطة السياسية المقتنصة عن طريق القوة من قبل أحد الفريقين".(10)

ومن هنا فهو يقوم بتحليل وتفتيت ما يَعتبر أنه في أذهان كثيرين لم يفكر فيه بعد (11)، ويقوم بتحطيم الهالة الكونية للأفكار التي زعمت صحتها المطلقة بكشف جذورها السلطوية عبر الصراع التاريخي الطويل، إن هذا يعني في مجمله أنه لا حقيقة مطلقة، وأن التاريخ الإسلامي إنما كتبته سلطات متنازعة انتصرت ومررت رؤيتها عبر الكتابة، ولا يمكن رفع ذلك التاريخ المسجل إلى مصاف اعتباره الحقيقة الثابتة، بقدر كونه معبرًا عن رواية رغب المنتصر في إظهارها، كما أن لهذا دلالته في النصوص الشرعية، بأنها مفتوحة على احتمالات وقراءات كثيرة، والإبقاء على معنى واحدٍ إنما هو سلطة في مواجهة غيرها، أو أنه خضوع لمنظومة صنعتها سلطات سابقة، وبهذا تكون النظرة إلى التاريخ الإسلامي مفرغة من أي دعاوى تمجيد أو أدانة، فلا تحمل في دلالتها صيغة الإطلاق، كما إنه يجعل الشريعة مجرد منظومات متنوعة تمت بلورتها عبر التاريخ، لا أنها منهجيات علمية للكشف عن معاني النصوص الشرعية.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، ص457.
  2. النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، ص457.
  3. نقد الفكر الديني، صادق جلال العظم، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت لبنان، الطبعة الثانية: 1970م، ص11.
  4. حرية الاعتقاد في الإسلام ومعترضاتها: القتال، الذمة، الجزية، وقتل المرتد، عدنان إبراهيم، معهد الاستشراق، جامعة فيينا-النمسا، إشراف: روديغر لولكار، ص1131.
  5. انظر: حرية الاعتقاد في الإسلام ومعترضاتها، 1144.
  6. انظر: تناقضات منهجية، يوسف سمرين، مركز دلائل، الرياض-المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى: 1438هـ، ص10.
  7. من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى: 1991م، ص69.
  8. انظر: الفكر الإسلامي؛ قراءة علمية، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية: 1996م، ص25.
  9. انظر: الفكر الإسلامي؛ قراءة علمية، ص24.
  10. تاريخية الفكر العربي والإسلامي، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية: 1996م، ص18.
  11. انظر: تاريخية الفكر العربي والإسلامي، ص9.

 

المصدر:

https://josefsimrin.blogspot.com/2018/07/blog-post_2.html

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العلمانية #التاريخ-الإسلامي
اقرأ أيضا
دور محمد علي الجزء الأول | مرابط
تاريخ مقالات

دور محمد علي الجزء الأول


لقد لعب محمد علي دورا بارزا في إحكام السيطرة على الحالة الإسلامية في مصر وفي العالم الإسلامي بشكل عام عندما استطاعت فرنسا أن تحتويه وتوفر له كل الإمدادات اللازمة حتى يحقق أهدافها في بلادنا وكان على رأس هذه الأهداف الانفصال عن الدولة العثمانية والمساهمة في إضعافها بشتى الطرق والهدف الهام الثاني هو بداية التغريب وسحق الروح الإسلامية المتبقية وفي هذا المقال يقف بنا المؤلف على محاور هذا الموضوع كلها وما يتفرع عنها وما نتعلمه منها من دروس الهدف هنا أن ندرك ما حدث في بلادنا حتى نفهم كيف وصلنا إلى...

بقلم: محمد قطب
2105
امرأة عمران تبني بيتا | مرابط
تفريغات

امرأة عمران تبني بيتا


لقد وردت أيتها الأخوات الكريمات سيرة المرأة في القرآن الكريم في عدة مواضع دالة على ما أولاه هذا الدين لهذه المرأة وعلى ما أعطاها من الرعاية والاهتمام البالغين انظرن مثلا في هذه القصص التي نسردها الآن مع بعض تحليلات وذكر للعبر منها.. إن على رأسها قصة امرأة عمران التي تطالعنا في سورة آل عمران شخصية المرأة المسلمة.. المرأة المؤمنة التي تبدأ في تكوين البيت المسلم بداية من الحمل.

بقلم: محمد المنجد
265
من مكايد الشيطان: الفتنة بالقبور وأهلها ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

من مكايد الشيطان: الفتنة بالقبور وأهلها ج2


مقال تأصيلي محكم حول مسألة القبور والأضرحة وما وقع فيه عوام المسلمين من المفاسد العظيمة في تعظيم هذه القبور والتمسح بها والدعاء عندها والصلاة إليها بل وحتى الحج إليها واعتقاد أن أصحابها يملكون نفعا وضرا وسعادة وشقاء وعزة وذلا وغير ذلك من الأمور التي لا يملكها إلا الله وحده.. وهذا التأصيل مقتطف من كتاب إغاثة اللهفان لابن القيم وفيه رد على كل الشبهات المحيطة بهذا الموضوع وتبيين للعقيدة الصحيحة في هذا الباب.

بقلم: ابن القيم
416
إبراهيم عليه السلام يحاجج النمرود | مرابط
اقتباسات وقطوف

إبراهيم عليه السلام يحاجج النمرود


لم يكن إبراهيم بذلك الرجل يناقش الضعفاء والعامة ويترك الأقوياء والكبراء وإنما كان يثبت الحق عند الجميع لم يكن ليخاف في الله لومة لائم ولذلك لما وصلت القضية إلى النمرود قام إبراهيم لله بالحجة بين يديه فأمره ونهاه وقام لله بالحجة على هذا الطاغية

بقلم: محمد المنجد
603
هل الإسلام دين هش لنخشى عليه من الشبهات؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

هل الإسلام دين هش لنخشى عليه من الشبهات؟


فعامة الناس والشباب معهم إيمان مجمل قد تزعزعه رياح الشبهات إذا لم يتيسر له متخصص أو مطلع يزيل أشباحها عنه ولذلك يفترض أن يكون السؤال معكوسا فالسؤال ليس: لماذا نخاف على غير المتخصصين من الشبهات؟ بل السؤال: لماذا نخاطر بإيمان غير المتخصصين والمطلعين من أجل شعارات الثقافة الغالبة؟

بقلم: إبراهيم السكران
382
الدفاع عن السنة الجزء الرابع | مرابط
تفريغات

الدفاع عن السنة الجزء الرابع


النبي عليه الصلاة والسلام لما جاء بدين الله عز وجل قال له ورقة هذه الكلمة التي تعد من أصدق ما قاله إنسان جاء النبي فخالف كثيرا من أعراف العرب وأهواء الجاهلية ولذلك رموه عن قوس واحدة وجاء يقول لهم: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا فأبت العرب أن تقول هذه الكلمة ورضيت أن تدخل في حروب دمرت اقتصادياتها وقتلت أشراف الناس فيها وسبيت النساء وكان العرب أصحاب غيرة إذا هم فهموا معنى: لا إله إلا الله وما معنى أن يقول الواحد منهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله

بقلم: أبو إسحق الحويني
674